قراءة في دعاء السفر


بسم الله الرحمن الرحيم 

من ثمار الصحوة المباركة الحرص على التزام السنة والاهتمام بالأدعية والأذكار النبوية، وقد ظهر ذلك من خلال انتشار الكتاب والشريط والبطاقات الصغيرة..وغيرها.ومن هذه الأدعية التي عني الناس بها (دعاء السفر)، حيث لا تجد أحداً يدرك أهمية وفائدة مثل هذا الدعاء ثم لا يجتهد في تلاوته والحرص على حمل بطاقة تذكر به، أو يقوم بتعليقه على سيارته.. بل تجاوز الأمر العناية الفردية بهذا الدعاء، فاعتمدت بعض شركات الطيران تلاوة هذا الدعاء على ركابها قبل إقلاع الطائرة. و مع ما في هذا من دلالة على اتساع الوعي وانتشار الخير، إلا أنه ومع ملاحظة واقع الناس في أثناء السفر نجد من الواجب علينا إعادة قراءة الدعاء مرة أخري، والنظر في دلالاته ومدى تأثيره في نفوس الناس!!؟

عن ابن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً، ثم قال: \"سُبحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ\" (الزخرف: 13، 14) اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنَّا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، في المال والأهل.. )(1).

أخي المسافر: هل تأملت معاني هذا الدعاء وأنت تتكلم به؟! هل تحرك به قلبك، وفاضت به نفسك قبل أن ينطق به لسانك؟!

إن هذا الدعاء تجديد للعهد مع الله، وطلب للاستمرار على البر والمداومة على التقوى، وما ذاك إلا أن المسلم مرتبط بربه متعلق بدينه حيث حلّ وأين ارتحل \"وَاعبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ\" (الحجر: 99). إن من نقص الفهم أن لا نعرف فائدةً لهذا الدعاء إلا سلامة أبداننا من وعثاء السفر، وحماية أعيننا من كآبة المنظر! فنطلب بالدعاء سلامة الأبدان دون أن نستشعر فيه حفظ الأديان إذ هو الأصل الذي يجب المحافظة عليه ولو كان في ذلك ذهاب الأموال والأنفس والثمرات. لئن يرجع المسلم من سفره وقد رزء بنقص ماله وولده أهون عليه بكثير من أن يرجع بنقص دينه وأمانته وحيائه..

 

إذا نحن أُبنا سالمين بأنفسٍ, *** كرامٍ, رجت أمراً فخاب رجاؤها

 

فأنفسنا خير الغنيمة إنها *** تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها

لقد كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفره أن يقول: \"أعوذ بك من الحور بعد الكور\"(2) أي: من الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان، أو المعصية بعد الهداية. إنه الدعاء بلزوم البر واستصحاب التقوى، وتحصيل ما يحبه الله ويرضاه، وهو مطلب عظيم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على ترسيخه في النفوس والتأكيد عليه والوصية به، حتى يبقى المسلم دائم الصلة بربه قوي الارتباط به، عن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني أريد سفراً فزودني فقال: \"زودك الله التقوى\"(3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني قال: \"عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف\"(4) أي على كل مرتفع. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: \"كنا - يعني في السفر - إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا\"(5). كم يصعد المسافر من ربوة؟! وكم يهبط من وادٍ,! ولسانه يتردد بتكبير الله وتسبيحه، ليعلن دوام الارتباط بالله.

ولا ينفك المسلم عن طلب مصاحبة الله له وطلب رعايته وحفظه ورجاء جميل فضله، فحين يبزغ الفجر على المسلم وهو في سفره يُشرع له أن يقول ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حين بدا الفجر قال: \"سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا، عائذاً بالله من النار\"(6) ثم هذا التعوذ بالله من النار هو تعوذ بالله من كل ما يجر إليها ويوقع فيها.

إنك حين تجيل النظر في حال كثير من الناس اليوم! تجد أنهم لا يصطحبون البر والتقوى في أسفارهم، بل ربما وجدوا السفر فرصةً للإسفار عن خبايا النفوس والتخلص من أوامر الدين وضوابط الشرع، والسبب هو: أن الإيمان بعد لم يرسخ في قلوبهم، ولم تتأكد حقائقه في نفوسهم. والسفر(قطعة من العذاب) وقد جمع هؤلاء على أنفسهم مع عذاب الدنيا عذاب الآخرة واستجلبوا غضب الله دون أن يطلبوا من العمل ما يرضى!!

 

• إنه ليس من البر ولا من التقوى في السفر: تهاون بعض النساء بالحجاب والستر والعفاف، وخروج بعضهن إلى أماكن المتنزهات بأبهى زينة، وأحلى حلّة، دون حسيب ولا رقيب. إنه لا يصح أن يكون السفر وسيلة لأجل ذبح الحياء، ولا منصة يشنق عليها العفاف. فالحجاب ليس عرف بلد معين أو ثوب مهنة يمكن نزعة، بل هو شرع الله ودينة والله مطلع على كل حــال \"وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم\" (الحديد: من الآية4) إن على المرأة أن تعتز بحجابها وحيائها وأن لا يؤثر فيها وجود بعض النساء اللاتي تضاعف نقص عقولهن، وزال ماء الحياء من وجوههن، فذهبت منهن الحياة مع الحياء.

• إنه ليس من البر ولا من التقوى في السفر: أن تسافر المرأة دون محرم يحميها، أو وليٌ يحوطها، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم \"(7). إن من أشباه الرجال من يرسل نسائه لوحدهن مع السائق، ومنهم من يوصل بعض نسائه إلى المطار فيودعها لتستقبل هناك وتترك بين السماء والأرض دون محرم يرعاها \"وَلَو يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهرِهَا مِن دَابَّةٍ,\" (فاطر: من الآية45).

 

• إنه ليس من البر ولا من التقوى في السفر: شد الرحال لزيارة القبور حتى ولو كان صاحب القبر هو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. حيث أن هذا الفعل من طرائق الغلو وذرائع الشرك. وفي البخاري ومسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى\"(8).

• إنه ليس من البر ولا من التقوى في السفر: السفر لقصد السحرة والمشعوذين والكهان والمنجمين والعرافين بحجة الفضول والاستمتاع بعجائب السحرة والمشعوذين حيناً، وبحجة العلاج حيناً أخرى، وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: \"من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة\"(9) هذا في حق من جره الفضول إلى الحضور ولم يجر منه تصديق لهم. أما من صدق فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -(10).

• وليس من البر ولا من التقوى في السفر: زيارة معابد اليهود والنصارى أو غيرهم من المشركين بأي حجة كانت، لأن في ذلك تعرض للفتنة، إذ ربما وقع في النفس ميل إلى ماهم عليه، أو اعتقاد بجواز ما هم فيه.... وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في يد عمر بن الخطاب نسخة من التوراة فغضب واحمر ووجهه... وقال: امتهوكون فيها بابن الخطاب والله لقد جئتكم بها بيضاء نقية. لو كان موسى حي ما وسعه إلا أتباعي.... كل هذا منه - عليه السلام - خشية أن تزاحم الشريعة أو يصل إلى النفوس شيئاً من الشك، وعمر ابن الخطاب رضي الله عنه أبعد الناس عن ذلك، لما في قلبه من الإيمان واليقين ولكنه تذكير للأمة..

 

• وليس من البر ولا من التقوى في السفر: الذهاب إلى ديار الظالمين، والمواضع التي حل فيها عذاب رب العالمين، فعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم\"(11). وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم -: \"لمّا مر بالحجر - وهي ديار ثمود مدائن صالح - قنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي\"(12). هذا في زيارتها فكيف بأخذ الصور التذكارية فيها! والتنزه في ربوعها! وكيف برعايتها وما يدخل في ذلك من تعظيم!!

 

• وليس من البر ولا من التقوى في السفر: حضور الحفلات الغنائية التي انتشرت في بلاد المسلمين بحجة التنشيط السياحي دون خوف من الله وقوارعه أن تحل فيهم، وقد حلَّت قريباً منهم ولا هم يذكرون، عن ابن مالك الأشعري رضي الله عنه قال: \"ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غداً فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة\"(13).

 

• وليس من البر ولا من التقوى في السفر: تبذير الأموال والترفيه على النفس والأولاد بما لا يعقل، حتى ربما كان ما يصرف في سفرة واحدة ما يزيد على عشرات الآلاف، في حين لا ينفق في سفره الطويل إلى الله والدار الآخرة أقل القليل!!. إن القلب ليتفطر ألماً حين يقرأ بعض الإحصائيات، ففي عام 2000 وصل مجموع الليالي التي قضاها من سافر من هذه البلاد سياحة في الخارج 100 مليون ليلة انفقوا فيها أكثر من 14.4 مليار دولار!! في الوقت الذي تشتد حاجة المسلمين فيه إلى المال، وقد لا أكون مبالغاً حين أقول إن مجموع ما أنفق يكفي لتغيِّب وجه المجاعة الكالح عن بلاد المسلمين. وفي الحديث عنه - عليه السلام - قال: (لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع..... وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه)(14).

• و ليس من البر ولا من التقوى في السفر: السفر إلى بلاد الكفار دون مسوغ شرعي وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم -: (أنا برئ من مسلم يقيم بين أظهر المشركين)(15).

• وليس من البر ولا من التقوى في السفر: السفر إلى البلاد التي ينتشر فيها الفحش ويذبح فيها الحياء، الشيء الذي يعرض البنين والبنات إلى الافتتان بما يرون، ويجرئهم على نزع الحياء. وفي الأماكن الآمنة في بلادنا غنية وكفاية، والمسلم يكفيه في هذه الدنيا من السياحة والسفر كزاد الراكب، لأن ذلك ما هو إلا وسيلة لتجديد النشاط وبعث الهمم على العمل: \"وللآخرة خير وأبقى\"، وفي الجنة من البساتين، والأشجار، والعيون، والأنهار، والفواكه، والثمار مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، و(من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الأخر)(16).

أخي المسافر: عليك أن تقرأ دعاء السفر قراءة جديدة تتجاوب فيه جوارحك مع لفظ لسانك، فإن جزاء شكر نعمة الله عليك بالسلامة من وعثاء السفر وكآبة المنظر لا يصح أن يقابل بالعصيان والكفران، فتب إلى الله تعالى من تفريطك وعصيانك، وجدد العهد مع الله وردد وأنت راجع إلى بلدك: (آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون).

 

ــــــــــــــــــــــــ

(1) مسلم (1342).

(2) الترمذي (3439).

(3) الترمذي (3444).

(4) الترمذي (3445).

(5) البخاري (2993).

(6) مسلم (2718).

(7) البخاري (3006).

(8) البخاري (1189).

(9) مسلم (2230).

(10) أحمد 2/ 429 وصححه الألباني في الإرواء 7/68.

(11) البخاري (433).

(12) البخاري (3380).

(13) مسلم (5590).

(14) الترمذي (2417).

(15) الترمذي (1604).

(16) مسلم (2003).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply