الظواهر الأسلوبية في القرآن ظاهرة القسم المسبوق بلا النافية


بسم الله الرحمن الرحيم  

من الظواهر الأسلوبية الملفتة للنظر في البيان القرآني ظاهرة مجيء الفعل(أقسم) بعد (لا) النافية في نحو قوله - تعالى -:  {فلا أقسم بمواقع النجوم* وإنه لقسم لو تعلمون عظيم* إنه لقرآن كريم* في كتاب مكنون* لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 75 79].

وقد اختلف علماء النحو والتفسير في تفسير هذه الظاهرة الأسلوبية، والتعليل لها على أقوال أشهرها: أن أصل الكلام: فأقسم بمواقع النجوم، وأن(لا) أدخلت زائدة بين الفاء، والفعل(أقسم)º لتأكيد القسم. ويطلق عليها بعضهم مصطلح: صلة. وهذا يعني أن دخولها في الكلام، وخروجها منه سواء..وعلى القولين يكون معنى الآية الكريمة على إسقاطها.ومنهم من ذهب إلى أنها لنفي القسم.

والمستقرىء للآيات القرآنية التي جاء فيها الفعل(أقسم) مسبوقًا بـ(لا) النافية، يجد أن الفعل فيها مسند إلى الله - تعالى -، لا إلى غيره، كما هو ظاهر في الآية السابقة، ومثلها قوله - تعالى -: { لا أقسم بيوم القيامة} – {لا أقسم بهذا البلد}. فالمتكلم في ذلك، ونحوه هو الله - جل وعلا -، وكلامه - سبحانه - منزَّهٌ من العبث والزيادة، التي ينسبها إليه جمهور المفسرين، والنحويين بحجة التأكيد. وفي ذلك إشارة إلى أن الله - تعالى -، إن شاء أن يقسم على شيء، أقسم عليه بما شاء من مخلوقاته، وإن لم يشأ، لم يقسم بشيء من ذلكº لأنه - جل وعلا - ليس بحاجة إلى أن يقسم على شيء احتياج العبد إلى ذلك. هذا أولاً.

وأما ثانيًا: فإن تدبر معاني هذه الآيات، التي جاء فيها الفعل(أقسم) مسبوقًا بـ(لا) النافية، ثم تدبر معاني غيرها من الآيات التي جاء فيها القسم مثبتًا، يهدينا إلى أن المقسَم عليه في الآيات الأولى هو من الأمور الثابتة، التي لا يتطرق إليها الشك، أو الظن، خلافًا للمقسَم عليه في الآيات الثانيةº لأنه من الأمور، التي تكون موضع شك، أو ظن من قبل المخاطب.

وهذا النوع الثاني هو الذي يكون بحاجة إلى أن يقسَم عليه، دفعًا لمظنة اتهام، أو إزاحة للشك. ومثاله قول الله - عز وجل -: { فوربك لنحشرنهم والشياطين }[مريم: 68]- { والنجم إذا هوى* ما ضل صاحبكم وما غوى }[النجم: 1- 2]. ونحو ذلك كثير، والغرض منه تأكيد المقسَم عليه، وتثبيته في النفوسº لأن المخاطب في شك منه.

أما النوع الأول- وهو موضوع بحثنا- فهو من الأمور اليقينية الثابتة، التي لا تحتاج إلى أن تؤكد بالقسم. فكأن الله جل جلاله يقول في آيات الواقعة: لا أقسم بمواقع النجوم- على عظمتها- على أن هذا القرآن كريمٌº لأن كون القرآن العظيم كريمًا أظهر من أن يُقسَم عليه، لأن ذلك من الحقائق الثابتة، التي لا يتطرق الشك إليها أبدًا.. فالمقام- إذًأ- لا يحتاج إلى قسم، فضلاً عن أن الذي يتكلم هو الله - جل وعلا -.

ولهذا لمَّا سمع أعرابيٌ قول الله - تعالى -:  { وفي السماء رزقكم وما توعدون* فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون} [الذاريات: 22- 23]، صاح قائلاً: يا سبحان الله! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يصدقوه بقوله، حتى ألجئوه إلى اليمين

فتأمل قول هذا الأعرابي، الذي أدرك بفطرته السليمة أن الأمر لا يحتاج إلى القسمº لأنه أظهر من أن يُقسَم عليه.

وبهذا يظهر لنا الفرق بين القسم المثبت، والقسم المسبوق بـ(لا) النافية. وفي بيان هذا الفرق قالت الدكتورة عائشة عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطىء: ” وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون(لا) لنفي القسم- كما قال بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم، كما يهدي إليه البيان القرآني “.

وأضافت قائلة: ” ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد، والتقريرº لأنه يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام... والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى الانتباه. وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى القسم، فنقول لمن نثق فيه: لا تقسم. أو: من غير يمين، مقررين بذلك أنه موضع ثقتنا، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا “.

وقد يأتي النهي عن القسم من المتكلم لعلمه بأن المقسِم كاذب في قسمهº ونحو ذلك قوله - تعالى -:{ واقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن }[النور: 53]. ولهذا أمر الله - تعالى -نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن ينهاهم عن هذا القسم، لعلمه - سبحانه - بنفاقهم، فقال جل شأنه: { قل لا تقسموا }[النور: 53].

وأما من ذهب إليه بعض النحاة والمفسرين من أن(لا) هذه نفيٌ لكلام تقدم ذكره فمدفوع بإجماع القرَّاء على أن(لا) موصولة بالفعل(أقسم). وجعلها ردًّا لكلام سبقن يقتضي القراءة على وجوب الفصل بينها، وبين الفعل، فضلاً عما يبدو فيه من غرابة.. ولو كان ما قالوه صوابًا، وجب الفصل بينهما يواو القسم، كما وجب أن يكون جواب القسم منفيًّا. يدل على ذلك قوله - تعالى -:  {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ويسلموا تسليمًا}[النساء: 65]. ونحو ذلك قول عائشة - رضي الله عنها -: ” لا والله ما مسَّت يدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدَ امرأة قطٌّ “.

وأما ما ذهب إليه بعضهم من أن(لا) هنا هي أداة تنبيه، وأن أصلها(ألا) فهو قول غريب عجيب، وأغرب منه، وأعجب قول من قال: إنها لام الابتداء أُشبِعت حركتها، فتولَّدت عنها ألفٌ.. والأعجب من ذلك كله أن يتبنَّى هذا القول عالم جليل كأبي حيان الأندلسي، على أنه أولى الأقوال بالصواب. ونصٌّ قوله في ذلك: ” والأولى عندي أنها لام أشبعت حركتها، فتولدت منها ألفº كقوله: أعوذ بالله من العقراب “.

ولا يخفى ما في ذلك كله من تكلٌّف على ذوي البصائر بكلام الله - تعالى -، وإدراك أسراره. اللهم اجعلنا من الذين يفقهون قولك، ويدركون أسرار بيانك. والحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، حمدًا بعدد كلماته التي لا تنفد، وصلى الله - تعالى -على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply