القرآن العظيم وهجره


بسم الله الرحمن الرحيم 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها الأخوة الكرام، إن القرآن العظيم هو الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، بل جعل هذه الأمة تبلغ ذروة الفضائل والمجد، إنه الأصل الذي يرجع إليه، والنبع الذي تتفجر منه عيون الإيمان واليقين، وفيه ترد يقين النفوس، ولذة عيون المتدبرين، وملاذ قلوب المنكسرين، وبماذا يمكن أن تصفه عيون الشعر مهما أوتي أصحابها من بيان وإبداع، إذ هو كلام الله المنزل، تكلم به حقيقة - سبحانه -، وهو صراطه المستقيم، وحبل الله المتين.

أيها الأخوة الكرام: شهدت الأرض ميلاداً عظيماً بنزول القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ شع نوره عليها، وأورقت أغصانها، وسرت الحياة الطيبة في عروقها، أما السماء فكان لها شأن آخر، لقد ملئت حرساً شديداً وشهباً، ولما لم يعد الجن قادرين على استراق السمع كما كانوا من قبل بسبب كثرة الشهب في السماء والرمي بهاº ظن الإنس والجن أن ذلك مؤذن بخراب العالم أو هلاك أهل السماء، ولكن الصحيح أن الله أراد بأهل الأرض رشداً، نعم لقد أراد بهم رشداً في أن يعرفهم العقيدة والتوحيد، وأن لا إله إلا هو - سبحانه -، تلك الكلمة التي تعني نزع السلطان الذي يزاوله الكهان، ومشيخة القبائل، والأمراء والحكام على الناس، ورده كله إلى الله، والتي تعني التأثير على القلوب والشعائر، وواقعيات الحياة، والتأثير في المال والأرواح والأبدان لتعود كلها مكومة بشريعة من عند الله.

ونزل القرآن على العرب فرأوا أنهم أمام هيبة رائعة، وروعة مخوفة، وخوف تقشعر منه الأبدان، فأحسوا - وهم الفصحاء - أنهم ضعفاء أمام هذا الكمال العظيم، فاستسلموا لبلاغته، وتعلقت قلوبهم به، وارتبطت نفوسهم بإعجازه.

هذا الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه - جاء إلى مكة فلم يزل كفار قريش يقولون: إن محمداً فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنه، ولا تسمعن منه شيئاً، قال الطفيل: فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني كرسفاً خوفاً أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن اسمعه، فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريباً منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر، وما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقوله، فإن كان الذي يقوله حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته، فلما سمع القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - غضاً طرياً قال: \"والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه\"، ولقد أثرت كلمات القرآن في نفسه، وسرت إلى عقله وقلبه همسات دافئة هادئة تحمل هداية القرآن.

وهنا رجل آخر كان جباراً في الجاهلية شديداً على المسلمين المستضعفين يومئذ، فلما سمع قول الله - تعالى-: (( طه * مَا أَنَزَلنَا عَلَيكَ القُرءانَ لِتَشقَى )) إلى قوله: (( إنني أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لِذِكرِى )) كسرت تلك الآيات أعواد الشرك في قلبه، وأذابت صخور الجاهلية، وقال: ما ينبغي لمن يقول هذا أن يعبد معه غيره، فأصبح ذاك الرجل إذا سار من فج سار الشيطان من فج آخر، إنه الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، الذي قال: \"اعلموا أن هذا القرآن ينبوع الهدى، وزهرة العلم، وهو أحدث الكتب عهداً بالرحمن، به يفتح الله أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، ألا وإن قراءة القرآن مع الصلاة كنز مكنون، وخير موضوع، فاستكثروا منه ما استطعتم، فإن الصلاة كنز مكنون، والزكاة برهان، والصبر ضياء، والصوم جنة، والقرآن حجة لكم أو عليكم، فأكرموا القرآن ولا تهينوه، فإن الله مكرم من أكرمه، ومهين من أهانه\".

أيها المسلمون: لقد خرج القرآن جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله، وفي تاريخ البشرية جميعاً هو جيل الصحابة - رضوان الله عليهم -، هذا العدد الضخم الذي لم يتجمع مثله بعده في مكان واحداً، وليس السبب في تجمعه لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم كما يضنه البعض، وإلا لانتهت الرسالة والدعوة بموته، ولكن ثمة سبب آخر هو أن الصحابة - رضوان الله عليهم - استقوا من نبع القرآن، وتكيفوا به، وتخرجوا عليه، على الرغم من وجود الثقافات المختلفة في ذلك العصر، وسبب آخر جعل الصحابة - رضي الله عنهم - يبلغون ما بلغوا من الفضائل والرفعة هو: أنهم لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، ولا يقصد التذوق والمتاع، إنما كانوا يتلقون القرآن للعمل به في أنفسهم وفي مجتمعهم الذي يعيشون فيه، كما يتلقى الجندي الأمر في الميدان.

إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروحº روح المعرفة المنشئة للعمل، ومن الأمثلة على ذلك آية تحريم الخمر، حينما نزلت جرى رجل في سكك المدينة يعلن: \"ألا إن الخمر قد حرمت\"، فكان الذي في يده شيء من الخمر يرميه، والذي كان في فمه شربة يمجها، والذي كان عنده في أوان يراقهاº استجابة لأمر الله - تعالى-: (( إِنَّ هذا القُرءانَ يِهدِى للتي هي أَقوَمُ وَيُبَشّرُ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ الصَّـالِحَاتِ أَنَّ لَهُم أَجراً كَبِيراً)).

أيها الأخوة الكرام: إننا ونحن نقرأ كلام الله - سبحانه - نمر كثيراً على صفات منزل هذا القرآن وأسمائه وهو رب العالمين، فما هو أثر هذه الصفات والأسماء على القلوب الحية؟، إنك وأنت تقرأ آيات يتجلى فيها الرب - تعالى- في رداء الهيبة والعظمة والجلال كما في قوله - تعالى-: (( الرَّحمَـنُ عَلَى العَرشِ استَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَـاواتِ وَمَا فِي الأرضِ وَمَا بَينَهُمَا وَمَا تَحتَ الثَّرَى وَإِن تَجهَر بِالقَولِ فَإِنَّهُ يَعلَمُ السّرَّ وَأَخفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسماء الحُسنَى ))، فإن الأعناق تخضع، والنفوس تنكسر، والأصوات تخشع، والكبر يذوب كما يذوب الملح في الماء.

وإذا تجلى - سبحانه - بصفات الرحمة واللطف، والبر والإحسان كما في قوله - تعالى-: (( نَبّىء عبادي أَنّى أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ ))، وقوله: (( اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ )) حينها تنبعث قوة الرجاء من العبد، وينبسط أمله، ويسير إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جد في العمل.

وإذا تجلى الله بصفات العدل والانتقام، والغضب والسخط والعقوبةº انقمعت النفس الأمارة، وتطلعت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب، واللهو واللعب، والحرص على المحرمات.

وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونصرة لأوليائه، وحمايته لهم كما في قوله - تعالى-: (( أَلَيسَ اللَّهُ بِكَافٍ, عَبدَهُ ))، وقوله: (( ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا )) وغيرها من الآيات فإنه تنبعث من العبد قوة التوكل عليه، والتفويض إليه، والرضا به في كل ما يجريه على عبده، ويقيمه فيه، هذا بعض ما في هذا الكتاب العظيم المملوء حكمة وهدى، ونوراً وبركة وشفاء.

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، لا تأخذه سنة ولا نوم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الذي أوتي السبع المثاني والقرآن العظيم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، صلى الله عليهم وسلم تسليماً كثيراً.

أيها المؤمنون: إن كثيراً من الناس في هذا الزمان بخلاء جداً مع القرآن الكريم، إنه ربما يمر الأسبوع على بعضهم أو الشهر وهم لم يقرؤوا سطراً واحداً من القرآن، ولربما يمضي على بعضهم شهور لم يقرأ فيها القرآن - نعوذ بالله من الخذلان -، لقد شكا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه من هجر القرآن: (( وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبّ إِنَّ قومي اتَّخَذُوا هذا القُرءاَنَ مَهجُوراً ))، والهجر للقرآن أنواع:

أولاً: هجر سماعه والإيمان به، والإصغاء إليه، فتجد بعضهم يستمع إلى إذاعات الدنيا، ويستمع إلى ما حرم الله من لهو الحديث، وإذا مر بسمعه القرآن أغلق الجهاز أو المذياع - نعوذ بالله من ذلك -.

ثانياً: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، حيث يلجأ بعض الناس إلى تحكيم القوانين، أو تحكيم أعراف القبائل في النزاعات والخصومات.

ثالثاً: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد الله - سبحانه - به منه.

رابعاً: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.

خامساً: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.

أيها الأخ الكريم: ومن العمل به اتباع أمره بالإنفاق في سبيل الله، وقد وعدنا وهو الذي لا يخلف وعده بأن يخلف علينا قال - تعالى-: (( وَمَا أَنفَقتُم مّن شَيء فَهُوَ يُخلِفُهُ ))، وقال - تعالى-: (( مَّن ذَا الَّذِي يُقرِضُ اللَّهَ قَرضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضعَافاً كَثِيرَةً ))، وعن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر أو كلمة نحوها))[1]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أيسر منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا الله ولو بشق تمرة)[2]، ووعظ النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس فقال: (أيها الناس تصدقوا !!، ومر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار)[3]، والصدقة دليل على صدق إيمان العبد ولذلك قال: (والصدقة برهان)[4].

أيها الأخوة الكرام: هذه جمعية تحفيظ القرآن الكريم التي لها نشاط مميز في تعليم القرآن الكريم لكافة أعمار المجتمع، مع اختلاف مستوياتهم التعليمية، وقد اضطلعت بهذه المهمة العظيمة، وهي تعمل ليل نهار، وتضاعف من جهودها أيام الإجازات، كما أن لها مشاريع ضخمة مستقبلة تهدف إلى خدمة كتاب الله، ولا شك أنهم مأجورون على ذلك - إن شاء الله -، وقد كفتنا هذا الجهد العظيم، وتطلب منا طلباً متواضعاً هو أن ندعم مسيرتها، ونخدم كتاب ربنا، وننصر دين نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر)[5].

فأدخل يدك في جيبك، وأخرج ما تجود به نفسك الطيبة، وتذكر أن الله يراك وأنت تنفق لخدمة كتابه العظيم، فيا له من تشريف وتكريم لنا.. اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم أعط منفقاً خلفاً.

___________________

[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/231)، والترمذي: كتاب الزهد باب ما جاء ((مثل الدنيا مثل أربعة نفر)) حديث (2325)، وقال: حسن صحيح. والبزار (3/243)، والطبراني في الكبير (22/341)، قال محقق المعجم الكبير: وهو صحيح.

[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الزكاة باب الصدقة قبل الرد، حديث (1413)، ومسلم: كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بشعة تمرة... حديث (1016).

[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الحيض باب ترك الحائض الصوم، حديث (304)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان... حديث (79).

[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، حديث (223).

[5] صحيح، أخرجه الطبراني في الكبير (8014)، والأوسط (6082) وقال: لا يُرون هذا الحديث عن أم سلمة إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبد الله بن الوليد الوصافي، وحسّن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (2/30)، والهيثمي في المجمع (3/115)، وصححه بطرقه الألباني في السلسلة الصحيحة (1908).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply