كيف نجد في القلب رقة عند تلاوة القرآن


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله خالق الأكوان ، الرحيم الرحمن ، علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه البيان.        
وأشهد أن لا إله إلا الله يعلم السر والإعلان ، صاحب الفضل والإنعام ، عالج قلوب العباد بالقرآن ورفع قارئه في درجات الجنان، وأشهد أن محمدا سيد ولد عدنان ، من أوتي جوامع الكلم ونطق بأفصح بيان ـ صلى الله عليه وعلى آله والصحب الكرام ـ أما بعد:فالقرآن الكريم كتاب أنزله الله هدى للعالمين ، ورحمة للأمم أجمعين وسبيلاً لعلاج قلوب الغافلين، فقوَّم به بعد الاعوجاج ، وهدي من بعد الضلال.         
ولقد جعل الله لقراءته منزلة عظيمة ، وبين نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضل ذلك في أحاديثه الكريمة، أحاول أن أقطف منها زهرة افتتاحا لمقالتي :          
فعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :            
( المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر ) متفق عليه.    
وحسبي أن قارئ هذه الأسطر من النوع الأول قد حقق أصل الإيمان ، وما قصد بقراءته إلا وجه الرحيم الرحمن .           
ولكن كم من سائل قد سأل : إني أقرأ القرآن ولا أجد له حلاوة ، ولا زلت أجد في القلب قسوة وبداوة ، ويعلوه ظلمة وتحيطه غشاوة.       
أقول : أخي -رحمني الله وإياك- هذه شكوى كثير من الإخوان ، والعلاج يسير بتوفيق المنان ، ومعاً نبدأ الخطوة الأولى نحو العلاج فأقول مستعيناً بالله :   
إن أردت أن تجد في القلب - عند تلاوة القرآن- رقة فحاول أن تخيم عليه بالحزن والخوف من الله ، ولا يستخفنك حسن الصوت ، واستحضر معاني الآيات في قلبك وابك عند تلاوتها .      
فيا من تشكو قسوة : ابك عند قراءة كلام ربك ، فإن في كلماته رقة وتأثيراً عظيماً ، فكم من آية تتحدث عن العذاب ، وكم من آية تتوعد العصاة بشديد العقاب.   
كم من آية تتحدث عن جلال الله ، كم من آية سبحت بك في ملكوت السماوات والأرض ، وبينت أن ربك وسع كرسيٌّه السماوات والأرض.   
استحضر بقلبك مصيرك ، وتدبر ما في الآيات من عبرة º لتسيل من عينيك العبرة ، فتحطم صخوراً قد علت فوق قلبك ، فحجبت عنه نور ربك ، ولنا في سلفنا أسوة ، فانظر إليهم بعين الاقتداء :      
فعن أبي صالح قال: قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون . فقال أبو بكر : هكذا كنا حتى قست القلوب.         
وهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ صلى بالناس ذات ليلة فقرأ سورة (وَاللَّيلِ إِذَا يَغشَى) (الليل:1) فلما بلغ (فَأَنذَرتُكُم نَاراً تَلَظَّى) (الليل:14) خنقته العبرة ، فلم يستطع أن ينفذها ، فرجع حتى إذا بلغها خنقته العبرة فلم يستطع أن ينفذها فقرأ سورة غيرها .  
وكن - يا صاحب الشكوى- مع الآيات متفاعلاً ، فمع آيات العذاب خوفاً ، ومع آيات الرحمة طلباً ورجاء
فعن حذيفة بن اليمان : ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا مر بآية رحمة سأل ، وإذا مر بآية فيها عذاب تعوذ ) هذا نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكيف بنا نحن .
واعلم أن البكاء من شيم الأنبياء والصالحين ولا سيما عند تلاوة كلام رب العالمين قال تعالى:
(قُل آمِنُوا بِهِ أَو لا تُؤمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبلِهِ إِذَا يُتلَى عَلَيهِم يَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ سُجَّداً) (الإسراء:107)
وقال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّن حَمَلنَا مَعَ نُوحٍ, وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبرَاهِيمَ وَإِسرائيلَ وَمِمَّن هَدَينَا وَاجتَبَينَا إِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُ الرَّحمَنِ خَرٌّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) (مريم:58)
فعلاج قلبك أن تتدبر الآيات تدبراً حكيماً حتى تبكي فيرق قلبك .
ولقائل أن يقول : إنني أقرأ ولا أستطيع بكاءاً ، وأجد من ذلك عناءاً ، فأقول -رحمني الله وإياك- :        
إن كل طريق يحتاج إلى مجاهدة حتى تصل إلى ما تريد ولقد قال العزيز الحميد:    
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ) (العنكبوت:69)      
فإن كنت لا تستطيع بكاءاً فتباكى ، أي حاول ولا تيأس ، بصدق نية وحسن توكل على الله ، ولا تفهم من قولي أن تتصنع ما ليس فيك فتقع في شر وخيم من رياء وحب محمدة ، فهذا قطعا غير مقصود ، وإنما أن تدرب نفسك في خلواتك على استحضار المعاني والبكاء عليها ، وأبشرك بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم)
فهذه المحاولات الصادقة في خشوعك أثناء القراءة ستؤتي ثمارها ولو بعد حين .   
أما أدوات المحاولة الصادقة :           
أن تُشرك القلب والعقل مع اللسان عند التلاوة ، بعدها ستجد للقرآن حلاوة.        
قال الغزالي في الإحياء:    
( وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه العقل واللسان والقلب .      
فحظ اللسان : تصحيح الأخطاء بالترتيل. وحظ العقل : تفسير المعاني .   
وحظ القلب: الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار ، فاللسان يرتل ، والعقل يترجم ، والقلب يتعظ .)          
هذه خطوة على طريق علاج قلبك بالقرآن ، وإنني أسأل الله الرحيم الرحمن أن يوجد في قلبي وقلوبكم رقة وخشية ، وأن يجعلنا من أهله وخاصته إنه ولي ذلك والقادر عليه   
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم         
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply