سورة نوح


 بسم الله الرحمن الرحيم

قال - تعالى -: \" ما لكم لا ترجون لله وقارا (13) وقد خلقكم أطوارا (14) ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18) والله جعل لكم الأرض بساطا (19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا (20) قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (21) ومكروا مكرا كبارا (22) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (23) وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا (24) مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا (25) وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا (26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا (27) رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا \" {نوح: 13- 28}.

 

الحلقة الثانية

تفسير الآيات

انتقل نوح - عليه السلام - إلى أسلوب الترهيب، فقال: ما لكم لا ترجون لله وقارا، قال ابن عباس: لا تعظمون الله حق عظمته، أي لا تخافون من بأسه ونقمته، ثم انتقل بعد ذلك إلى تنبيههم إلى آيات قدرة الله وعظمته في أنفسهم فقال: وقد خلقكم أطوارا، هذه الأطوار قد فُسرت في سورة الحج والمؤمنون، قال - تعالى - : \" يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا \"الحج: 5\"، وقال - تعالى -: \" ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) ثم إنكم بعد ذلك لميتون (15) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون \"المؤمنون: 12- 16\"، فلينظر الإنسان مم خلق \"الطارق: 5\"، وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون \"الذاريات: 20، 21\".

ولما لفت أنظارهم إلى آيات الله في أنفسهم لفتها بعد ذلك إلى ما في الكون من آيات، فقال: ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا، الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور (3) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (4) ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين \"الملك: 3- 5\"، وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون \"يس: 37- 40\"، تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا (61) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا \"الفرقان: 61، 62\".

ثم يلفت أنظارهم إلى النشأة الأولى التي يُستدل بها على النشأة الآخرة فيقول: \" والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا \" وهذه الآية كقوله - تعالى -: \" منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، وفي حديث البراء بن عازب الطويل في وصف قبض روح العبد المؤمن والعبد الكافر، قال - صلى الله عليه وسلم - في حقّ العبد المؤمن: \"فيشيّعه من كل سماءٍ, مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقولُ الله - عز وجل -: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى\".

وقوله: والله جعل لكم الأرض بساطا (19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا يعني: أن الله هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، وممهدة لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها أنَّى شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها، ومرادُ نوح - عليه السلام - مِن ذلك كله أن يجعلهم يُقرون بتوحيد الإلهية كما كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، لقد كانوا مقرين بأن الله هو الذي خلق سبع سماوات طباقًا، وأنه هو الذي جعل الأرض بساطًا، وأنه الذي خلقهم ورزقهم، ثم كانوا يعبدون مع الله الأصنام والأوثان، فكان مرادُ نوح - عليه السلام - من لفت أنظارهم إلى دلائل عظمة الله أن يتحصّل منهم على الإقرار بأنّ الله يجب أن يُعبد وحده كما خَلَق وحده.

ومع طول المدّة، وتنوّع الأساليب، كانت النتيجة العصيان والتمرد، والتواصي بالكفر، قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، اتبعوا سادتهم وكبراءهم الذين يدعونهم إلى النار، وعَصَوني وأنا أدعوهم إلى العزيز الغفار: ومكروا مكرا كبارا، مكرًا متناهيًا في الكبر، مكروا لإبطال الدعوة وإغلاق الطريق في وجهها إلى قلوب الناس، ومكروا لتزيين الكفر والضلال والجاهلية التي تخبط فيها القوم، وكان من مكرهم تحريضُ الناس على الاستمساك بالأصنام التي يسمّونها آلهة: وقالوا لا تذرن آلهتكم بهذه الإضافة: \"آلهتكم\" لإثارة النخوة الكاذبة والحميّة الآثمة في قلوبهم، وخصّصوا من هذه الأصنام أكبرها شأنًا، فخصّوها بالذكر ليهيِّج ذكرُها في قلوب العامة المضلَّلين الحمية والاعتزاز: ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا، وهي أكبر آلهتهم التي ظلّت تُعبَدُ في الجاهليات بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية.

روى البخاري (4920) - رحمه الله - في الصحيح بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: \"صارت الأوثان التي كانت في قوم نوحٍ, في العرب بعد، أما وَدّ فكانت لكلب بَدومَةِ الجنَدل، وأما سُواعُ فكانت لهُذَيل، وأما يغوثُ فكانت لمراد، ثم لبني غُطيف بالجرفِ عند سبأ، وأما يعوقُ فكانت لهَمَدان، وأما نَسرٌ فكانت لحمَير، لآلِ ذي الكلاعِ، أسماءُ رجال صالحين مِن قومِ نوحٍ,، فلما هلكوا أَوحَى الشيطان إلى قومهم أن انصبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمٌّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبَد، حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلمُ عُبدت\".

وقوله - تعالى -: وقد أضلوا كثيرا يعني الأصنام التي اتخذوها أضلّوا بها خلقًا كثيرًا، فإنّه استمرت عبادتُها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم، وقد قال الخليل - عليه السلام - في دعائه: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس\". اه. من ابن كثير.

ولقد كان في تصريحهم بهذه الوصية لا تذرن آلهتكم إشارةٌ لنوح - عليه السلام - أنّ القوم لا خير فيهم، بل إنّ الله أَوحَى إليه بما تشير إليه هذه الوصية، كما قال - تعالى -: وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون \"هود: 36\".

وهنا وجد نوحٌ - عليه السلام - هذا الدعاء ينبعثُ من قلبه: ولا تزد الظالمين إلا ضلالا، وقبل أن يتم الدعاء يَذكُر الربٌّ - سبحانه - ما أحاط بالقوم من العذاب فقال: مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا، وقد ذكر - سبحانه - في سور أخرى كيف أُغرقوا فقال: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر \"القمر: 11- 14\".

وفي قوله - تعالى -: \" أغرقوا فأدخلوا نارا، إشارة إلى عذاب القبر، الذي يُؤمِنُ به أهلُ السنة والجماعة، لمن كان له أهلاً، كما يؤمنون بنعيم القبر لمن كان له أهلاً، نسأل الله أن يجيرنا من عذاب القبر وعذاب النار، وأن يجعل قبورنا روضةً من رياض الجنة، ووجهُ الاستدلال على عذاب القبر من هذه الآية: أنّ الله رتّب دخولهم النّارَ بعد غرقهم بالفاء التي تفيد الترتيب مع التعقيب، ومعلوم أنّ نار الآخرة لم يدخلوها بعد، فدلّ ذلك على أنّ النار التي دخلوها بعدما أغرقوا هي نار القبر، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها، ومما يدل على ذلك أيضًا قوله - تعالى -: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون \" الأنعام: 93\".

وبعد هذا العرض لعذاب القوم الذي أصابهم في الدنيا وبعد الموت، تأتي بقية دعاء نوح - عليه السلام -: \" وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا أي لا تترك على وجه الأرض منهم أحدًا، ثم يعلّل دعوته بقوله: إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا \" وهذا منه - عليه السلام - بناءً على ما أَوحَى اللهُ إليه \" أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن \" هود: 36\".

وفي نهاية المطاف، وبعد هذا الجهد الذي بذله نوحٌ - عليه السلام - في دعوة قومه، يتوجّه - عليه السلام - إلى ربّه يطلب منه أن يغفر له، فعسى أن يكون قد وقعَ منه خطأٌ أو تقصير: رب اغفر لي فأنا بحاجةٍ, إلى مغفرتك، ولا غنًى بي عن رحمتك. وهكذا نرى نوحًا - عليه السلام - وهو رسول الله يستغفر الله، بينما قومه الكفرة الفجرة يرفضون أن يستغفروا الله، وفي استغفاره - عليه السلام - تعليمٌ للدعاة أن ينيبوا إلى ربهم دائمًا بالاستغفار، فإنهم مهما قدّموا من تضحيات فإنهم مقصرون، ولم ينسَ نوح - عليه السلام - أن يستغفر لوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، فقال: \" رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا \"

ويظهر من استغفاره - عليه السلام - لوالديه أنهما كانا مؤمنين، وإلا لروجع فيهما كما روجع في ولده حين قال: رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين \"هو: 45، 46\".

وفي استغفاره - عليه السلام - للمؤمنين عامة ولمن دخل بيته مؤمنًا خاصة إرشادٌ وتعليمٌ للمؤمنين ولا سيما الدعاة منهم أن يستغفروا لإخوانهم المؤمنين إذا استغفروا لأنفسهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة\". \"حسن. أخرجه السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه للطبراني، وحسنه الألباني، رقم 5902\".

ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب \"إبراهيم: 41\".

والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply