خطاب إبراهيم - عليه السلام - مع النمرود


 بسم الله الرحمن الرحيم 

قال - تعالى -: (أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَن آتَاهُ اللّهُ المُلكَ إِذ قَالَ إِبرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأتِي بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ المَغرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: 258)

هذا الخطاب خطاب دعوة، وخطاب رد شبهة، يحتاج إلى نمط خاص، من أساليب القول كما يحتاج إلى حجة قوية، وكلمة معبرةº لأنه مذكور في سياق المحاجة، كما قال - سبحانه وتعالى -: (أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَن آتَاهُ اللّهُ المُلكَ) فّكر المحاجة، وجعلها علماً لهذا المجادل فعرفه بها (الذي حاج) لما في محاجته من الغرابة وشدة الخروج عن المألوف وقد بدأت الآية بهذا الاستفهام التعجبي الموجه لنبينا الكريم عليه صلوات ربي وسلامه، وذكر الرؤية (ألم تر) دون العلم (ألم تعلم) للإشعار بأنه حدث يستحق أن يعاين بالعين، كما أنه واضح جلي كأنما ينتقل فيه من نقل الخبر إلى صورة المعاينة والرؤية، ومع أن المراد هنا هو الكلام والحجة وهما يسمعان لا يريان فلم يرد (ألم تسمع) بل قال - سبحانه -: (أَلَم تَرَ) لما في استحضار الحدث من علاقة بنوعية القول، فهذا جبار ظالم يحاور إبراهيم - عليه السلام - في ذات الله - سبحانه -، هذا المشهد لابد من استحضاره لحظة عرض الخطاب لذا جاءت (ألم تر) دون (ألم تعلم) أو (ألم تسمع).

 

وجاء النص هنا على موضوع الحوار والخطاب، فقال - سبحانه -: (فِي رِبِّهِ) أي في رب إبراهيم - عليه السلام -، وفي التعرض لعنوان الربوبية هنا تشريف لإبراهيم - عليه السلام - وإيذان من أول الأمر بنصر الله له، لأن التربية من نوع الولاية، ثم قال - سبحانه -: (أَن آتَاهُ اللّهُ المُلكَ) هذا تعليل لإقدامه على هذا الجرم العظيم، أي أنه لأجل إنعام الله عليه بالملك والسلطان، وكونه أول من ملك الأرض ووضع التاج على رأسه فإنه تجرأ على هذه المحاجة الكفرية، وفي النص على هذه العلة إشعار بقلة اكتراثه بنعمة الله عليه، إذ هو الذي أعطاه ذلك الملك وتلك النعمة، ومع ذلك جحدها، بل تجاوز الحد وجادل في ذات الله - سبحانه -.

وبعد هذه التهيئة لخطاب إبراهيم - عليه السلام - ومحاجته لهذا الطاغية، جاء كلام إبراهيم - عليه السلام -: (إِذ قَالَ إِبرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحيِـي وَيُمِيتُ) هكذا بدأ إبراهيم - عليه السلام - بالحوار، وهذا يشعر الخصم بقوته - عليه السلام - في حجته فليس هو بالمحجم عن الكلام، بل هو مقدم لإيمانه بما يقول.

ثم إنه قدم (ربي) وهي الفاعل المعنوي على الفعل (يحي)، وذلك للرد على هذا النمرود الذي ادعى حقاً لله فجعله حقاً له، وهو مخلوق ضعيف فدل على هذا التقديم على الحصر فكأنه قال: ربي وحده الذي يحي ويميت، لا أنت ولا غيرك.

وفي ذكر الربوبية هنا ملمح من ملامح الاعتراف بقدر الخالق - سبحانه وتعالى - وأنه المدبر، وأنه المعطي - سبحانه -º ليستشعر هذا النمرود أنه ضعيف لم يخلق نفسه، بل خلقه العليم الخبير، وفي هذا استنهاض لمكامن الفطرة لديه لعله يرعوي عن غيه.

كما نلحظ من ذكر الرب دون أسماء الله الحسنى الأخرى أنه - عليه السلام - تذكيره بالمنعم عليه (الرب).

ومع أنه قال (ربي) فتحدث عن نفسه، ولم يقل (ربك) فلم يخاطبه، إلا أنهما يشتركان في البشرية وبالتالي الذي يصدق على ذاك، يصدق على ذلك فيما يتعلق بهذا الموضوع وهو الخلق والإيجاد.

ثم قال: (الَّذِي يُحيِـي وَيُمِيتُ)، فعرف الخالق - سبحانه - بالموصول (الذي) وجعل صلة الموصول الفعلين (يحي ويميت) وكأنه يشير بهذا إلى أنه - سبحانه - المتفرد بهذين الوصفين، فهما لا يليقان إلا به - سبحانه -.

وإنما ذكر هذين الوصفين خصوصاً، فلأنهما القضايا التي تظهر فيها قدرة الخالق وعجز المخلوق، كما أن هذا النمرود قد ادعى ذلك وعرف إبراهيم - عليه السلام - عنه ذلك مسبقاً، وفي تقديم الإحياء على الإماتة إما لأنها هي الحالة الأعظم دلاله على القدرة، وإما لأنه أراد من أول الأمر الرد على منكري البعث ومنهم هذا الملك، لأن من يحي أول مرة قادر على الإعادة.

ولم تزل المحاجة بين إبراهيم - عليه السلام - والنمرود إذ رد عليه: (قَالَ أَنَا أُحيِـي وَأُمِيتُ) فجاء بترتيب الكلمات ذاته، فبدأ بالفاعل المعنوي (أنا) ثم ذكر الإحياء والإماتة، لكنه لم يعرف نفسه بالموصول فلم يقل: (أنا أحيي وأميت) لأن هذا لا يكون إلا لمن عرف بهذا واشتهر به حتى أصبح به كالعلم، وهذا لا يكون إلا لله - سبحانه -، وكل ما فعله هذا النمرود هو الادعاء ولم يكن له من رصيد الواقع شيء، بل قد بنى كل هذا على مغالطة سخيفة ينكرها كل عاقل، إذ زعم أن يعمد إلى من حكم بالموت فيعفو عنه وإلى بريء فيقتله، وفي تقديم الفاعل المعنوي: (أنا) إشعار بإرادته التوكيد على قدرته على المنافسة في ما أورده إبراهيم - عليه السلام -، وليس المقصود هنا الحصر بل التقوية والتوكيد، لأنه أراد إثبات الشراكة، أما أنه الوحيد الذي يحيي ويميت فهذا ما لا يستطيع ادعاءه، لأنه هو في ذاته مخلوق ضعيف.

(قَالَ إِبرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأتِي بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ المَغرِبِ) نلحظ هنا أن إبراهيم - عليه السلام - قد عدل في محاورته لهذا الطاغية عن المضي في نقض حجته التي ذكرها، لأن اعتراض ذلك الطاغية لم يكن مما تقبله العقول ومصدره إنما هو المكابرة والمعاندة، ومن هذا شأنه فلا يحسن الاستمرار معه في جدال عقيم، لأنه لا يقيم لقوانين العقل والمنطق وزناً ومن كان هذا حاله فلا فائدة من جداله، بل الأحسن إفحامه بحجة دامغة لا يستطيع ردها.

ولعل هذا ما جعل إبراهيم - عليه السلام - يختصر هذه المحاورة فلم يطرق فيها جوانب متعددة، بل رأى أن من الأحسن ذكر الحجة التي تسكت المجادل.

فقال: (فَإِنَّ اللّهَ يَأتِي بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ المَغرِبِ).

وهنا انتقال مما يمكن لهذا الطاغية أن يجادل فيه ولو بفهم سقيم وتأويل مردود، إلى مالا قدرة له على ادعائه بأي صورة من الصور، لبعد هذه الكواكب عنه وعدم قدرته على التصرف فيها أو حتى الإيهام بذلك كما فعل أولاً.

وجاء لفظ الجلالة (الله) دون (الرب) كما مر سابقاً لأن الموقف موقف رد ادعاء سافر، لم يقدر صاحبه الخالق العظيم حق قدره، كما أن الموقف موقف إظهار لقدرة الله، وهنا يكون اسم الجلالة (الله) أعظم دلاله وأكثر تربية للمهابة والإعظام.

أما في أول المحاجة فلم يكن هناك ذكر لكلام هذا النمرود، لهذا كان - عليه السلام - ليناً معه، لعله أن يثوب إلى رشده.

(فَإِنَّ اللّهَ يَأتِي بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ).

أخبر - عليه السلام - بخبر لا مجال له بدفعه، وهو أن الخالق العظيم - سبحانه -، يأت بالشمس من جهة المشرق، فإن استطعت أيها المعاند أن تأتي بها من المغرب فافعل، وكان هذا له كالمفاجأة، لأن الموقف يتطلب منه أن يحدث ذلك في الحال، ولما لم يكن له قدرة لضعفه وعجزه، سكت وفوجئ وأسقط في يده، فجاء ما يصور ذلك في قوله - تعالى -(فَبُهِتَ) وذكر الموصول (الذي) وجعل الكفر صلته (الَّذِي كَفَرَ) للإشعار بعلة هذه النتيجة، وهي أنه كافر حائد عن الحق لذا جاء ختام هذا الحوار (والله لاَ يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

شكرا

-

meriem

08:55:08 2016-09-06

شكرااا جزيلا