لمحة عن المرأة في السياق القرآني


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

قال تعالى: "ضرب الله مثلا  للذين كفروا  امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين. وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت: رب ابن لي عندك بيتا في الجنة، ونجني من فرعون وعمله، ونجني من القوم الظالمين. ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا، وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين"(1)

 المبدأ الساري في القرآن الكريم: "كل نفس بما كسبت رهينة" (1) والنفس تعم الرجل والمرأة، تلك الآيات الختامية من سورة التحريم تضع المرأة حيث يضعها عملها الذي كسبته، فهناك امرأتان جُعلتا مثالا للذين كفروا، هما امرأة نوح وامرأة لوط، لم يغن عنهما شيئا أنهما كانتا زوجين لرجلين من عباد الله صالحين، لأنهمـا خانتا الزوجين، فلم تستحقا إلا أن يقال لهما: ادخلا النار مع الداخلين .

ثم هناك امرأتان أخريان جُعلتا مثالا للذين آمنوا، هما امرأة فرعون ومريم ابنة عمران، حيث سألت الأولي ربها أن يجعل لها بيتا في الجنة، وينجيها مـن زوجها فرعون وعمله، ومن القوم الظالمين، وحيث أحصنت الثانية فرجها، حتى استحقت أن ينفخ الله فيها من روحه، وكانت من القانتين .

فالمرأة في القرآن إن فسدت كانت مثلا للذين كفروا، وان صلحت كانت مثالا للذين آمنوا.

منتهى العدل والإنصاف والمساواة في إحـلال المـرأة محلها، ووضعها موضعها. ويغيب العدل والإنصاف والمساواة إذا نظرنا إلى واحد فقط من الأمرين السابقين .

نضل إذا نظرنا إلى الشق الأول وحده ، فجعلنا منها مثالا للشر ، ونضل إذا نظرنا إلى الشق الثاني وحده، فجعلنا منها مثالا للخير.

وإذا كانت المرأة الفاسدة قد ضُربت مثالا للذين كفروا فكفي المرأة شرفا وتكريما أنها ضربت مثالا للذين آمنوا إذا صلحت ، والعكس صحيح .

فهذه مكانة لم يذكرها القرآن الكريم للرجل واختص بذكرها المرأة المؤمنة الصالحة، وإن كانت بمقتضى وحدة المبدأ يعم المرأة والرجل "بعضكم من بعض"(3)

كان ذلك في بالي وأنا أقرأ الآية الكريمة "أومَن ينشّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين"  إذ شاع وذاع أن المرأة في هذه الآية تنُشٍّأ في الزينة ونعومة العيش، فيورثها ذلك هشاشة وضعفا، إذا خوصمت لا تقوى على إقامة دعوى، ولا تقرير حجة، وإذا احتاج الأمر إلى امتشاق الحسام لم تغن غناء الرجل ولم تسد مسده، تجد ذلك في القرآن الجليل للإمام النسفي وما لا أحصي من كتب التفسير. لكن في أوضح التفاسير لمؤلفه ابن الخطيب إشارة واضحة إلى الرأي الذي تبنيناه ، وفي ظلال القـرآن لمؤلفه السيد قطب إشارة لامحة إليه .

فقلت: ترى هل تعبر هذه الآية عن رأي القـرآن في المرأة؟  لنقرأ هذه الآية في سياقها القرآني، ووجدت السياق يقدم هذه الآية على النحو التالي: "وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين  وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم . أوَ مَن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين  وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثـاً، أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون. وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون. أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون. بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنـا على آثارهم مهتدون. وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها  إنا وجدنا آباءنـا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"(4)

لقد وردت الآية الكريمة  "أوَ مَن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين" في سياق الحديث عمن يتحدثون عن الملائكة ويجعلونهم إناثا، وهي قضية مثارة في القرآن الكريم في عدة سور، للكفار فيها موقفان متناقضان، فهم من ناحية إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهـو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر به. أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؟ كما عبر السياق القرآني في سـورة النحل (5)، وهم مع ذلك مـن ناحية أخـرى يسمون الملائكة "تسمية الأنثى"(6)، ويعتقدون أن لهـم الذكـر ولله الأنثى(7)، وأن الله سبحانه اتخذ الملائكة إناثا وأصفاهم بالبنين؟(8) خلق الملائكة إناثا وهـم شاهدون؟(9)

وهذا التناقض في معتقداتهم معيب من نواح مختلفة، معيب لأنه إذا كانت الأنثى في زعمهم مما يسوء ويسودّ له وجه المرء إذا بشر به حتى ليتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، ويكون موقف المرء حياله إما إن يمسكه على هون، أو يدسه في التراب. إذا كانت الأنثى كذلك في زعمهم فلماذا يجعلون الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ويسمونهم تسمية الأنثى ؟ فإذا كانوا يوقرون إلههم فلم يجعلون ملائكته من الجنس الذي يرون فيه هذا الرأي؟

وموقفهم معيب إذن لأنه يدل على أنهم اختاروا لأنفسهم ما تبيض له وجوههم واختاروا لربهم ما تسود له وجوههم .

وموقفهم معيب كذلك لأنهم لم يشهدوا خلق الملائكة ومع ذلك قالوا مـا قالوا حتى ليسجـل القـرآن عليهم ذلك : "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، أشهدوا خلقهم، ستكتب شهادتهم ويسألون"

وموقفهم معيب كذلك لأن هذا الموضوع من السمعيات التي لا يجوز الحديث فيها بالرأي، إذ لا مرجع للمتحدثين فيها إلا أن يكون قد نـزل فيها كتاب سماوي يستمسكون به ، وما داموا ليس معهم هذا الكتاب، فهم يتحدثون في أمر ليس لهم به من علم، إن هم إلا يخرصون ويظنون، وهم في حقيقة الأمر يرددون ما قاله آباؤهم من ضلالات لا مرجع لهم فيها إلا أوهام وظنون رددها أسلافهم ، شأن الكافرين يكفرون ويقولون: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا وإنا على آثارهم مقتدون مهتدون، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟

في سياق هذه القضية وردت الآية الكريمة  " أوَ مَن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين" وواضح من السياقات العامة لهذه القضية ومن السياق الخاص في سورة الزخرف أن الآية تعبر عن رأي الكافرين في المرأة لا عن رأي القرآن الكريم فيها ، فهي امتداد يبين الفكرة عن المرأة في البطانة الفكرية والنفسية لهؤلاء الذين إذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم، فمن بطانته الثقافية أن المرأة مخلوق لا يصلح للنصرة ولا يغني في مواقف الجد والخصام، لأنه منشأ في الحلية، وهي أسباب فاسدة لوأد البنات، يحكي القرآن موقفهم ويسوق ما يتردد في أذهانهم وأفئدتهم من الأفكار والمشاعر التي تمثل خلفية فكرية لهذا الموقف، وهو موقف عرفنا أنه لا يستند إلى كتاب يرجع إليه، ولا إلى منطق سديد يعتمد عليه

  تتبارى العقول في فهم النص الكريم، ويظل القرآن أسمى.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(1)             التحريم : الآيات 10 ـ 12 .

(2)             المدثر : الآية 38 .

(3)             آل عمران : الآية 195 .

(4)             الزخرف : الآيات 15-23 .

(5)             النحل : الآيتان 58-59 .

(6)             النجم : الآية 27 .

(7)             النجم : الآية 21 .

(8)             الإسراء : الآية 40 .

(9)      الصافات : 50 .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply