الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم ( 2 – 2 )


  بسم الله الرحمن الرحيم

الحكمة في إيجاز بعض السور:

بعض السور جاءت على غاية الإيجاز والقصر،كسورة العصر، وسورة الكوثر وسورة الإخلاص… والحكمة في ذلك والله أعلم - هي أن الله وعد بحفظ هذا القرآن وذلك لحفظ هذا الدين الذي أكمله الله ورضيه لنا ديناً، لا لمحض كونه كتاب الله فإن الكتب السابقة كلها كتب الله، كما أنها كلها منزلة على أنبياء الله ومع ذلك تعرضت تلك الكتب عدا القرآن للتحريف والتزوير.

 

ولما كان المقصود إبقاء دين الإسلام كاملاً وظهوره على الدين كله، جاءت الأصول الكلية على غاية الإيجاز والوضوح.

 

فإن عسر على بعض الأشخاص حفظ سورة البقرة فلا يعسر عليهم حفظ سورة العصر.

 

وإن عسر على شخص حفظ سورة التوبة، فلا يعسر على غيره حفظ سورة الممتحنة، وإن عسر على آخر حفظ هذه فلا يعسر على سواه حفظ سورة الكافرون.

 

فإن كان من الصعب على كل فرد في الأمة حفظ هذا الكتاب الكريم بتمامه، فلا يصعب عليهم حفظ هذه السور القصار في صدورهم، فالإسلام دين الفطرة والرسول بعث للناس جميعاً ((يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)) [الأعراف 158].

 

فالعالم والجاهل والذكر والأنثى والحضري والبدوي لا يسع أحد جهله، وهذه مزية دين الإسلام على غيره من الديانات والمذاهب كلها.

 

ولذلك ترى السور القصار تختص بمعنى واحد فسورة الإخلاص للتوحيد، وسورة العصر تضمنت أصلي الدين (الإيمان والأعمال) وسورة الكوثر تضمنت البشارة[1].

 

من ثمرات الاهتمام بالوحدة الموضوعية :

1 - الاحتراز من الإسرائيليات وردها والوقوف على حقيقة الروايات وتمييز صحيحها من ضعيفها.

ومن هذه الروايات الموضوعة (قصة الغرانيق) التي حشا بها كثير من المفسرين كتبهم وذلك عند تفسير قوله - تعالى -: ((وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم)).

 

فقد ذكر كثير من المفسرين أن الشيطان ألقى أثناء قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ((ومناة الثالثة الأخرى)) (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى)، لكن علماء الحديث ردّوا هذه الرواية لورودها من طرق مرسلة.

 

والعلماء الذين اهتموا بربط الآيات ونظامها والوحدة الموضوعية كالبقاعي، وأبي حيان في البحر المحيط، ذكروا أن المقصود بالشيطان جنس الشيطان من الإنس كالنضر بن الحارث يلقون لقومه وللوافدين عليه شبهاً يثبطون بها عن الإسلام، ولذلك جاء قبل هذه الآية ((والذين سعوا في ءاياتنا معاجزين)) وسعيهم بإلقاء الشبه في قلوب من استمالوه ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو جنس يراد به شياطين الإنس[2].

 

2 - استنباط لطائف الحكم والنكات العجيبة وذلك من خلال تدبر نظم القرآن وارتباط الآيات المؤدي إلى الوحدة الموضوعية.

 

فتأمل في قوله - تعالى -: ((وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا(27)يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا(28)وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما)) [الأحزاب27 - 28].

 

سياق الآيات في يهود بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصارت أرضهم وأموالهم وديارهم غنيمة للمسلمين.. ولما وسع الله على المسلمين بكثرة الأموال التي أحرزوها من الغنائم، طلبت النساء أن يوسع عليهن في النفقة.

 

فمن اللطائف والحكم التي تستنبط من خلال سياق الآيات ما يلي:

 

 - إن نقض العهد سبب المذلة والهوان وتسلط الأمم.

 

 - إن كثرة الأموال من أسباب الاهتمام بالدنيا وطلب التوسع فيها، وقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتلهيكم كما ألهتهم)[3] ولذلك خيّر النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه بين صحبته وعدم الاهتمام بالدنيا، وبين التوسيع عليهن والمفارقة،فاخترنَ الله ورسوله.

 

 - سياق الآيات الذي يذكر موقف بني قريظة، وبعده موقف نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه التحزب على أمور معينة، تحزب اليهود على نقض العهد، وتحزب نساء النبي على طلب التوسع في النفقة. وهذا يتناسب تماماً مع اسم السورة وهو كما ذكرنا من قبل طريق الاستدلال على الوحدة الموضوعية.

 

3 - الحدّ من الخلافات وحسم النزاعات الناجمة عن كثرة الآراء.

 الاهتمام بالوحدة الموضوعية يؤدي إلى تضييق هوة الخلاف وتوحيد الآراء والمواقف، والذين أغفلوا القول بالوحدة الموضوعية في التفسير، يأتون في تفسير الآية الواحدة بالأقوال الكثيرة، والاحتمالات المتعددة، والوجوه المختلفة المتباينة، فيذكرون في تفسير الآية الواحدة بل الكلمة أحياناً احتمالات عديدة متعارضة،في حين أن القول الفصل فيها لا يحتمل الوجوه الكثيرة التي يذكرونها، وإنما يحتمل وجهاً واحداً، ففي تفسيرهم لقوله - تعالى -: ((فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)). ذكر كثير من المفسرين قولين متناقضين في معنى (توليتم) فالأكثر على أنها من الولاية والمعنى إن وليتم الحكم وقيل بمعنى الإعراض، والمعنى لعلكم إن أعرضتم عن قبول الحق أن يقع منكم ما ذكر، وكثيرٌ منهم رجح القول الأول والحق أن معنى (توليتم) أعرضتم، وهذا الذي تؤيده الوحدة الموضوعية في السورة. والقول الثاني لا وجه له مطلقاً، فقد ابتدأت السورة بقوله - تعالى -: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)) وختمت بقوله - تعالى -: ((وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)) وجاءت الآية التي ذكروا فيها الوجهين المختلفين في وسط السورة تقريباً فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)) فأول السورة وختامها يحذر من الإعراض والتولي عن طاعة الله ورسوله، ولا علاقة لها بذكر الولاية والحكم[4].

 

مثال آخر ذكر القرطبي في تفسير سورة الكوثر، ستة عشر وجها لمعنى كلمة (الكوثر) على النحو الآتي:

 

1 - نهر في الجنة.

2 - حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - .

3 - النبوة والكتاب.

4 – القرآن.

5 - الإسلام.

6 - تيسير القرآن الكريم وتخفيف الشرائع.

7 - كثرة الأصحاب والأمة والأشياع.

8 – الإيثار.

9 - رفعة الذكر.

10 - الشفاعة.

11 - نور في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - دله على الله.

12 - معجزات الرب هدى بها أهل الإجابة لدعوة النبي.

13 – لا إله إلا الله محمد رسول الله.

14 - الفقه في الدين.

15 - الصلوات الخمس.

16 - الأمر العظيم.

هذا وقد ثبت بيان معنى الكوثر في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد ابن جبير: فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة. فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه[5].

 

إذا كان الكوثر قد ورد بيان معناه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما الحاجة لذكر الوجوه المتعددة؟

 

ولا تحسب أن الوجوه التي يذكرونها في كثير من الأحيان هي من قبيل اختلاف التنوع، بل هي من قبيل اختلاف التضاد الذي لا يجتمع مع غيره حيث يكثرون من عبارة: (قيل وقيل…).

 

جهود العلماء في دراسة الوحدة الموضوعية:

قلت إن هذا النوع من التفسير (الوحدة الموضوعية) حديث النشأة من حيث استعمال هذا المصطلح، وإن كانت جذوره تمتد إلى قرون سالفة، وهو بحر لا ساحل له وخير من مخر هذا العباب، وجلب منه ما يرضي الخلان والأصحاب، الإمام برهان الدين البقاعي المتوفي 885 ه في كتابه المشهور \" نظم الدرر في تناسب الآيات والسور\" وكتابه الآخر\" مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور\".

 

ووضع الإمام الشاطبي بعض القواعد المتعلقة بدراسة القرآن وتفسيره على النحو الذي نحن بصدد الحديث عنه وذلك في كتابه \" الموافقات\".

 

والفخر الرازي أشار في تفسير بعض المواضع من القرآن الكريم إلى هذه الوحدة.

 

ولابن قيم الجوزية في كثير من كتبه وعند تعرضه للكلام عن تفسير بعض الآيات والسور يبين الوحدة الموضوعية فيها.

 

أما في عصرنا الحاضر، فقد ظهرت دراسات عديدة حول هذا الأسلوب من التفسير (التفسير الموضوعي) أو (الوحدة الموضوعية).

 

فمن هذه الدراسات ما كتبه الدكتور محمد عبد الله دراز في تفسير سورة البقرة عن طريق بيان الوحدة الموضوعية.

 

وللأستاذ سيد قطب - رحمه الله - في سفره القيم (في ظلال القرآن) جهود مشكورة حيث يذكر في مقدمة معظم السور الموضوعات التي تناولتها السورة.

 

وللأستاذ محمد محمود حجازي كتاب (الوحدة الموضوعية في القرآن).

وهناك بعض الرسائل العلمية الجامعية التي تتناول تفسير بعض السور وفق المنهج المذكور.

 

وللشيخ القاضي شمس الدين بن شير محمد جهود قيمة في كتابه الموسوم (أنوار التبيان في أسرار القرآن) حيث قدم خلاصة موضوعية لما تدور حوله آيات كل سورة من القرآن الكريم.

 

وللدكتور مصطفى مسلم دراسة موضوعية لسورة الكهف، ضمن كتابه (مباحث في التفسير الموضوعي).

 

وبالرغم من تعدد الدراسات والكتابات المعاصرة التي ظهرت حول تفسير القرآن على منهج الوحدة الموضوعية، لكنها لم تحقق المطلوب منها، فكلهم شكر الله سعيهم، خاضوا في هذا البحر ولكنهم لم يتجاوزوا الشطآن والسواحل. نسأل الله القريب المجيب العليم الحكيم أن يهيئ وييسر من عباده الصالحين ويوفقهم لإنجاز مثل هذا المشروع المهم إنه على كل شيء قدير وهو اللطيف الخبير.

 

نماذج من جهود العلماء في بيان الوحدة الموضوعية:

 

قال الرازي عند تفسيره لقول الله - تعالى -: ((قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد)) [فصلت:44]: وكل من أنصف ولم يتعسف علم أننا إذا فسرنا هذه الآية على الوجه الذي ذكرناه صارت هذه السورة من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً نحو غرض واحد[6].

 

وقال الشاطبي في كلامه عن الأدلة على التفصيل في المسألة الثالثة عشرة:

فسورة البقرة مثلاً كلام واحد باعتبار النظم واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم، ومنها ما هو المقصود في الإنزال، وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب، ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك[7].

 

ثم قال: وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة وإن اشتملت على معانٍ, كثيرة، فإنها من المكيات، وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان، أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله - تعالى -:

 

أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق، غير أنه يأتي على وجوه كنفي الشريك بإطلاق، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة، من كونه مقربا إلى الله زلفى، أو كونه ولداً أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.

 

والثاني: تقرير النبوة للنبي محمد وأنه رسول الله إليهم جميعاً، صادق فيما جاء به من عند الله، إلا أنه وارد على وجوه أيضاً، كإثبات كونه رسولاً حقاً، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب، أو ساحر، أو مجنون، أو يعلمه بشر أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم.

 

والثالث: إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لاريب فيه، بالأدلة الواضحة، والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به، فرد بكل وجه يلزم الحجة، ويبكت الخصم، ويوضح الأمر.

 

فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن الكريم بمكة في عامة الأمر، وما ظهر ببادي الرأي خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر. ويتبع ذلك.

 

فإذا تقرر الترغيب والترهيب والأمثال والقصص، وذكر الجنة والنار وصف يوم القيامة، وأشباه ذلك.

 

هذا وإذا عدنا إلى النظر في سورة المؤمنين وجدنا فيه المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه. إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل للمعنيين الباقيين وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية، ترفعاً منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم أو ينال هذه الرتبة غيرهم إن جاءت.

 

فكانت السورة تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها، وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله - تعالى - ، فافتتحت السورة بثلاث جمل:

 

إحداهما: وهي الآكد في المقام، بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرم له، وذلك قوله: ((قد أفلح المؤمنون)) إلى قوله: الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون))

 

والثانية: بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له جارياً على مجاري الاعتبار والاختبار،بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلاً.

 

والثالثة:بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق، والإعانة على إقامة الحياة، وأن ذلك له بتسخير السماوات والأرض وما بينهما، وكفى بهذا تشريفاً وتكريماً.

 

ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور منها كونهم من البشر: ففي نوح مع قومه قولهم: ((ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم)) ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولاً منهم أي من البشر لا من الملائكة فقالوا ¼ ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون)). ¼((ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون)) ثم قالوا: ((إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا)) أي هو من البشر، ثم قال - تعالى -: ((ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه)). فقوله \"رسولها\" مشيراً إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها، ثم ذكر موسى وهارون وردّ فرعون وملئه بقولهم: ((أنؤمن لبشرين مثلنا)).

 

هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوة بوصف البشرية، تسلية لمحمد - عليه الصلاة والسلام - ، ثم بين أن وصف البشرية للأنبياء لاغض فيه، وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر، يأكلون ويشربون كجميع الناس، والاختصاص أمر آخر من الله - تعالى - ، فقال بعد تقرير رسالة موسى: ((وجعلنا ابن مريم وأمه ...)) وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان، ثم قال: ((يا أيها الرسل كلوا من الطيبات))، أي هذا من نعم الله عليكم والعمل الصالح شكر تلك النعم ومشرف للعامل به، فهو الذي يوجب التخصيص، لا الأعمال السيئة. وقوله - تعالى -: ((وإن هذه أمتكم أمة واحدة)) إشارة إلى التماثل بينهم، وأنهم جميعاً مصطفون من البشر.

 

ثم ختم هذا المعنى بنحو مما بدأ به، فقال: ((إن الذين هم خشية ربهم مشفقون)) إلى قوله: ((وهم لها سابقون)).

 

وإذا تؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا فهم أن ما ذكر من المعنى هو المقصود مضافاً إلى المعنى الآخر وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية، استكبارا من أشرافهم، وعتواً على الله ورسوله، فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة، والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف، فإن التطورات السبع أتت عليه وهي كلها ضعف إلى ضعف، وأصله العدم، فلا يليق بمن هذه صفته الاستكبار، والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها، ولولا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة الجارية، فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلق، فهذا كله كالتبكيت عليهم والله أعلم.

 

ثم ذكر القصص في قوم نوح: ((فقال الملأ الذين كفروا من قومه)) والملأ هم الأشراف، وكذلك فيمن بعدهم: ((وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم)) الآية. وفي قصة موسى: ((أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)) ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم في قومهم قالوا هذا الكلام.

 

ثم قوله: ((فذرهم في غمرتهم حتى حين)) إلى قوله: ((لا يشعرون)) رجوع إلى وصف أشراف قريش، وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين، فردّ عليهم بأن الذي يجب له الشرف من كان على هذا الوصف وهو قول: ((إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون))

 

ثم رجعت الآيات إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم، وذكر النعم عليهم، والبراهين على صحة النبوة، وأن ما قال عن الله حق من إثبات الوحدانية، ونفي الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين، حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين، فهذا النظر إذا اعتبر كلياً في السورة وجد على أتم من هذا الوصف، لكن على منهاجه وطريقه.

 

ومن أراد الاختبار في سائر سور القرآن فالباب مفتوح والتوفيق بيد الله، فسورة المؤمنين قصة واحدة في شيء واحد[8]. أه.

 

وقال ابن القيم: في تفسير سورة العنكبوت مضمون هذه السورة هو سرّ الخلق والأمر، فإنها سورة الابتلاء والامتحان، وبيان حال أهل البلوى في الدنيا والآخرة، ومن تأمل فاتحتها ووسطها وخاتمتها وجد في ضمنها أن أول الأمر ابتلاء وامتحان، ووسطه صبر وتوكل، وآخره هداية ونصر، والله المستعان[9].

 

وهكذا نجد في سائر سور القرآن أن موضوعات كل سورة على اختلاف أغراضها يبرق إلى وجود رابطة مع الاسم الذي هو عنوان السورة، والله أعلم.

وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

 

- - - - - - - - - - - - - - - - -

[1] - انظر: دلائل النظام ص82 - 83.

[2] - انظر: تفسير الآية (52) من سورة الحج في البحر المحيط، ونظم الدرر 13/67.

[3] - صحيح البخاري، كتاب الرقاق، رقم الحديث (6425).

[4] - انظر: من جوامع الكلم للمؤلف ص193.

[5] - صحيح البخاري، كتاب التفسير، رقم الحديث (4966).

[6] - التفسير الكبير للرازي 9/570.

[7] - الموافقات في أصول الشريعة 3/415.

[8] - الموافقات للشاطبي 3/415 – 419.

[9] - بدائع التفسير لابن القيم 3/370.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

منهجية الوحدة الموضوعية بشكل علمي في كتاب التشابه والمثاني

-

شريف إبراهيم

13:30:55 2020-05-30

منهجية الوحدة الموضوعية موضحة بشكل علمي في كتاب التشابه والمثاني. وشرح الكتاب متاح على اليوتيوب على قناة المثاني al-mathani https://www.youtube.com/channel/UCNDdgijg6Ngv9V2vhSvSiwQ