الوصايا الثلاث


 بسم الله الرحمن الرحيم 

 قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - \"اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن\" صلى الله على سيدنا محمد ـ فقد أوتي كما قال ـ جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراًُ، وهذا الحديث الموجز الجامع تندرج تحته أشياء كثيرة، وإن كان كتب في سطر أو نحوه، لو أمعنا النظر فيه وتدبرناه جيدا لخرجنا منه بفوائد جمة قد تفيدنا وتفيد المجتمع كله، فإن فيه ما إن الكل في حاجة إليه، بدءاً من الفرد إلى المجتمع، فهو يحدد العلاقة بين الفرد ونفسه، وبينه وبين مجتمعه، وبينه وبين الله - تعالى - قبل كل شيء، وكل هذا فيه، ولو لم يطبق الناس في حياتهم إلا هذا الحديث لكفاهم.

  قد يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بهذا الحديث أحد الصحابة، ولكنه من خلاله يخاطب الأمة كلها إلى قيام الساعة، فيجب على كل فرد في هذه الأمة سابقا أو لاحقا يقرأ هذا الحديث أن يصغي له سمعه، ويجعل في نفسه كأنه هو المخاطب والمقصود به، وبدأ - صلى الله عليه وسلم - بالعلاقة بين العبد وربه. لأن الكل منه - سبحانه -، فالمبدأ منه والمعاد إليه، والواجب على العباد أن يحددوا علاقتهم به. كيف هذه العلاقة؟ هل هي علاقة متصلة أو منفصلة؟ أهي علاقة حب أو خوف أم رجاء؟...

 

  فإذا تحددت هذه العلاقة أمكن للعبد أن يسير في حياته ومجتمعه في حدودها، والتقوى هي ثمرة لها فإذا كانت العلاقة بين العبد و ربه متصلة فإنه يسير في حدود الله التي رسمها لعباده، لا يتخطاها ولا يتعداها، لأن علاقته به متصلة، ولهذا فهو يتقيه، لأنه يعلم أنه مراقب له، مطلع عليه، أما إذا كانت العلاقة بينهما منفصلة، فإنه يسير غير مكثرت بأي شيء.لأنه قد قطع الحبل الذي يربطه بربه.

  ولهذا يوصينا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، الوصية الأولى، التي بها نحدد علاقتنا بربنا فيقول \"اتق الله حيثما كنت\" والتقوى ثمرة المعرفة، فتوقى الشيء تكون بعد معرفته، فمثلا الإنسان يعرف النار، ويعرف بأن خاصيتها الإحراق، فلذلك هو يتوقاها ويأخذ حذره منها عندما تكون مشتعلة فلا يقربها. فتوقيه النار جاء بعد معرفته بها، وهكذا فهذه هي التقوى تكون نتيجة للمعرفة دائما.

 وتقوى الله بالضرورة تجئ بعد معرفته، فلا بد من معرفة الله أولا، وكيف نعرفه؟ نعرفه بأسمائه وصفاته وأفعاله. نعرفه بأنه واحد في ذلك كل - سبحانه -، لا شريك له. فإذا عرف الإنسان كل هذا فإنه بطبيعة الحال يحس بمشاعر الرهبة والرغبة تجاه خالقه العظيم، وسيحاول أن يتقرب منه أكثر وينفر من كل ما من شأنه أن يبعده عنه. ولهذا يأمرنا نبينا ومعلمنا - صلى الله عليه وسلم - بأن نتقيه حيثما كنا، نتقي غضبه وسخطه، نجعل ما بيننا وبين كل ما نهانا عنه وحرمه وقاية، حتى لا نقع فيما حذر علينا، ونظل دائما أقرب إليه كما هو أقرب إلينا منا.

 إن الإنسان ماذا في هذه الدنيا فهو معرض دائما للزلل، وليس معصوما عن ذلك، وقد يحرص على نفسه ويأخذ حذره، ولكن تجئ فترة ضعف يغلب فيها على أمره ويزل قدمه، أو يتعثر في خطوه ويسقط. ولهذا يعلمنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن لا نستسلم للخطأ أو الزلل ونتغلب عليه. فإذا حدث وتعثر الإنسان في طريقه وسقط على الأرض فإنه يقوم وينفض عنه ما علق به من غبار، ويتابع سيره، ولا يظل هناك جالسا لأنه ما كان يحق أن يقع له ذلك. لا. فمن طبيعة الطريق أنك قد تتعثر فيها، ولست بمنأى عن ذلك. فهكذا الحياة الدنيا مادام الإنسان فيها لا يسلم من التعثر والزلل بسبب ما قد يعترضه، ولكن لا ينبغي له أن يستسلم لما يحدث له.

 وكما أن لقانون السير في الطريق عقوبات للمخالفين، فإذا ارتكب أحدهم مخالفة يسرع إلى محوها بأداء ما ترتب عليه فيها، حتى لا تكتب عليه، ويحال الأمر للقضاء ليحكم عليه بغرامة أشد، فكذلك جعل الله لمن خالف قانون السير في طريق الآخرة عقوبات تترتب عليها، فيجب على المخالف أن يسرع فور وقوع ذلك إلى محوها حتى لا يترتب عليه ما هو أشد.

 ولهذا يوصينا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوصية الثانية، فيقول\" واتبع السيئة الحسنة تمحها\" إن النقطة الواحدة على صفحة المرآة لا تشينها، ولكن إذا تكاثرت تسودها، ولم يعد لوجه الإنسان فيها مرأى. كذلك القلب كما أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا أذنب الإنسان ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا استغفر محيت وإلا بقيت على حالها، فإذا عاد للذنب نكتت أخرى، وهكذا حتى يغلف القلب بالسواد فيطبع الله عليه حينئذ.

 فذلك الران الذي يقول الله عنه\" كلا بل ران على قلوبهم ما كان يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم\" ولذلك فمن رحمة الله بعباده أنه كما جعل لهم الماء مطهرا لدرن أجسادهم جعل لهم ما يطهرهم به من درن قلوبهم، فقال - سبحانه -\" إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين\" وهنا يقول - صلى الله عليه وسلم -\" واتبع السيئة الحسنة تمحها\" فالحسنة الواحد قد تمحو السيئة فكيف إذا تضاعفت؟... فالله - تعالى - يضاعف الحسنة ولا يضاعف السيئة وما ذلك إلا ليطهر عباده من آثارها تماما. قال تعالى\" من جاء بالحسنة لفه عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون\".

ثم تأتي بعد ذلك الوصية الثالثة والأخيرة، والتي بها نحدد علاقتنا بغيرنا من الناس جميعا فقال \"وخالق الناس بخلق حسن\" إن الإنسان كما قالوا اجتماعي بطبعه، فهو لا يعيش وحده. حتى إن الله - تعالى - لما خلق آدم وأسكنه الجنة لم يتركه وحده، بل خلق له زوجة من جنسه لتؤنسه ويسكن إليها. لهذا كان لا بد للإنسان أن يحرص على علاقته بأخيه لئلا يشوبها شيء يعكر صفوها فتحدث القطيعة، ويصبح بعد ذلك وحيدا. وعالمنا اليوم الذي يموج بملايين من البشر ما ذلك إلا نتيجة لأفراد كونوا أسرا، فتكونت بعد ذلك المجتمعات.

  وحرصا على بقاء هذه المجتمعات البشرية القائمة لا بد من وضع قوانين تحكم تصرفاتهم، وتجعل لهم حدودا لا يتخطوها فيتعدوا على حق غيرهم، بدءا من أول فرد إلى آخره، كيفما كان، وكيفما كان مستواه، ولا بد أن تجمع أفرادها أواصر لا يفكها شيء حتى تظل قوية متماسكة. ولا بد أن تكون لهم أخلاق حميدة يتعاملون على أساسها بينهم وبين غيره من المخلوقات، إن هذه الأخلاق طبيعة في الإنسان جبل عليها وسجية ينزع إليها، وفيها الحسنة والقبيحة، وكلاهما في، فإلى أي منهما مال عرف به، وهذا ما جاء الدين الإسلامي ليبينه ويؤكد عليه، وجاءت جميع الرسل تدعو إليه، وآخرهم رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال\" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق\" وقال\" أقربكم مجلسا مني يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً\" وهنا يوصينا أن يخالق كل منا الناس جميعهم ويعاملهم على أساس من الأخلاق الحسنة، حتى تظل الأواصر التي تربط بين أفراد المجتمع البشري قائمة متينة العرى، وحتى تسود المحبة وتسري في صدور الجميع، ويعم السلام والأمن ربوع الأرض كلها ويعيش الناس كلهم في سعادة وصفاء، أمة واحدة تجمعها كلمة الله الواحد تحت راية دينه الواحد.

 هذا ما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتحقيقه، فهل نسير على دربه، وننهج نهجه، ونهتدي بهديه حتى يكون لنا ذلك؟؟!.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply