الثبات في الصف


 بسم الله الرحمن الرحيم

الأصل في هذه المسألة قول الله - عز وجل -: \"يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى\" فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16) - صلى الله عليه وسلم - الأنفال: 15، 16}.

التحيز إلى فئة: هو أن يولي لينضم إلى طائفة من المسلمين ليعود معهم محارباً(1).

التحرف للقتال: هو أن يعدل عن القتال إلى موضع هو أصلح للقتال، بأن ينتقل من مضيق إلى سعة، ومن حزن إلى سهولة، ومن معطشة إلى ماء، ومن استقبال الريح والشمس إلى استدبارهما، ومن موضع كمين إلى حرز، أو يولي هارباً ليعود طالباً(2).

قال الموفق ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: \"إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان، حرم على من حضر الانصراف، وتعين عليه المقام وذلك بشرطين:

الأول: أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين.

الثاني: أن لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة، ولا التحرف لقتال(3).

 

وهذا الحكم قرره أئمة تفسير آيات الأحكام كالجصاص (8)، وإلكيا الهراسي(4)، وابن العربي(5)، إلا أن الجصاص قال عند قوله - تعالى -: أو متحيزا إلى\" فئة \"وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفاً، لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال\"، وقال إلكيا الهراسي في قوله - صلى الله عليه وسلم - : \"ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة\": \"هذا ليس بيان حكم شرعي، إنما هو بيان حكم العرف\".

الأدلة: استدل القائلون بذلك وهم الجمهور بالإضافة إلى الآية التي هي أصل المسألة بأدلة منها:

1- قول الله - تعالى -: \"يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون\" {الأنفال: 45}.

2- قوله - تعالى -: \"واصبروا إن الله مع الصابرين\" {الأنفال: 46}.

3- قوله - تعالى -: \"الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين\" {الأنفال: 66}، وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر، فهو أمر، بدليل قوله: الآن خفف الله عنكم ولو كان خبراً على حقيقته، لم يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين تخفيفاً.

4- ولأن خبر الله - تعالى -صدق لا يقع بخلاف مخبره، وقد علم أن الظفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون، فعلم أنه أمر وفرض، ولم يأت شيء ينسخ هذه الآية، لا في كتاب ولا سنة، فوجب الحكم بها.

5- ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الفرار يوم الزحف، فعده من الكبائر(6).

 

الخلاف في المسألة:

اختلف العلماء في قوله - تعالى -: \"الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين\" {الأنفال: 66}.

فذهب أبو حنيفة(7) إلى أن هذا إخبار من الله - تعالى -عن حالهم، وموعد منه إذا صابروا مثلي عددهم أن يغلبوا، وليس بأمر مفروضº اعتباراً بلفظ القرآن، وأنه خارج مخرج الخبر دون الأمر. والحكم في هذا الباب لغالب الرأي وأكبر الظن دون العدد، فإن غلب على ظن الغزاة أنهم يقاومونهم يلزمهم الثبات، وإن كانوا أقل عدداً منهم، وإن كان غالب ظنهم أنهم يغلبون فلا بأس أن ينحازوا إلى المسلمين ليستعينوا بهم، وإن كانوا أكثر عدداً من الكفرة(8).

قال الحسن البصري(9): هو خارج مخرج الأمر، لكنه خاص في أهل بدر دون غيرهم، وقد روي ذلك عن أبي سعيد الخدري(10)، وبه قال نافع وعطاء(11) وقتادة(12)، ويزيد بن أبي حبيب، والضحاك(13).

واستدلوا بقوله - تعالى -: يومئذ فقالوا: هذا إشارة إلى يوم بدر، وأنه نسخ حكم الآية بآية الضعف، وبقي حكم الفرار من الزحف ليس بكبيرة. واختص به يوم بدر لأنهم لم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا للمسلمين فئة إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم. وقال فيهم يوم حنين: \"ثم وليتم مدبرين\" {التوبة: 25} ولم يقع على ذلك تعنيف.

وذهب مالك(14) إلى أن المسلمين إذا بلغوا نصف عدد عدوهم لم يحل لهم الفرار، وإن كانوا أقل من النصف جاز لهم الفرار إن لم يبلغوا اثني عشر ألفاً، وإلا فلا يجوز يشير بذلك إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : \"ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة\"(15).

وذهب الشافعي(16) إلى اعتبار الضعف إن كانوا لا يرجون الظفر بعدوهم فإن كانوا يرجون الظفر بهم فلا اعتبار للعدد. إلا إن تحقق المسلمون من التلف فعنده فيه وجهان:

الأول: يجب عليهم أن يولوا، ولا يجوز لهم أن يصابروا.

والثاني: يجوز لهم أن يصابروا.

وأما قوله - تعالى -: \"ومن يولهم يومئذ دبره\"، فهو عند مالك، والشافعي وأكثر العلماء عام باق على عمومه.

 

ثالثاً: الترجيح:

الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه الجمهور من أنه إذا التقى المسلمون والكفار، فالثبات في هذه الحالة واجب بشرطين:

الأول: أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين.

الثاني: أن لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة، ولا التحرف لقتال، فإن قصد أحدهما فهو مباح.

 

وذلك لما يلي:

1- أن قوله - تعالى -: \"ومن يولهم يومئذ دبره\" ليست ليوم بدر، وإنما هي ليوم الزحف، يدل عليه أن هذه الآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب، وذهاب اليوم بما فيه(17).

2- قوله - تعالى -: \"فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين\" {الأنفال: 66} هو خبر بمعنى الأمر، وعليه حمل قوله - تعالى -: \"إذا لقيتم فئة فاثبتوا\" {الأنفال: 45} إذ لو كان خبراً على ظاهره لم يقع بخلاف المخبر عنه، لأن الخلف في أخبار الله - تعالى -محال(18).

3- ما رواه البخاري عن ابن عباس} قال: \"لما نزلت: \"إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين\" {الأنفال: 65} شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: \"الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين\" {الأنفال: 66} قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم\"(19).

4- قول ابن عباس: \"من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة لم يفر\"(20).

وأما قولهم في قوله - تعالى -: يومئذ: اختص به يوم بدر لأنهم لم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا للمسلمين فئة إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا فيه نظرº لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار ظنوا أنها العير فلم يخرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد فر الناس يوم أحدº لأن العدو أكثر من ضعفهم، ومع ذلك عنفوا، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : \"ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة\" فليس فيه دلالة على أنهم سيغلبون لا محالة، وإنما يدل على أنهم لن يُهزَموا بسبب القلة، وهذا لا ينفي هزيمتهم بسبب آخر غير القلة كالإعجاب وغيره، يدل عليه هزيمة المسلمين يوم حنين وهم اثنا عشر ألفاً، والله - تعالى -أعلم.

 

____________________

الهوامش:

1- الحاوي الكبير: (182/14).

2- الحاوي الكبير: (182/14).

3- المغني: (187/13).

4- أحكام القرآن لإلكيا الهراسي: (154/3).

5- أحكام القرآن لابن العربي: (845/2، 866).

6- أخرجه البخاري (145) ولفظ البخاري: \"اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وماهن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات\".

7- بدائع الصنائع: (98/7)، وتحفة الفقهاء: (296/3).

8- بدائع الصنائع: (98/7).

9- رواه ابن حزم بسنده في المحلى: (239/7).

10- أخرجه أبو داود: (2648) قال الخطابي: \"ونسبه المنذري للنسائي أيضاً\" معالم السنن مع سنن أبي داود: (107/3).

11- أخرجه عبدالرزاق: (251/5، 253)، رقم: (9519، 9527).

12- أخرجه عبدالرزاق: (251/5)، رقم: (9520).

13- أخرجه عنه عبدالرزاق: (251/5)، رقم: (9521).

14- حاشية الدسوقي: (179/2)، والجامع لأحكام القرآن: (382/7).

15- أخرجه أبو داود (2611)، والترمذي وحسنه (1555)، وابن ماجه (2827)، والدارمي (2443)، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي (101/2) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (105/2)، رقم: (1259).

16- مغني المحتاج: (224/4)، والحاوي الكبير: (181/14).

17- الجامع لأحكام القرآن: (382/7) وروح المعاني للألوسي: (182/9).

18- مغني المحتاج: (224/4).

19- أخرجه البخاري (4653).

20- أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2538)، والبيهقي (76/9)، قال الألباني: \"وإسناده صحيح، وهو وإن كان موقوفاً، فله حكم المرفوع، بدليل القرآن وسبب النزول الذي حفظه لنا ابن عباس أيضاً}\"، إرواء الغليل: (28/5)، رقم: (1206).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply