رجل


 بسم الله الرحمن الرحيم 

في القرآن الكريم في قصة موسى حين قتل القبطي، وهمّ بقتل الآخر أو البطش به وتفاقم أمره وانتشر، تجد قول الله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) (القصص:20). وفي سورة يس في قصة أصحاب القرية إذ جـاءها المرسـلون تجـد قـوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) ( يس:20)

وفي سياق هاتين القصتين تجد الحقيقتين التاليتين:

أولاهما: النص يبرز كلمة (رجل) وهي تعني شخصاً مفرداً، فهو رجل واحد ينقذ الموقف بخصائصه الذاتية والإيمانية، ولا يستـوحش من غربته بين أهله أو تفرده في طبقـته، فيحيط موسى علماً بالمؤامرة الدنيئة التي يحيكها القصر الفرعوني للقضاء عليه وعلى دعوته ويقترح عليه الحل، وهو الخروج من قريته والفرار بنفسه، وفي قصـة يـس~ يعلن أمام الملأ نصرة المرسلين ويدعو إلى اتباعهم متحدياً بذلك رؤوس الضلالة صارخاً به في وجه الجماهير المؤممة.

وعلى رغم أهمية العمل الجماعي والعمل المؤسسي، وأهمية التعاون على البر والتقوى، والتناوب في أداء فروض من الكفايات، إلا أن الواقع كثـيراً ما يفتـقر إلى الفردية خاصة في مثل فترات الضياع التي تمر بها الأمم وتوشك أن تأتي على وجودها وتميزها، حيث لا يبقى ثَمَّ جهة مسؤولة بعينها عن اكتـشاف المواهب أو عن تحديد الأدوار، وهذا هو الحال الذي يعيشه المسلمون الآن في كـثير من بلادهم، هنا تبرز الحاجة إلى تكثيف المبادرات الفردية من الداعية والتي لا بد وأن تسد بعض النقص، وأن تتلاقى يوماً ما على خطة راشدة يكون فيها للمسلمين فرج ومخرج. وحتى رسم برنامج لعمل شرعي يستهدف الإصلاح العام فبدايته غالباً وشرارته تنطلق من جذوة قلب يحترق لحال المسلمين.

وحتى التماس خطة لرعاية الكفاءات وإنضاجها وتحديد مداراتها فهو الآخر يحتاج إلى شيء من ذلك.

ليس هذا تقليلاً من أهمية تضافر الجهود وتكاتفها، ولا تهويناً من شأن المبادرات الجماعية التي آتت وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولكنه تأكيد على الدور الفردي المساهم في إيجادها وعلى الدور الفردي الذي لا يقف عندها.

وثانيهما: أن كلمة (رجل) تعني الثناء على خصائص الرجولة والشهامة والأريحية.

إنه ( رجل) وكفى، فالرجولة وعاء يحتوي عدداً من الخلائق والشيم الفطرية كالقوة والصدق والتضحية والصبر.

رجل والرجال قِلُّ ومايقـ       ــصم عُود الرجال غير الصمود.

ولهذا فالرجل في الموقفين لم توهن إرادته العقبات، ولم تثن عزيمته العوائق وتغلّب على الصعاب : بعُد المسافة ( من أقصي المدينة )، ضيق الوقت (يسعى )، خطورة الموقف، والدافع كان نبـيلاً لا يرتبط بمصلحة ذاتية أو قرابة، ففي قصة موسى (إني لك من الناصحين )(القصص:20) وفي قصة صاحب يس يظهر جلياً حدبه على قومه، وحبٌّ الخير لهم حتى بعد أن وثبوا عليه وأقعصوه ورجموه.

قال تعالى له:(ادخل الجنة) فتمنى لهم الخير فقال : ( يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) ( يس:26) قال ابن عباس : \" نصح لقومه في حياته بقوله : اتبعوا المرسلين، وبعد مماته بقوله : يا ليت قومي يعلمون \" ( رواه ابن أبي حاتم) .

وقال قتادة : \" لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً، لا تلقاه غاشاً، لما عاين من كرامة الله قال : يا ليت قومي يعلمون \" ( رواه الطبري) .

إن الخصائص الذاتية الفطرية ذات أثر كبير في سلوك الإنسان سلباً أو إيجاباً، أياً كان توجهه، والإيمان لا يلغيها إنما يهذب رديئها ويستثمر جيدها، ولهذا قال رسول الله في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة : \" تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية حتى يقع فيه، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه \" .

ولذلك كان أصحاب المروءة والسؤدد والرجولة في الجاهلية هم أهل ذلك في الإسلام لما حسن إسلامهم، ولا يكاد يعرف ممن تلبسوا بالنفاق أحد أسـلم وحسن إسلامه، وأبلى في الدعوة والجهاد إلا أقل القليل، ولهذا لما ذكر الله المنافقين في سورة النساء وتوعدهم قال تعالى: (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين.. )(النساء :146) ولم يقل من المؤمنين.

إن الطبائع المتذبذبة، والخلائق الرخوة التي ألِفت التقلب، وجبلت عليه لحرية بالنكوص والتراجع وغير جديرة بحمل الأمانة والصبر عليها .

ولقد ترى في هذا الزمان وفي كل زمان من الناس الذين لم يؤمنوا بدين ولم ينتظروا وعداً أخروياً من تحملهم أريحيتهم وقناعاتهم على ضروب من الصبر والمغامرة والفداء تتمنى مثلها لكثير من أهل الإيمان.

وأما في عالم المؤمنين وفي تأريخهم خاصة فأنت تجد من ذلك الكثير الطيب المبارك، ولأصحاب الخصائـص هـؤلاء ارتباط وثيق بالمعنى الأول، فهم أصحاب المبادرات، وهم أحق بها وأهلها والواحد منهم كأنه جماعة من الناس اجتمع فيه من ضروب الكمال ما ينوء بالعصبة أولي القوة، ولهذا قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: (إن إبراهيم كان أمة) ( النحل :120) . 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply