قبسات من السنة النبوية


  بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..

وبعد: فإن للمسلمين بعضهم على بعض حقوقا يجب عليهم أن يراعوها.

وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض هذه الحقوق بقوله: (حق المسلم على المسلم خمس: ردٌّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.صحيح البخاري، رقم 1240، الجنائز (3/112)، صحيح مسلم، رقم 2162 السلام، (ص1704).

ففي هذا الحديث الشريف يبين لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة حقوق للمسلمين بعضهم على بعض، وحقوق المسلمين على إخوانهم كثيرة، وإنما المقصود بيان ما يحتاج السامعون إلى معرفته، وهذا المنهج البياني موجود في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث يعبِّر أحيانا عن الكل بالبعض، إما للاهتمام بهذا البعض، أو لأن السامعين الذين يخاطبهم بهذا البيان بحاجة إلى معرفة هذه الأمور التي خصها بالذكر، وأحيانًا يُسأل عن شيء فيجيبُ بذكر بعض أفراد العام مراعاة لحال السائل ونحو ذلك.

وأحيانًا يكون من الحكمة في تخصيص بعض الوصايا بالذكر كونُها تحقق واحدا من أهداف الشريعة، فهذه الوصايا الخمس مثلا كلٌّها تؤدي إلى تقوية الأخوة الإسلامية بين أفراد المسلمين، وهذا لون من ألوان البلاغة النبوية في جمع الخصال التي تؤدي إلى تقوية أمر من أمور الدين المهمة، ودرء بعض المفاسد التي تحطم الأخلاق وتهدد كيان الأمة.

فالسلام هو الباب الذي يتم به التعارف بين أفراد المسلمين، فإذا وجد التعارف تكونت المودة والمحبة بين القلوب، وتلك عوامل مهمة في وجود الأخوة الإسلامية وتقويتها.

 

وإذا كانت هذه الفوائد موجودة في ابتداء السلام فإنها متوافرة بشكل أوضح في رد السلام، حيث إن عدم رد المسلم على أخيه إذا سلَّم عليه يُوَلِّد في قلبه عليه شيئا من الحقد والضغينة، والأخلاق السيئة بين المسلمين تُضعف من مفعول الأخوة الإيمانية بينهم، فلذلك بيَّن العلماء أن رد السلام واجب وابتداءَه سنة، لأن ابتداء السلام تترتب عليه تلك المنافع ولا يترتب على فقده ضرر مباشر بين فردين من المسلمين، بخلاف عدم رد السلام فإنه يورث علاقة سيئة بين أفراد المسلمين.

 

أما عيادة المريض فإنها من المواساة والوفاء بين أفراد المسلمين، فالمسلم بوجوده داخل المجتمع الإسلامي يُعدٌّ لبنة من لبنات هذا المجتمع وعضوا فعالا فيه، يسهم في عمرانه وحيويته، ويبذل طاقته في إعزازه والرفع من شانه، فإذا مرض هذا الفرد المسلم فقد تعطل جزء من مكونات هذا المجتمع، فكان من حقه على إخوانه الذين يشاركونه في بناء هذا المجتمع أن يزوروه ليشعروه بأنهم معه في السراء والضراء، وأنهم يشكرونه على ما قدم من خدمة مجتمعه الإسلامي، ويرجون له الشفاء ليعود إلى المشاركة في عمارة المجتمع، ولذلك كان من وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن قام بعيادة أخيه المريض أن يقول: (اللهم أشف عبدك ينكأ لك عدوا ويمشي لك إلى الصلاة). مسند أحمد 2/172، سنن أبي داود، رقم 3107، الجنائز (3/480).

وفي هذا بيان لأبلغ مهمات المسلم في حالي السلم والحرب، كما أن في عيادة المسلم لأخيه تسليةً له ورفعا لمعنوياته، حتى لا يكون مرضه الجسماني سببا في مرض نفسي، ولذلك ينبغي تذكيره بالصبر على قدر الله - تعالى -والرضى بقضائه وما أعده لعباده الصابرين من الأجر الجزيل ومغفرة الذنوب، وفي هذا المعنى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لمن يعوده: (لا بأس عليك طَهور إن شاء الله). صحيح البخاري، رقم 7470، التوحيد (13/447).

 

فالمريض في حال المرض يكون منكسر النفس سريع التأثر بالوساوس الشيطانية إن لم يعصمه الله - تعالى -باليقين والرضى، والشيطان حريص على أن يستغل ضعف المسلم حال مرضه ليضعف من ثقته بالله - عز وجل - وتوكله عليه فيحاول زلزلة إيمانه.

وعيادة المريض من إخوانه المؤمنين تقوي إيمانه وتشد من عزيمته، وتُسري عنه من همومه، حيث يشعر بأنه وإن كان قعيد البيت فإنه مازال عضوا فعالا في المجتمع، لأن الذين كان يراهم في المساجد والأسواق ودور العمل قد أصبحوا يأتون إليه في بيته فيواسونه ويؤنسونه، فهو لم يفقد بمرضه صلته بالمجتمع.

أما اتباع الجنازة فإن فيه مراعاةً لحق الأخ الميت وحقوق أقاربه الأحياء، فالمسلم إذا فارق هذه الحياة فإن حقوقه على إخوانه لا تنقطع بموته، لأن هذه الحقوق ليست مقابل عوض يحصل عليه من يؤديها في هذه الحياة الدنيا ولكنه ينتظر أجرها الكبير عند الله - تعالى -في الحياة الآخرة.

وإن من حق المسلم الذي شاركَنا العمل في بناء هذا المجتمع الإسلامي أن نوفيه حقه بعد أن يغادر حياة العمل إلى دار الجزاء، وأن ندعو له دعاءً صالحا كي يحصل على السعادة في دار الخلد بعدما قدَّم من عمل في دار الفناء.

وهنا نجد الفرق كبيرًا بين المسلمين الذين يعرفون حق إخوانهم بعد موتهم وبين غير المسلمين الذين تنتهي علاقاتهم بانتهاء هذه الحياة الدنيا.

إن المسلم حين يموت لا ينتهي وجوده، بل ينتقل من مرحلة من مراحل الحياة إلى مرحلة أخرى وهي الحياة البرزخية ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحياة الخالدة، فإذا مات أخونا في الإسلام فإننا لم نفقده إلى الأبد، وإنما سبَقَنا إلى المرحلة الثانية ونحن به لاحقون، فمن حقه علينا أن نؤدي حقوقه بعد الموت، من تشييع جنازته والدعاء له وزيارته في قبره، فإن ذلك يُعدٌّ دليلا على تخلق فاعل ذلك بخلق الوفاء، حيث لم ينس أخاه الذي انتقل إلى عالم آخر.

وذلك كله من عوامل تكوين الأخوة الإسلامية وتقويتها فإن أقارب الميت بحاجة إلى من يواسيهم ليشعروا بأن إخوانهم المسلمين معهم، وأنهم إن فقدوا فردا منهم فإنهم لم يعدموا إخوانا لهم في الله كثيرين.

أما إجابة دعوة المسلم إذا دعا إخوانه إلى طعامه فإن ذلك يُعدٌّ تطييبا لقلبه ووفاء بحقه، وذلك الاجتماع وسيلة من وسائل اللقاء بين المؤمنين وإذا اجتمع المسلمون بأبدانهم فحريُّ بهم أن يجتمعوا بقلوبهم، فلذلك كانت هذه المناسبات من أهم عوامل تكوين الأخوة الإسلامية وتقويتها.

وإجابة الدعوة سنة إلا إذا كانت في مناسبة زواج والداعي هو الزوج فإنها تكون واجبة ما لم يشتمل المكان على محرمات.

 

أما تشميت العاطس فإنه من تبادل الدعاء بين المسلمين، فالمسلم حينما يتخلص بالعطاس من الأذى فيحمدُ الله - تعالى -فإن أخاه مأمور بأن يدعو له بالرحمة، ثم هو مأمور بأن يدعو لأخيه بالهداية وصلاح البال، فهذا ربط رائع للمسلم بربه - جل وعلا - فهو الذي يشفي من الأمراض فله الحمد والشكر وهو الذي يرحمنا فيتجاوزُ عن تقصيرنا ويمنٌّ علينا بالفضل، وهو الذي يهدينا إلى الصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة.

وكون المسلم يشارك أخاه فرحته في تخلصه من الأذى ويتبادل معه الدعاء الصالح مما يوثق الأخوة الإسلامية بينهما، وإذا توثقت الأخوة بين الأفراد تكوَّن المجتمع الصالح.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply