زيادة الثقة وما يتصل بها من أنواع الحديث


بسم الله الرحمن الرحيم
دراسة نقدية 

يعرض هذا البحث دراسة نقدية لأنواع مختلفة من علوم الحديث تعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع، والمدرج، والمزيد في متصل الأسانيد لبلورة وجه الترابط الوثيق بينها من جهة، وبين زيادة الثقة من جهة أخرىº حيث يشكل إبراز هذا الترابط نقطة جوهرية في منهجية شرح هذه الأنواع، لا سيما مسألة \"زيادة الثقة\".

على أن ثَمّة فوائد علمية دقيقة جاءت محصلة هذا البحث، بخاصة ما كان تصحيحا للأخطاء الشائعة حول \"زيادة الثقة \" والأنواع المتصلة بها.

وإذ أجتهد في بلوغ غايتي فيما قدمت لأرجو أن أكون قد وُفّقتُ للصواب بعد عرضي هذا بأمانة وموضوعية ولله الحمد والمنة.

 

المقدمة:

من الواضح جداً أن علوم الحديث بحاجة ملحة إلى تخصيص أنواعها بالدراسة المعمّقة، كل بمفرده، وطرحها بطريقة يألفها أهل عصرنا، بعيدة عن أساليب علم المنطق التي خوطب بها السابقونº إذ إن أكبر معضلة يواجهها طلبة اليوم في دراسة هذا العلم هو تقيد كتب المصطلح المعاصرة بتلك الأساليب المنطقية نفسها، دون مواكبتها لمستجدات عصرنا في مجال التعليم ومناهجه، وطبيعة التكوين النفسي لطلابنا اليوم، إضافة إلى تشتت موضوعات هذا العلم في تلك الكتب المعتمدة في الدراسة، وانعدام تنسيقها وفق الوحدات الموضوعية، وهذا يشكل عائقاً كبيرا في سبيل وقوفهم على الأبعاد العلمية لمصطلحات علوم الحديث.

ومن هنا جاء هذا البحث لبلورة الترابط الموضوعي الوثيق بين زيادة الثقة وبين الأنواع الآتي ذكرها، كخطوة تجريبية أولى في سبيل إعادة تنسيق أنواع علوم الحديث وفق الوحدات الموضوعية، وطرحها بطريقة ملائمة لطبيعة التكوين النفسي العام لطلبتنا، حتى نستطيع أن نميط اللثام عن منهج المحدثين في معرفة صحة الأخبار وخطئها، ونوظف هذا المنهج في جميع دراساتنا الشرعية، ومن ثم يتصل آخرنا بأولنا بتشييد ما بنوا، وبالتالي نكون قد قمنا بتدوين تاريخنا بالبناء المعرفي والعطاء العلمي المتجدد.

وهذا البحث متصل ببحثنا السابق الموسوم بـ \"موضوع زيادة الثقة في كتب المصطلح\"، والذي يتمحور حول أربعة أنواع، وهي: الشاذ، والمنكر، والمعلول، وزيادة الثقة.

ونحن نذكر هنا ما تبقى من أنواع علوم الحديث المتصلة بموضوع زيادة الثقة وهي:

الاستخراج، وتعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع، والمدرج، والمزيد في متصل الأسانيد.

ونظراً إلى ما أفضنا في موضوع زيادة الثقة في البحث السابق فإننا لا نرى ضرورة لذكره هنا مرة أخرى.

غير أننا نذكر القارئ أن مقصودنا بموضوع \"زيادة الثقة\" هو: أن يروي جماعة حديثاً واحداً عن مصدر واحد، فيزيد بعض الثقاة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة، سواء كان ذلك في السند أو في المتن أو في كليهما.

ولذا فإن مسألة زيادة الثقة تشمل جميع صور الزيادة التي تقع من الثقة، سواء كان الثقة واحداً أو أكثر، وسواء كانت الزيادة صحيحة أو ضعيفة، وسواء كانت في السند والمتن أو في أحدهما. وعليه فالذي يخرج من حدود هذه المسألة هو زيادات الصحابة لكونها مقبولة، وزيادات الضعفاء لكونهم ضعفاء.

ومن أهم الأهداف العلمية التي نصبو إلى تحقيقها خلال هذا البحث إبراز الوجه الحقيقي لمسألة \"زيادة الثقة\"، وإلقاء الضوء الكاشف على أبعادها النقديةº حيث تعد هذه المسألة من أهم موضوعات علوم الحديث حساسة لكونها من أهم أسباب الاختلاف الفقهي بين العلماء، موضحا في الوقت نفسه دقة المحدثين النقاد في تصحيح الأحاديث وتضعيفها.

وجعلت هذا القسم من البحث أربعة مباحث:

المبحث الأول: تعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع.

والمبحث الثاني: المدرج.

والمبحث الثالث: المزيد في متصل الأسانيد.

والمبحث الرابع: المستخرج.

ومما تجدر الإشارة إليه أنني قد سلكت في هذه المباحث طريقة تقوم على سرد نصوص ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث المشهور بـ\"مقدمة ابن الصلاح\"، ثم تحليلها والتعقيب عليها في ضوء \"منهج المتقدمين في نقد الأحاديث\"º لكون هذا المنهج مصدراً أصيلاً لمبادئ علوم الحديث.

ثم ختمت كل مبحث منها بخلاصة ما توصلت إليه من الفكرة المنهجية المؤسسة على الأدلة ودراسة النماذجº فإن هذه الطريقة هي وحدها التي تكشف لنا الخلل الواقع في معالجة كتب المصطلح لتلك الأنواع المذكورة سابقا، وتساعدنا على تحديد مصدر هذا الخلل ومعالجة أسبابه.

ونحن على يقين أن هذا الأسلوب النقدي ليس فيه تحامل على أحد من الأئمة المتأخرين، بل يشكل نقطة احترامنا وتقديرنا لهم ما دمنا ملتزمين في النقد بما تعارف عليه \"المتقدمون من نقاد الحديث\". ولله تعالى الحمد والشكر.

المبحث الأول: تعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع

أولاً: نص ابن الصلاح في مسألة التعارض:

قال ابن الصلاح ( رحمه الله تعالى) في مبحث الانقطاع: الخامس من فروع الانقطاع:

الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلا وبعضهم متصلا، اختلف أهل الحديث في أنه ملحق بقبيل الموصول، أوبقبيل المرسل، مثاله: \"لا نكاح إلا بولي\".

رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مسنداً هكذا متصلاً، ورواه سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مرسلاً هكذا، فحكى الخطيب الحافظ: أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل، وعن بعضهم أن الحكم للأكثر، وعن بعضهم أن الحكم للأحفظ.

فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله، ثم لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته، ومنهم من قال: من أسند حديثا قد أرسله الحفاظ، فإرسالهم له يقدح في مسنده وفي عدالته وأهليته، ومنهم من قال الحكم لمن أسنده، إذا كان عدلاً ضابطاً، فيقبل خبره، وإن خالفه غيره، سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة، قال الخطيب: هذا القول هو الصحيح.

قلت يعني ابن الصلاح: \"وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله، وسئل البخاري عن حديث: \"لا نكاح إلا بولي\" المذكور فحَكمَ لمن وصله وقال: الزيادة من الثقة مقبولة، فقال البخاري هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان، وهما جبلان، لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية.

ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصله هو الذي أرسلهº وصله في وقت وأرسله في وقت، وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ووقفه بعضهم على الصحابي أو رفعه واحد في وقت ووقفه هو أيضا في وقت آخر فالحكم على الأصح في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع، لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه، لأنه علم ما خفي عليه، ولهذا الفصل تعلق بفصل زيادة الثقة في الحديث.

وتبعه في ذلك اللاحقون. لكن نجد فيهم من يستدرك على ابن الصلاح كما سيأتي تفصيله إن شاء الله (تعالى).

ثانياً: تحليل النص والتعقيب عليه:

إن مسألة تعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع، كثيرا ما ترد في كتب العلل كنماذج واقعية لأخطاء الرواة الثقات أو الضعفاء غير المتروكين، وقد أشار إلى ذلك ابن الصلاح رحمه الله تعالى بقوله في مبحث العلة، \"وكثيراً ما يعللون الموصول بالمرسل\".

كما أن هذه المسألة قائمة على زيادة الثقة بقدر كبيرº ذلك أنه إذا كان الثقة هو الذي وصل الإسناد المرسل فإن وصله يعدّ زيادة في السند حيث رواه غيره مرسلاً، وكذلك إذا روى الحديث الموقوف مرفوعاً فيكون رفعه زيادة في السند إذ رواه غيره موقوفاً على الصحابي.

وعلى ذلك فذكر هذه المسألة في مباحث الانقطاع بين موضوعي العنعنة والتدليس ليس مبرراً لا موضوعياً ولا منهجياًº إذ إن التعارض والاختلاف بين الوصل والإرسال وكذا بين الوقف والرفع، مسألة لا صلة لها بالانقطاعº ولهذا أورد فضيلة الأستاذ نور الدين عتر ( حفظه الله تعالى) تلك المسألة في نوع زيادة الثقة في كتابه \"منهج النقد في علوم الحديث\"، هذا وقد صرح الإمام ابن الصلاح بذلك حين قال: \"ولهذا الفصل تعلق بـ: فصل زيادة الثقة في الحديث\". وقد أقره السخاوي بقوله: \"وكان الأنسب ضمه لزيادات الثقات لتعلقه كما قال ابن الصلاح به \"º ولذلك لم يضع ابن الصلاح عنواناً بارزاً لهذا الموضوع، بل جعله خامس فروع الانقطاع.

كما أنه لم يتعرض لمسألة تعارض الوقف والرفع إلا في آخر كلامه وعلى سبيل الاستطراد، بخلاف صنيع اللاحقينº فإنهم قد وضعوا له عنوان: \"تعارض الوصل والإرسال والوقف والرفع\"، وهنا يزداد الخلل أكثر في ترتيب الأنواع إذ لا مناسبة هنا في مباحث الانقطاع لذكر مسائل التعارض.

إن موضوع هذا النوع كما ترى شامل لرواية الضعفاء ورواية الثقات، وصلته بنوع العلة تكون ظاهرة من حيث إن الوصل في المرسل، والرفع في الموقوف، بحاجة إلى تحري ثبوت ذلك، وتتبع القرائن والملابسات، ولهذا فإن الأنواع: العلة وتعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع، وزيادة الثقة: كلها تشكل وحدة موضوعية، وبالتالي يجب أن يكون طرح أي نوع منها في ضوء صلته الوثيقة بالآخر حتى لا يحدث لَبس ولا غموض في بيان صوره وتحرير أحكامه.

والذي يجب ذكره في هذا الصدد هو أن هذه الوحدة الموضوعية لم تتبلور في النصوص السابقة، مع كون ذلك أمرا مهما في معالجة مثل هذا النوع من أنواع علوم الحديث، ونتج عن ذلك اضطراب كبير في تجلية المسائل المتعلقة بهº مما لفت أنظار غير واحد من المحققين إلى الاستدراك على ابن الصلاح.

يقول الحافظ ابن حجر في هذا الصدد: \"وهنا شيء يتعين التنبيه عليه وهو: أنهم شرطوا في الصحيح أن لا يكون شاذاً، وفسروا الشاذ بأنه ما رواه الثقة فخالفه من هو أضبط منه أو أكثر عدداً، ثم

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply