لغتنا وهويتنا : نظرة من قريب ( 2 ـ 2 )


 بسم الله الرحمن الرحيم

فللكلمة مسئوليتها وخطرها ومسئوليتها البيان والهوية والتمايز وخطرها التقليد والتلبيس قصورا في الفهم أو توهمات الإدراك أو تفريطا في حدها أو تفريطا في مدلولاتها

 

والنظر إلى اللغة وإسهامها في عملية التمايز أمور يحققها القرآن ويؤكدها فاللغة هي الوعاء الذي احتضن الوحي وعبر عنه فقد أكد - سبحانه - على الصلة بين لغة النبي وبين الوحي الذي أنزله في آيات كثيرة بما يكرس الارتباط بين لغة القوم والوحي المرسل. كما يؤكد - سبحانه - أهمية اللغة وأنها الأساس في توزيع الناس إلى شعوب وقبائل (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات(13). فالتعاون وسيلته اللغة التي تجمع القوم وتميز الشعب عن غيره كما أنها الأداة للتفاهم والتعارف. ويؤكد - سبحانه - على أهمية اللغة في عملية التوزيع والتميز فيقول (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)الروم(22) فيبين - سبحانه - أن اختلاف الناس في اللغة واللون من آيات الله العظمى التي ترقى إلى درجة إعجازه في خلق السموات والأرض. كما أرسل الله الرسل وجعل كل رسالة بلغة النبي الذي كلفه بحملها والعمل بها وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم) إبراهيم(4).

 

وسمى الله - سبحانه - وحيه بالكتاب والذكر والبيان وهو مجموع الآيات والمبادئ والأسس التي عبرت عنها وأن أصل هذه الآيات ووحدتها الكلمة وقد سمى الله - سبحانه - وحيه بالكلمة والكلمات، (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)...البقرة (37)، (واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته)... الكهف (27). وكل كلمة تتألف من ركنين هما اللفظ والمعنى والعلاقة بينهما ارتباطية تصل إلى حد كونها سببية فلابد للمعنى من كلمة أو كلمات تعبر عنه، ولما كان الوحي مجموعة كلمات لها دلالتها فإن العلاقة بين الوحي واللغة علاقة تفاعلية لا يمكن انفصال أي منهما عن الطرف الآخر ويؤكد - سبحانه - على هذه العلاقة في قوله (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) مريم(97).

 

فمن صور هجر القرآن محاولة البعض تنحية مفرداته اللغوية ومفاهيمه واستبدالها بمفاهيم غربية من خلال التغريب والتغييب عن الواقع وهو ما يعد مقدمة لغربة الإسلام.

 

وقد مس ابن باديس ذلك في تفسيره لقول الله - سبحانه وتعالى - (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان (30) في الجزء الأول من كتاب آثار ابن باديس في قوله (ونحن معشر المسلمين قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل وإن كنا به مؤمنين. بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها وقلنا تلك آثار سمعية لاتحصل اليقين وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة وأشكالها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة مما يصعب أمره... وبين القرآن أصول الأحكام وفوائدها في الصالح الخاص والعام فهجرناها واختصرنا على الفروع الفقهية مجردة بلا نظر جافة بلا حكمة محجبة وراء أسوار من الألفاظ تفنى الأعمار قبل الوصول إليها.. وبين مكارم الأخلاق ومنافعها ومساوئ الأخلاق ومضارها وبين السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس... فهجرنا ذلك كله... ووضعنا أوضاعا من عند أنفسنا واصطلاحات من اختراعنا وخرجنا فى أكثرها عن الحنفية السمحة إلى الغلو والتنطع وعن السنة البيضاء إلى الإحداث والابتداع... وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي والتخيل الفلسفي مما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام وألقى بين أهلها بذور الشقاق والخصام وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها والاقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها ومعارضة هداية القرآن بها، وعرض علينا القرآن هذا الكون ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة لننظر ونبحث ونستفيد ونعمل فهجرنا ذلك كله ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه والتفكير في آياته ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه فأعرضنا عن ذلك وعلمنا القرآن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم وأن عليهم أن يأخذوا ما آتاهم وينتهوا عما نهاهم عنه فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن فهجرناها كما هجرناه... وعاملناها بما عاملناه به... وكم قابلناه بالصد والهجران.. وشر الهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به، ويصرفون وجوه الناس إليهم وإلى ما وضعوه... لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم فى أنفسهم ضد غيرهم فكان شرهم وبلاؤهم متجاوزا وشر الشر وأعظم البلاء ما كان كذلك.

 

 ومن الجدير بالذكر أن عقائد الإيمان وأصول الأحكام ومكارم الأخلاق وجملة الاصطلاحات كلها جميعا يمكن أن ترد إلى دائرة المفاهيم الإسلامية على تنوعها، وهو ما يؤكد أهمية إحياء المفاهيم الإسلامية ضمن عملية بنائها وإهمال ذلك والاستبدال به مفاهيم غربية إنما يشكل هجرانا للقرآن ومفاهيمه. كما أنه ليس لمدع أن يدعى أن هذه الآية السابقة وقعت فى قريش عند بدء الدعوة وما يعنى ذلك أن شكوى الرسول من قومه قريش الذي أرسل لهم بالقرآن الذين صدوا عنه فتركوه وثبتوا على تركه وهجره، غير أن الفهم الصحيح وإن اعتبر المناسبة في شكوى النبي - صلى الله عليه وسلم - للهاجرين بإنزال العقاب عليهم. ولما كان الهجر طبقات أعلاها عدم الإيمان به، فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى وهذا الوعيد. )

 

وعلى صعيد المصطلحات السياسية الشائعة بفعل عوامل التغريب مثل الديمقراطية أو التحرر أو الثيوقراطية أو الحكومة البرلمانية أو اليمين أو اليسار أو الرجعية أو الإتجاه المحافظ أو التقدمية أو الاستنارة أو رجل الدين أو غير ذلك فإن الشخص الأوروبي أو الأميركي ينظر إليها بنظر مختلفة تماما عن نظرتنا نحن لها فهو ينظر إليها وفى ذهنه أحداث الغرب التي صنعها في حاضره وماضيه كله وفى حدود هذه التصورات لا تكون هذه المصطلحات فى موضعها الطبيعي فحسب ولكنها تصبح سهلة الفهم معروفة المقاصد ذلك أن ذكرها يحشد في الذاكرة كل الصور الذهنية كما حدث في الماضي وما قد يحدث في المستقبل خلال التطور التاريخي للغرب.

 

ويكفى في هذا الأمر تنحية أسماء مدن ومواقع عربية وإحلال أسماء عبرية مكانها فى إطار الصراع القائم مع المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين ولا سيما في وسائل الإعلام مثل استخدام حارهوما بديلا لجبل أبوغنيم وحائط المبكى بديلا من حائط البراق وتل أبيب بديلا لمدينة يافا العربية واستخدام مصطلح العنف بديلا للعدوان الذي يشنه الصهاينة على الفلسطينيين وإلحاق وصمة الإرهاب بالعرب والمسلمين فى كل مكان.

 

ألم يحن الوقت لنا بعد لنتدبر الألفاظ التي نتفوها ونستخدمها فيما بيننا وفى إعلامنا؟ وهل سنشهد في المستقبل القريب هيئات مثل كليات اللغة العربية والمجمعات اللغوية تنتفض وتنهض لإزالة ما ران على لغتنا الجميلة وتدافع عنها فى وجه هذا الغزو الوافد فى عصر فرض الهيمنة الثقافية واللغوية الأميركية وتعيدها إلى سابق عهدها التليد؟ وألا نقف نحن مع أنفسنا لنتدبر حالنا حيث بات كل هم الكثير منا هو تعليم أبنائه فى مدارس تعليم اللغات الأجنبية - بأسعار بالغة- دون أي اهتمام بتعليم أبنائهم لقواعد اللغة العربية وبعض الأجزاء من القرآن الكريم لصقل ألسنتهم حتى نراهم يكتبون جملة صحيحة ويقولون قولا سديدا بدلا من الأمور التي يندى لها الجبين عندما يكتب أو يقرأ أو يتحدث هؤلاء؟ وهل نرى الوقت الذي يقترن فيه طلب المؤسسات والهيئات تعيين موظفين لديها شرط إجادة اللغة العربية بشرط إجادة اللغة الإنكليزية؟

وقديما قيل إذا ذل العرب ذل الإسلام والمقصود بالعرب هنا هو اللسان وليس الجنس العربي فمن تكلم العربية فهو عربي. فعلينا أن ننظر ونتدبر ما لدينا من مفردات لغوية مصدرها القرآن والسنة ونعود إلى استخدامها لعلها تكون أحد العوامل الرئيسية لنهضة أمتنا من سباتها العميق الذي يكاد يذهب بها وحتى لاينطبق علينا إلى حد ما ما انطبق على بني إسرائيل من قبل وهو مثال ينطبق على كل من يفعل هذا الفعل مهما كان وأينما كان (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) الجمعة(5)، (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولوشئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) الأعراف(176)، (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه. ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون، والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لانضيع أجر المصلحين) الأعراف(170، 169).

 

ولغتنا العربية لغة عريقة وأصيلة وواسعة تستوعب كل الأسماء والمستجدات العصرية فهي لغة متطورة وليست جامدة. ورحم الله الشاعر حافظ إبراهيم الذي نظم لنا هذه القصيدة الخالدة على لسان لغتنا العربية الجميلة وهى تشكو من سوء معاملتنا لها وتنعى حظها بين أهلها منذ قرابة قرن من الزمن وإن كان واقعنا اليوم لا يختلف كثيرا عما كان عليه الحال في ذلك الوقت والتي يقول فيها:

رجعت إلى نفسي فاتهمت حصاتي *** وناديت قومي فاحتسبوا حياتي

رموني بعقم في الشباب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتي

ولدت ولما لم أجد لعرائسي *** رجالا وأكفاء وأدت بناتي

وسعت كتاب الله لفظا وغاية *** وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة *** وتنسيق أسماء لمخترعات

أنا البحر فى أحشاءه الدر كامن *** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسنى *** ومنكم وإن عز الدواء أساتي

فلا تكلوني إلى الزمان فإني *** أخاف عليكم أن تحين وفاتي

أرى لرجال الغرب عزا ومنعة *** وكم عز أقوام بعز لغاتى

أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا *** فياليتكم تأتون بالكلمات

أيطربكم من جانب الغرب ناعب *** ينادى بوأدي في ربيع حياتي

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply