سورة القيامة ( 2 )


 بسم الله الرحمن الرحيم 

يقول - تعالى -: لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19) كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الآخرة (21) وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ووجوه يومئذ باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة (25) كلا إذا بلغت التراقي (26) وقيل من راق (27) وظن أنه الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى ربك يومئذ المساق (30) فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب وتولى (32) ثم ذهب إلى أهله يتمطى (33) أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك فأولى (35) أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى «القيامة».

 

تفسير الآيات:

هذا تعليمٌ من اللَّه - تعالى -لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في كيفية تلقّي الوحي، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه جبريلُ يخافُ أن ينسى شيئًا مما قرأه عليه، فكان يحرك شفتيه بالقراءة قبل أن يَفرُغَ جبريل - عليه السلام -، فنهاه اللَّه عن ذلك، فقال: لا تحرك به لسانك لتعجل به كما قال - تعالى -: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [طه: 114]، ثم وعده اللَّه - تعالى -ثلاثة وعود فقال: إن علينا جمعه أي في صدرك، فلا تنسى منه شيئًا، وقرآنه أي: وعلينا أن نجعلك تقرؤه كما سمعته من جبريل من غير تحريف ولا تبديل، وذلك فإذا قرأناه فاتبع قرآنه أي: ما دمنا قد وعدناك بحفظه وتلاوته كما سمعته فإذا قرأ عليك جبريلُ فلا تعجل به، بل استمع إليه حتى يفرغ، ثم إن علينا بيانه أي بعد حفظه وتلاوته فإن وعدًا لك علينا أن نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا، حتى تبينه للناس.

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل جبريل عليه بالوحي، وكان يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنزل اللَّه الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة: لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه قال: علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه: فإذا قرأناه فاتبع قرآنه فإذا أنزلناه فاستمع، ثم إن علينا بيانه علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده اللَّه. [متفق عليه]

وقوله - تعالى -: كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الآخرة كقوله في أول السورة: بل يريد الإنسان ليفجر أمامه (5) يسأل أيان يوم القيامة، تعليلٌ لتكذيبهم بيوم القيامة، وبيان أن العلة هي حبهم الدنيا العاجلة، وإيثارها على الآخرة الباقية، كما قال - تعالى -: بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى [الأعلى: 16، 17]، فيا عبد اللَّه، لا تجعل الدنيا أكبر همك، واجعل الهموم همًا واحدًا همّ الآخرة، فـ إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار (39) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [غافر: 39، 40].

وقوله - تعالى -: وجوه يومئذ ناضرة أي حسنة بهية، مسفرة (38) ضاحكة مستبشرة [عبس: 38، 39]، ونَضرةُ الوجه من نعيم القلب وسروره، فالوجه مرآة القلب، فإذا رأيت وجه صاحبك ضاحكًا، قلت له: أراك اليوم مسرورًا.

وقوله - تعالى -: إلى ربها ناظرة أي تنظر إليه، وتراه، والإيمانُ بالرؤية من عقيدة أهل السنة، فمن أنكرها فهو حريّ أن يحرمها، «فإنّ إضافة النظر إلى الوجه، الذي هو محله، في هذه الآية، وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدلّ على خلافه، حقيقة موضوعةٌ صريحةٌ في أنّ اللَّه أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الربّ جل جلاله». [شرح الطحاوي: ابن أبي العز ص205]. والأحاديثُ في الرؤية متواترةٌ، رواها أصحابُ الصحاح والمسانيد والسنن.

منها: حديث جرير بن عبد اللَّه - رضي الله عنهما - قال: كنّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنظر إلى القمر ليلة البدر، وقال: «إنكم سترون ربكم عيانًا، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإذا استطعتم أن لا تُغلَبُوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.

ومنها: حديث صُهيبٍ, الروميّ - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول- تبارك وتعالى -: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى، ثم تلا هذه الآية: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة. [رواه البخاري].

ومنها حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جنتان من فضة، أنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن». [رواه مسلم]

اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تمتعني بالنظر إلى وجهك الكريم. آمين.

وقوله - تعالى -: ووجوه يومئذ باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة أي كالحة سوداء، عليها غبرة (40) ترهقها قترة (41) أولئك هم الكفرة الفجرة [عبس: 40- 42] يظنون ظن اليقين أن تنزل بهم داهيةٌ عظيمةٌ فتهلكهم.

وهذه الآيات لها نظائر في القرآن الكريم، منها قوله - تعالى -: وجوه يومئذ خاشعة (2) عاملة ناصبة (3) تصلى نارا حامية (4) تسقى من عين آنية (5) ليس لهم طعام إلا من ضريع (6) لا يسمن ولا يغني من جوع (7) وجوه يومئذ ناعمة (8) لسعيها راضية [الغاشية: 2- 9]، ومنها قوله - تعالى -: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه [آل عمران: 106]، وقوله - تعالى -: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26) والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [يونس: 26- 27].

يقول - تعالى -: \" كلا إذا بلغت التراقي (26) وقيل من راق (27) وظن أنه الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى ربك يومئذ المساق (30) فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب وتولى (32) ثم ذهب إلى أهله يتمطى (33) أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك فأولى: هذه الآيات تصف حالة الاحتضار، وما يكون عندها من أهوال، نسأل اللَّه أن يعافينا منها، وأن يثبتنا هنالك بالقول الثابت، وقد وصف اللَّه - تعالى -هذه الحالة في موضع آخر، فقال - سبحانه -: فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85) فلولا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونها إن كنتم صادقين [الواقعة: 83- 87].

وهذا الوصفَ المجملُ قد فسرّه النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسيرًا رائعًا، في حديث طويل رواه البراء بن عازب، وقد سبق بطوله في تفسير سورة (ق) عند قوله - تعالى -: وجاءت سكرة الموت بالحق.

وقوله - تعالى -هنا: كلا إذا بلغت التراقي أي إذا بلغت الروح التراقي وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق، وقيل من راق من كلام أهل الميت، لما أيسوا من الطبيب والدواء، سألوا عمن يرقي لهم، لعل الرقية تفعل ما لا يفعله الطبّ، والمعنى: هل من راق فيرقيه؟ وظن أنه الفراق أي اعتقد المحتضر أنه قد حان فراقُه للأهل والأحبّة، وذلك حين عاين الملائكة، فأهلُه يسألون من راق وهو حين عاين وظن أنه الفراق ولا فائدة من الرقية، كما عُدِمَتِ فائدة الدواء، ونزلت الملائكة ولكن لا تبصرون فقبضت، والتفت الساق بالساق أي اجتمعت عليه شدة الموت وشدة الآخرة، أو التفت ساقاه في الكفن، إلى ربك يومئذ المساق كما قال - تعالى -: وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61) ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام: 61، 62]. ويا خَيبَة الكافر فلا صدق بالحق إذ جاءه ولا صلى كما أمره اللَّه، فاتقى عذابه، ولكن كذب بالحق إذ جاءه وتولى عن الهدى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي جذلانًا أَشِرًا بَطِرًا كسلانًا لا همة له ولا عمل، كما قال - تعالى -: وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين [المطففين: 31]، ولكن اللَّه يهددهم بما يكدر صفوهم وينغِّص عيشهم، فيقول: أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك فأولى، وكلمة أولى لك كلمةٌ موضوعةٌ للتهديد والوعيد، وقد كُررت هاهنا لتأكيد الوعيد.

يقول - تعالى -: أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى.

قوله - تعالى -: أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي يُهمل في الدنيا فلا يُؤمر ولا يُنهى، أو يُهمل بعد الموت فلا يُبعث، كلا، بل لا بد أن يُؤمر ويُنهى، ولا بدّ أن يبعث بعد الموت ليجزي الله كل نفس ما كسبت [إبراهيم: 51]، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة: 7، 8]، وإن ارتاب الإنسان في البعث فلينظر ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ سبحانك بلى، فالنشأة الأولى دليل النشأة الثانية، والآيات في ذلك كثيرة.

قال - تعالى -: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم [الروم: 27]، وقال - تعالى -: ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [مريم: 66، 67].

وقال - تعالى -: أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [يس: 77- 79]، وقال - تعالى -: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5) ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير (6) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [الحج: 5- 7].

أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ سبحانك بلى.

والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply