سورة الفاتحة تقرر منهج الوسطية (2 - 5)


  بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أم الكتاب تقرر منهج الوسطيّة من أولها إلى آخرها، وأظهر آية فيها شاهدة بذلك هي قوله – تعالى (أهدنا الصراط المستقيم) (1) وما بعدها.

وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط، ذلك أنه بين أن هذا الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم.

قال الطبري رحمه الله –: \"أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك الشاعر:

أمير المؤمنين على الصراط  *** إذا اعوج الموارد مستقيم

قال ابن عباس – رحمه الله –: (اهدنا الصراط المستقيم) يقول: ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له(2)، ثم قال: وكل حائد عن قصد السبيل، وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب، لإضلاله وجه الطريق (3).

وقد بيّن الله لنا أن الصراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفاً الصراط المستقيم: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (4) ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط، بينما منهج الضالّين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلوّ والجفاء.

قال ابن كثير رحمه الله: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحقّ وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحق (5).

وبهذا يتبين لنا أن هناك ثلاثة طرق: طريق الذين أنعم الله عليهم، وطريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين.

والله أمرنا بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهمº لأنه هو الصراط المستقيم، وهو منهج وسط بين سبيلين منحرفين، وهما سبيلا اليهود والنصارى، وكل طريق منحرف عن منهج الصراط المستقيم فله حظ من أحد هذين السبيلين.

ولأن الاستقامة تعني الوسطيّة كما تبينها آية الفاتحة، وكما وضّحت ذلك في ملامح الوسطيّة. جاءت الآيات متعددة تدعو إلى الاستقامة بأساليب متعددة وألفاظ متقاربة، وهي تدور بين الخبر والإنشاء.

ومن هذا المنطلق، وبعد أن تقرر أن طريق الاستقامة هو طريق الأمة الوسط، فإن كل آية وردت في الاستقامة هي آية في تحقيق الوسطيّة والدعوة إليها على المراد، وبياناً لهذا المنهج.

قال سبحانه: (فَاستَقِم كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطغَوا...)(6)

فقوله تعالى: (ولا تطغوا) بعد أن أمر بالاستقامة، والطغيان هو مجاوزة الحد (7) وهو خروج عن منهج الوسطيّة إلى الانحراف عن السبيل.

وفي الآية الثانية: قال (ولا تتبع أهواءهم) وإتباع الهوى خروج عن الاستقامة، وانحراف عن منهج الوسطيّة.

وتتواصل الآيات في هذا الشأن، ففي سورة البقرة: (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(8) وفي آل عمران: (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) وفي الأنعام: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)(9) وفيها (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً) (10) وفي النحل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَينِ أَحَدُهُمَا أَبكَمُ لا يَقدِرُ عَلَى شَيءٍ, وَهُوَ كَلُّ عَلَى مَولاهُ أَينَمَا يُوَجِّههُ لا يَأتِ بِخَيرٍ, هَل يَستَوِي هُوَ وَمَن يَأمُرُ بِالعَدلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيمٍ,) (11). وفي الزخرف: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) (12) وفي سورة الملك: (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم) (13)

إلى غير ذلك من الآيات، حيث إن كل واحدة منها دالة على أن الصراط المستقيم هو الطريق الذي أمرنا باتباعه واجتناب ما عداهº لأنه هو طريق الحق والعدل والوسط، وما عداه طريق الضلال والغواية والانحراف عن الصراط المستقيم، وها هو الشيطان يعلن هذه الحقيقة قائلاً كما ذكر الله في سورة الأعراف: (فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم)(14) وصدق الله العظيم إذ يقول: (... من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم)(15))

وفي سورة التكوير: (إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم) (16) وهذه الآية تعني أن القرآن كله دعوة للاستقامة والسير على المنهج الحق، قال القرطبي: (إن هو) يعني القرآن (إلا ذكر للعالمين) أي موعظة وزجر (لمن شاء منكم أن يستقيم) أي يتبع الحق ويقيم عليه(17)، ومما سبق يتضح لنا أن سورة الفاتحة وضعت القاعدة والمنطلق، ورسمت المنهج وحدّدت معالمه، ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقررة لذلك وداعية له.

 

-----------------------------------------------------------

1- سورة الفاتحة، الآية 6

2- انظر: تفسير الطبري (ج1/74، 73)

3- انظر: تفسير الطبري (ج1/84)

4- سورة الفاتحة، آية 7

5- انظر: تفسير ابن كثير (ج1 / 29)

6- سورة هود، الآية 112

7- انظر: تفسير القرطبي (ج9/107)

8- سورة البقرة، الآية 142

9- سورة الأنعام، الآية: 153

10- سورة الأنعام، الآية: 161

11- سورة النحل، الآية 76

12- سورة الزخرف، الآية 43

13- سورة الملك، الآية: 22

14- سورة الأعراف، الآية 16

15- سورة الأنعام، الآية: 39

16- سورة التكوير، الآيتان: (28، 27)

17- انظر: تفسير القرطبي (ج19 / 343)  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply