القرآن والقياس المنطقي


 

القرآن والقياس المنطقي

 

القياس هو لب المنطق وقاعدته الكبرى وما القواعد الأخرى إلا كالتمهيد والتوطئة أو كالتطبيقات المترتبة عليه، وقد حظي القياس المنطقي باهتمام المناطقة وعلماء المنهج نظرا لقيام البراهين العلمية وحتى الجدل وكل أشكال الاستدلال عليه فهو كالصورة بالنسبة لها وهو الميزان الذي يمكن من خلاله معرفة صحة البراهين والأدلة والنظر في حجج الخصم لتأييدها أو إبطالها وقد أمرنا الله - تعالى -في كتابه العزيز قائلاً: ((وزنوا بالقسطاس المستقيم)) وقال - تعالى -((الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)) فهل المقصود بالوزن بالقسطاس المستقيم هنا استعمال موازين البر والشعير وهل المقصود بالميزان المقرون بالكتاب المنزل ذلك الميزان المادي فقط أم شيء آخر أعم من ذلك وأشرف؟

يقول أبو حامد الغزالي: ((أتظن أن الميزان المقرون بالكتاب هو ميزان البر والشعير والذهب والفضة؟! أو تعتقد أن الميزان المقابل وضعه برفع السموات والأرض هو الطيار والقبطان (نوعان من الموازين المادية)؟! ما أبعد هذا عن الحسبان وما أعظم هذا البهتان!! فاتق الله ولا تشطط ولا تعسف في التأويل واعلم أن هذا الميزان هو ميزان معرفة الله - تعالى -ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وملكه وملكوته)) (القسطاس المستقيم للغزالي: 14-15)..

 

ومن ثم شرع الغزالي - رحمه الله تعالى -في استنباط أشكال القياس وصوره من القرآن الكريم فكانت تلك المحاولة الفريدة:

أ- فاستنبط الشكل الأول من قوله - تعالى -: ((قَالَ إِبرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأتِي بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ المَغرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ))

وسماه الميزان الأول من موازين التعادل، وقال إنه في قوة:

كل من يقدر على إطلاع الشمس فهو إله (أصل معلوم بالوضع والاتفاق)

وإلهي هو القادر على إطلاع الشمس (أصل معلوم بالمشاهدة).

---------

إلهي هو الإله دونك

وقال إن ذلك هو ما أثنى به الله - تعالى -على إبراهيم الخليل - عليه السلام - بقوله: ((وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم))..

 

ب- واستنبط الشكل الثاني وسماه الشكل الثاني من موازين التعادل من قوله - تعالى -: ((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأَى كَوكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبٌّ الآفِلِينَ))

وقال إنه في قوة:

الكوكب آفل (معلوم بالحس)

والإله ليس بآفل (معلوم بالنظر)

-------

الكوكب ليس بإله (القسطاس: 28)

وكذلك قوله - تعالى -((قُل فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَل أَنتُم بَشَرٌ مِمَّن خَلَقَ)) وقوله - تعالى -((قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين))..

 

 

ج- واستبنط الشكل الثالث من قوله تعالى((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ إِذ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ, مِن شَيءٍ, قُل مَن أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ.. ))

ويرى أن وجه الوزن بهذا الميزان أن تقول:

موسى - عليه السلام - من البشر (أصل معلوم بالحس)

موسى - عليه السلام - أنزل عليه الكتاب (معلوم باعترافهم)

------

بعض البشر أنزل عليه الكتاب.

ويبطل بذلك دعواهم العامة بأنه لا ينزل الكتاب على بشر أصلا (انظر القسطاس: 32-33).

 

د- واستنبط الميزان الرابع أو الشرطي المتصل من قوله - تعالى -: ((لَو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)) وقوله - تعالى -((قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا))

قال إن تحقيق صورة هذا الميزان أن تقول:

لو كان للعالم إلهان لفسد

ومعلوم أنه لم يفسد

فيلزم عنه نفى أحد الإلهين (انظر القسطاس: 35-38).

 

هـ- واستنبط الميزان الخامس أو الشرطي المنفصل من قوله - تعالى -((قُل مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلَى هُدًى أَو فِي ضَلَالٍ, مُبِينٍ,))

ثم قال: لم يذكر ((وإنا أو إياكم)) في معرض التسوية والتشكيك بل فيه إضمار أصل آخر وهو: لسنا على ضلال فى قولنا إن الله يرزقكم من السماء والأرض فإذن أنتم الضالون بإنكاركم ذلك (انظر القسطاس: 40)..

 

لا شك أن محاولة مقارنة القرآن الكريم بغيره من أساليب الناس وعباراتهم لا نهدف منها إلى القول بأن القرآن قد بلغ الذروة في مجال البرهنة والاستدلال فقط بل إنها لتوضح لنا كذلك الفرق الشاسع بين كلام رب العالمين وكلام المخلوقينº كيف يجمع القرآن بكل سلاسة وروعة بين دقة الاستدلال المنطقي وروعة البيان وتقريب المعنى للأذهان!!

إن الواحد منا ليشعر بالملل والضيق والتبرم كلما نظر في كتب العلم أو الفلسفة لما تحويه من جفاف العبارة وتكلف ووعورة، كما يشعر بأنه بإزاء التعرض لمحاولة سطو فكرى وخداع وتضليل لا يدرى بماذا يتقيه عندما يقرأ كتابًا من كتب الأدب.

إن أحد الفريقين لم يتمكن بل ولا يحاول أبدا أن يجمع بين القيمتين الحق والجمال فضلا عن قيمة الخير والهداية والتي اجتمعت كلها في القرآن الكريم..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply