نداءات الرحمن لأهل الإيمان


 بسم الله الرحمن الرحيم

أتى رجل إلى عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - فقال: أوصني، فقال: إذا سمعت الله - عز وجل - يقول في كتابه: ( يا أيها الذين آمنوا البقرة: 104)، فأصغ لها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تصرف عنه(1).

قال الله - تعالى -: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم )

كان أناس من اليهود إذا أرادوا مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا له: راعنا(2) على سبيل التهكم، يقصدون به رميهُ بالرعونة(3)، وهي بمعنى الحمق والاسترخاء(4)، فنهى الله - عز وجل - المؤمنين عن قول هذه الكلمة لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان مقصدهم في قولها صحيحاًº حيث أرادوا بها طلب السماع منهم(5).

ويشهد لما سبق: قول الله - عز وجل - في سورة النساء: ( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا 46 ) النساء: 46.

ففي قوله - تعالى -: وراعنا ليا بألسنتهم 46 ) النساء: 46

أي: تحريفاً عن الحق إلى الباطلº حيث يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً(6).

وهذا الفعل من يهود يدل على ما في صدورهم من المكر والخديعة، والجبن والخسة، على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ومن قبلهم أنبياء الله - عليهم السلام -.

فهم الذين حرفوا السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسام، وهو الموت(7) فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: \"دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليك، ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مهلاً يا عائشةº فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقد قلت عليكم\"(8).

وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: وعليك\"(9).

وهم الذين حرفوا ما أمرهم الله - عز وجل - به من طلب حط الخطايا(10) إلى كلمة أخرى

قال الله - تعالى -: ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين 58 فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون 59 ) البقرة: 58، 59.

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم\" فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حَبَّة في شعرة\"(11).

قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: \"وحاصل ما ذكره المفسرون، و ما دل عليه السياق من الحديث، أنهم بدلوا أمر الله - تعالى- لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا سجداً، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم، وأمروا أن يقولوا: حطة، أي: احطط عنا ذنوبنا، فاستهزءوا فقالوا: حنطة في شعرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندةº ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم\"(12).

ومن هذه الآية الكريمة نستلهم ما يلي:

1- وجوب كمال الآداب مع رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - (13).

2- عظيم جرم تنقصه º بل المتنقص أو المستهزئ به - صلى الله عليه وسلم - يخرج عن حضيرة الإسلام إلى الردة والكفر والعياذ بالله(14).

قال الله - تعالى -: ( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون 65 لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم 66 ) التوبة: 65، 66.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كونه من جنس الكفر والخراب - أعظم من مجرد الردة عن الإسلام، فإنه من المسلم ردة وزيادة(15).

وكل ساب وشاتم فمستخف بالمشتوم، متنقص له، مستهز به(16).

3- وجوب طاعة الله - عز وجل - وامتثال أوامره، واجتناب نواهيهº لئلا يكون حالنا كحال اليهود الذين قالوا: ( سمعنا وعصينا 46 ) النساء: 46

 وعلينا أن نقول كما قال صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  ورضي الله عنهم: ( سمعنا وأطعنا 46 ) النساء: 46  فأنزل الله - عز وجل -: ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير 285 ) البقرة: 285.

4- الحذر من الاحتيال على أوامر الله - عز وجل -º كما فعل اليهود من الاحتيال على النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبديل لفظ (السلام) إلى (السام) وهو الموت، واحتيالهم على أمر الله - عز وجل - لما قال لهم: وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة 58 ) البقرة: 58} كل من احتال على أمر من أمور الله - تعالى -فاستباح ما حرم الله - تعالى -عليه من معاملات مالية أو غيرها فهو يشابه اليهود الذين يستحلون محارم الله - تعالى -بأدنى الحيل.

5- الحذر من تحريف الكلم عن مواضعه، وتبديل كلام الله - عز وجل -º ليوافق أهواء الناس، وأمزجتهم، فمن فعل ذلك فهو يسلك مسلك اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويكون قد قدم رضى الناس على رضى الله - تعالى -.

 

---------------------------------------------------------

*الهوامش:

1- رواه ابن المبارك في الزهد(36)، وأحمد ابن حنبل في الزهد (864)، وسعيد بن منصور(50)، وابن أبي حاتم في تفسيره (317/1)، وانظر: الدر المنثور للسيوطي ونسبه إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -، والصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (252/1).

2- انظر: تفسير الطبري (460/2).

3- انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب (358).

4- انظر: لسان العرب (1675/3).

5- انظر: لسان العرب (1677/3)، وتفسير ابن كثير (213/1)، وللعلماء أقوال أخرى في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا: راعنا، منها:

أ- منهم من قال هي كلمة كانت الأنصار في الجاهلية تقولها، فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. انظر: تفسير الطبري (461/2، 462).

ب - اختار ابن جرير أن النهي عن كلمة (راعنا) لأنها كلمة كرهها الله - تعالى -لهم أن يقولوها لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، لا علاقة لها باليهود وتهكمهم، بل هي من باب الأدب بتوقير النبي - صلى الله عليه وسلم - لاحتمالها معان لا تطيق بهذا التوقيرº لذلك أمر الله - تعالى -المؤمنين أن يتخيروا لخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أرقها. وانظر: تفسير الطبري (463/2-465).

ج - ذكر أبو حيان، أن لليهود كلمة عبرانية، أو سريانية يتسابون بها وهي: راعينا، فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا، افترضوه وخاطبوا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها، وأمروا بما هو في معناها. انظر: البحر المحيط (543/1).

 

6- انظر: البحر المحيط لأبي حيان (663/3).

7- انظر: فتح الباري (42/11).

8- رواه البخاري كتاب الاستئذان باب كيف يرد على أهل الذمة السلام (133/7، 134).

9- المرجع السابق.

10- انظر: تفسير الطبري (105/2).

11- رواه البخاري كتاب التفسير، سورة الأعراف، باب قوله حطة(197/5).

12- تفسير ابن كثير (142/1).

13- راجع قول الله - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله 1 ) الحجرات: 1}.

14- انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (219/2-224)، والمحلى لابن حزم (408/12-418).

15- الصارم المسلول على شاتم الرسول ) (539/2).

16- انظر: المحلى (412/11).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply