إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم


 بسم الله الرحمن الرحيم 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، واستمسكوا بكتابه القويم وهدي رسوله الكريم في جميع شؤون حياتكم الخاصة والعامة، قولاً وعملاً واعتقادًا وفكرًا، فمن ابتغى الهدى في غيرهما فقد ضل وغوى.

 

عباد الله، إن المتأمّل من خلال القرون القليلة الماضية في أحوال الأمة الإسلامية ليرى انتكاسة رهيبة قد ألمت بها، فقد تصدعت أركانها، وتسلط عليها أعداؤها، واستبدل الله جل جلاله قوتها بضعف، وعزتها بذلة، واجتماعها بفرقة وشتات، أصبحت مستباحة الحمى مكسورة الجناح، يعبث بها كل عابث، ويفسد فيها كل مفسد، تنتهك حرماتها، وتغتصب مقدراتها، وتسلب ديارها، شعوبها قد تشتت، وشُرّد أبناؤها، وقتل دعاتها، رمّلت نساؤها، ويتّم أطفالها، غدت أمتنا في كل أرض لها مأساة، وفي كل بلد لها محنة، وهي لا تملك حولاً ولا طولاً.

فما الذي جرى لأمتنا حتى وهنت وآل بها الحال إلى هذا المآل؟! ما الذي جرى حتى غُيّبت هذا الغياب المذهل الذي أفقدها اتزانها ووجودها؟!

تأمل ذلك بتدبر في قوله - تعالى -: (قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعًا بَعضُكُم لِبَعضٍ, عَدُوُّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَن اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلٌّ وَلا يَشقَى وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِي أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجزِي مَن أَسرَفَ وَلَم يُؤمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدٌّ وَأَبقَى) [طه: 123-127].

 

إذًا هذا هو السر ـ عباد الله ـ وموضع الداء الذي أوهن أمتنا وصدع بنيانها، إنه إعراض الأمة عن شرع الله - تعالى -وهجر كتاب الله - عز وجل - علمًا وعملاً، وترك سنة المصطفى وراءها ظِهريًا، وحل محلها القوانين الوضعية والاجتهادات البشرية، فكانت النتيجة الملموسة التي تجنيها الأجيال من التخبط والشقاء الذي نرى آثاره تزداد يومًا بعد يوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها الأحبة في الله، كم ذاقت الأمة من البلاء وأصابها من الشدة واللأواء بسبب إدبارها وإعراضها عن شرع الله ووحيه المنزل؟! وكم تقلبت في ألوانٍ, وألوانٍ, من الذل والهوان؟!

 

تأملوا ـ رحمكم الله ـ حال الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها، وسوف تجدون حالة من القلق وعدم الاتزان، وصدق الله إذ يقول: (أَفَمَن يَمشِي مُكِبًّا عَلَى وَجهِهِ أَهدَى أَمَّن يَمشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيمٍ,)[الملك: 22]، وقال: ((أبشروا، فإن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبدًا)).

 

إن السعادة ـ عباد الله ـ والطمأنينة إنما هي في تعظيم شرع الله - تعالى -واتباعه والاهتداء بهديه، والشقاوة والتخبط كل التخبط إنما هو في الإعراض عن شرع الله والاستهانة به وهجره، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطمَئِنٌّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنٌّ القُلُوبُ)[الرعد: 28].

 

إن مقدم شهر رمضان المبارك على الأمة الإسلامية ليذكرها بضرورة العودة الصادقة إلى كتاب الله العظيم، ففيه نزل القرآن: (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ, مِن الهُدَى وَالفُرقَانِ) [البقرة: 185]، فهو مصدر القوة والعزة وأساس التمكين والرفعة، فيه الهدى والنور، من آمن به حق الإيمان وصدق به حق التصديق فقد هداه الله وآتاه من فضله وأعانه على كل خير، قال - تعالى -: (ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقِينَ) [البقرة: 2]، ومن هجره وأعرض عنه علمًا وعملاً ولم يؤمن بمتشابهه ويعمل بمحكمه فقد أضله الله وختم على قلبه وبصره، قال - تعالى -: (وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذِي آتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنهَا فَأَتبَعَهُ الشَّيطَانُ فَكَانَ مِن الغَاوِينَ وَلَو شِئنَا لَرَفَعنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخلَدَ إِلَى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِن تَحمِل عَلَيهِ يَلهَث أَو تَترُكهُ يَلهَث ذَلِكَ مَثَلُ القَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقصُص القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 175، 176]. وصدق نبينا إذ يقول: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين)).

 

إخوة الإسلام، إن القرآن ليس آيات تهتز لها الرؤوس، وتتمايل بها العمائم، ويطرب بها الدراويش في الموالد والمآتم والاحتفالات، وليس آيات تهَذّ كهذّ الشعر، أو تنثَر نثر الدقل، كلا، بل هو آيات بينات تتنزل على قلوب المؤمنين فتغمرها بالسكينة والطمأنينة، وتملؤها بالثقة والثبات وتدبر آيات الله - عز وجل - ومعرفة مقاصدها ومراميها والوقوف عند عظاتها وعبرها. قال الحسن البصري - رحمه الله -: \"إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها في النهار\".

 

إنها نعمة عظيمة من النعم التي يوفق إليها العبد المسلم حينما يتدبر آيات ربه، ويتفكر في معانيها وفقهها وأسرارها، قال - تعالى -: (إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آياتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].

 

ولهذا وصف أبو عبد الرحمن السلمي الصحابة - رضي الله عنهم - بقوله: \"حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا\". وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدّبّرها وأرتّلها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة).

 

واحذر ـ أخي المسلم ـ من أن يطغى الران على القلب، ومن أن تنتكس الفطر بالعبث واللهو، فإن ذلك مؤذن بحجب نور القرآن عنك، والحيلولة بينك وبين الهدى والحق، قال - تعالى -: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ, أَقفَالُهَا) [محمد: 24]، وقد توعد الله المعرضين عن كتابه العزيز بقوله - عز وجل -: (فَوَيلٌ لِلقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ, مُبِين) [الزمر: 22].

 

وأما أهل الإيمان فقد وصفهم الله بقوله - تعالى -: (وَبِالحَقِّ أَنزَلنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقُرآنًا فَرَقنَاهُ لِتَقرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكثٍ, وَنَزَّلنَاهُ تَنزِيلاً قُل آمِنُوا بِهِ أَو لا تُؤمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبلِهِ إِذَا يُتلَى عَلَيهِم يَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعدُ رَبِّنَا لَمَفعُولاً وَيَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعًا) [الإسراء: 105-109].

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.

أما بعد: فعلينا ـ عباد الله ـ أن نتدبر القرآن الكريم عند قراءتنا له، وأن نفهم معانيه وكلماته، ونعمل بأوامره وننتهي بنواهيه وننزجر بزواجره، وأن نقرأ من الكتب التي تعين على ذلك من التفاسير الميسرة.

ولقد كان لسلفنا الصالح مع القرآن الكريم وتدبره قصص معبرة، فمن ذلك قدوتنا محمد بأبي هو وأمي إذ قال لابن مسعود: ((اقرأ عليّ القرآن))، قال: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((إني أشتهي أن أسمعه من غيري))، فقرأ عليه سورة النساء حتى بلغ: (فَكَيفَ إِذَا جِئنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ, بِشَهِيدٍ, وَجِئنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41] فقال: ((حسبك))، قال ابن مسعود: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان. وقام ليلة كاملة مردّدًا آية واحدةً: (إِن تُعَذِّبهُم فَإِنَّهُم عِبَادُكَ وَإِن تَغفِر لَهُم فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [المائدة: 118].

وقام تميم الداري ليلة حتى أصبح، يقرأ آية يرددها ويبكي: (أَم حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحيَاهُم وَمَمَاتُهُم سَاءَ مَا يَحكُمُونَ)[الجاثية: 21].

 

ألا فاتقوا الله عباد الله، وعظموا كتاب ربكم، وأدوا حقه عليكم من القراءة والتدبر والحفظ والمراجعة والعناية به، فإنه لا فلاح ولا نجاح ولا سؤدد لأمة الإسلام وأبنائها إلا بالعودة إلى حياضه، والتمسك به وبسنة رسولنا قولاً وعملاً واعتقادًا وفكرًا، واعلموا أن الطريق إلى ذلك ـ رحمكم الله ـ هو تعلم وتعليم هذا القرآن لأنفسنا وأبنائنا وبناتنا وجميع أفراد مجتمعنا، وحمل هذه المسؤولية على عاتق من هو أهل لهذه المهمة العظيمة، فالدور مشترك بين أفراد المجتمع بالدعم المادي والمعنوي، بالدعاء والمؤازرة والتأييد، ومن حملوا هذه الأمانة للقيام بها خير قيام، ألا وهي الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم.

وإنني أذكركم ـ أحبتي ـ بعظيم الأجر لمن أنفق في هذا الشهر خاصة، ولتعليم كتاب الله - تعالى -بقول المصطفى: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).

 

وأنت ـ أخي المنفق ـ داخل في هذا الحديث إن شاء الله، إذ إنك تعلّم بالمساهمة بمالك والدعاء والنصيحة لإخوانك، وتذكر قول الله - تعالى -: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ, أَنبَتَت سَبعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ, مِائَةُ حَبَّةٍ, وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].

 

وكما عهدناه منكم ـ أيها الإخوة الفضلاء ـ من المسارعة في أبواب البر والخير لما يقربكم الله - تعالى -، وأذكّر بإحصائية أجريت عام 1989م تشير إلى مجموع التبرعات الكنسية لأغراض التنصير، في حين أن البعض من المسلمين يبخل أن يقدم مبلغًا من ماله لتعليم كتاب الله، فتشير الإحصائية إلى أنه جمع مبلغ وقدره مائة وواحد وخمسون ألف مليون دولار، سُخرت كلها لخدمة النصارى في دعوتهم إلى النصرانية المحرفة الباطلة، أليس حريّ بنا ـ إخوتنا ـ ونحن أهل الإسلام والدين الحق وأهل القرآن المهيمن التام أن نبذل بأموالنا ما يساهم في إصلاح أبناء أمتنا الإسلامية؟! بلى، نحن أحق بذلك منهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

 

اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك...

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply