الكبائر


 بسم الله الرحمن الرحيم
1- حَدَّثَني عَمرُو بن مُحمَّدِ بنُ بُكَيرِ بنِ مُحَمَّدٍ, النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسمَاعِيلُ بنُ عُلَيَّةَ، عَن سَعِيدٍ, الجُرَيرِيِّ، حَدَّثَنَا عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أَبِي بَكرَةَ، عَن أَبِيهِ قَالَ:
كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- فَقَالَ: \"أَلاَ أُنَبِّئُكُم بِأَكبَرِ الكَبَائِر -ثَلاَثاً- الإِشرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ، وَشَهَادَةُ الزٌّورِ (أَو قَولُ الزٌّورِ)\".
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلنَا: لَيتَهُ سَكَتَ.
2- وَحَدَّثَنِي يَحيَىَ بنُ حَبِيبٍ, الحَارِثِيٌّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ: ابنُ الحَارِثِ- حَدَّثَنَا شُعبَةُ، أَخبَرَنَا عُبَيدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكرٍ,، عَن أَنَسٍ,:
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- فِي الكَبَائِرِ قَالَ: \"الشِّركُ باللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ، وَقَتلُ النَّفسِ، وَقَولُ الزٌّورِ\".
3- وَحَدَّثَنَا مُحمَّدُ بنُ الوَلِيدِ بنِ عَبدِ الحميدِ، حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بنُ جَعفَرٍ,، حَدَّثَنَا شُعبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكرٍ, قَالَ: سَمِعتُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ, قَالَ:
ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- الكَبَائِرَ -أَو سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ- فَقَالَ: \"الشِّركُ بِاللَّهِ، وَقَتلُ النَّفسِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ\".
وَقَالَ: \"أَلاَ أُنَبِّئُكُم بِأَكبَرِ الكَبَائِرِ؟\"
قَالَ: \"قَولُ الزٌّورِ -أَو قَالَ: شَهَادَةُ الزٌّورِ-\".
قَالَ شُعبَةُ: وَأَكبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ شَهَادَةُ الزٌّورِ.
--------------------------------------------
فيه (أَبُو بَكرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- فقال: (أَلاَ أُنَبِّئُكُم بِأَكبَرِ الكَبَائِرِ -ثَلاَثاً- الإِشرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ، وَشَهَادَةُ الزٌّورِ -أَو قَولُ الزٌّورِ- وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلنَا: لَيتَهُ سَكَتَ).
قال مسلم -رحمه اللَّه-: (وَحَدَّثَنِي يَحيَىَ بنُ حَبِيبٍ, الحَارِثِيٌّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ: ابنُ الحَارِثِ- حَدَّثَنَا شُعبَةُ، أَخبَرَنَا عُبَيدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكرٍ,، عَن أَنَسٍ, عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- فِي الكَبَائِرِ قَالَ: الشِّركُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ، وَقَتلُ النَّفسِ، وَقَولُ الزٌّورِ).
قال مسلم -رحمه اللَّه-: (وَحَدَّثَنِي مُحمَّدُ بنُ الوَلِيدِ بنِ عَبدِ الحميدِ، حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بنُ جَعفَرٍ,، حَدَّثَنَا شُعبَةُ، حَدَّثَنِي عُبَيدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكرٍ, قَالَ: سَمِعتُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ, -رضي الله عنه- قَالَ:
ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- الكَبَائِرَ -أَو سُئِلَ عَنِ الكَبَائِرِ- فَقَالَ: الشِّركُ بِاللَّه، وَقَتلُ النَّفسِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَينِ.
وَقَالَ: أَلاَ أُنَبِّئُكُم بِأَكبَرِ الكَبَائِرِ؟
قَالَ: قَولُ الزٌّورِ -أَو قَالَ: شَهَادَةُ الزٌّورِ-).
قَالَ شُعبَةُ: وَأَكبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ شَهَادَةُ الزٌّورِ). (ج/ص: 2/83)
4- حَدَّثَنِي هَرُونُ بنُ سَعِيدٍ, الأَيلِيٌّ، حَدَّثَنَا ابنُ وَهبٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيمَانُ بنُ بِلالٍ,، عَن ثَورِ بنِ زَيدٍ,، عَن أَبِي الغَيثِ، عَن أَبِي هُرَيرَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- قَالَ: \"اجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ\".
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟
قَالَ: \"الشِّركُ بِاللَّهِ، وَالسِّحرُ، وَقَتلُ النَّفسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهِ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَأَكلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَأَكلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَومَ الزَّحفِ، وَقَذفُ المُحصَنَاتِ الغَافِلاَتِ المُؤمِنَاتِ\".
5- حَدَّثَنَا قُتَيبَةُ بنُ سَعِيدٍ,، حَدَّثَنَا اللَّيثُ، عَنِ ابنِ الهَادِ، عَن سَعدِ بنِ إِبرَاهِيمَ، عَن حُمَيدِ بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ، عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- قَالَ: \"مِنَ الكَبَائِرِ شَتمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ\".
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَهَل يَشتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ؟
قَالَ: \"نَعَم يَسُبٌّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبٌّ أَبَاهُ، وَيَسُبٌّ أُمَّه، فَيَسُبٌّ أُمَّهُ\".
6- وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكرِ بنُ أَبِي شَيبَةَ، وَمُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى، وَابنُ بَشَّارٍ,، جَمِيعاً عَن مُحمَّدِ بنِ جَعفَرٍ,، عَن شُعبَةَ،ح، وَحَدَّثَنِي مُحمَّدُ بنُ حَاتِمٍ,، حَدَّثَنَا يَحيَىَ بنُ سَعِيدٍ,، حَدَّثَنَا سُفيَانُ، كِلاَهُمَا عَن سَعدِ بنِ إِبرَاهِيمَ بِهَذَا الإسنَادِ مِثلَهُ.
--------------------------------------------
وعن أبي الغيث، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- قال: اجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟
قَالَ: الشِّركُ بِاللَّهِ، وَالسِّحرُ، وَقَتلُ النَّفسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَأَكلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَأَكلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَومَ الزَّحفِ، وَقَذفُ المُحصَنَاتِ الغَافِلاَتِ المُؤمِنَاتِ).
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: (أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- قال: مِنَ الكَبَائِرِ شَتمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَهَل يَشتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ؟
قَالَ: نَعَم يَسُبٌّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبٌّ أَبَاهُ، وَيَسُبٌّ أُمَّه، فَيَسُبٌّ أُمَّهُ).
أمَّا أبو بكرة: فاسمه: نفيع بن الحرث وقد تقدَّم.
وأمَّا الإسنادان اللَّذان ذكرهما فهما بصريٌّون كلٌّهم من أوِّلهما إلى آخرهما، إلاَّ أنَّ شعبة واسطيُّ بصريُّ فلا يقدح هذا في كونهما بصريِّين، وهذا من الطٌّرف المستحسنة، وقد تقدَّم في الباب الَّذي قبل هذا نظيرهما في الكوفيِّين.
وقوله: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ -وَهُوَ: ابنُ الحَرثِ-) قد قدَّمنا بيان فائدة قوله:(وَهُوَ: ابنُ الحَرثِ) ولم يقل: خالد بن الحرث، وهو أنَّه إنَّما سمع في الرِّواية خالد، ولخالد مشاركون فأراد تمييزه. (ج/ص: 2/84)
ولا يجوز له أن يقول: حَدَّثَنَا خالد بن الحرث، لأنَّه يصير كاذباً على المرويِّ عنه، فإنَّه لم يقل: إلاَّ خالد فعدل إلى لفظة: (وَهُوَ: ابنُ الحَرثِ) لتحصل الفائدة بالتَّمييز والسَّلامة من الكذب.
وقوله: (عُبَيدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكرٍ,) هو: أبو بكر بن أنس بن مالك، فعبيد الله يروي عن جدِّه.
وقوله: (أَكبَرُ ظَنِّي) هو: بالباء الموحَّدة، وأبو الغيث اسمه: سالم.
وقوله في أوَّل الباب: (عَن سَعِيدٍ, الجُرَيرِيِّ) هو: بضمِّ الجيم منسوب إلى جرير مصغَّر، وهو: جرير بن عبَّاد، بضمِّ العين وتخفيف الباء، بطن من بكر بن وائل، وهو: سعيد بن إياس أبو مسعود البصريِّ.
وأمَّا الموبقات: فهي المهلكات يقال: وبَق الرَّجل بفتح الباء، يبِق بكسرها، ووُبِق بضمِّ الواو وكسر الباء يوبق إذا هلك، وأوبق غيره أي: أهلكه.
وأمَّا الزٌّور: فقال الثَّعلبيٌّ المفسِّر وأبو إسحاق وغيره: أصله تحسين الشَّيء ووصفه بخلاف صفته، حتَّى يخيَّل إلى من سمعه أو رآه أنَّه بخلاف ما هو به، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنَّه حقُّ.
وأمَّا المحصنات الغافلات: فبكسر الصَّاد وفتحها قراءتان في السَّبع، قرأ الكسائيٌّ بالكسر، والباقون بالفتح، والمراد بالمحصنات هنا: العفائف، وبالغافلات: الغافلات عن الفواحش وما قذفن به.
وقد ورد الإحصان في الشَّرع على خمسة أقسام: العفَّة، والإسلام، والنِّكاح، والتَّزويج، والحريَّة، وقد بيَّنت مواطنه وشرائطه وشواهده في كتاب (تهذيب الأسماء واللٌّغات) واللَّه أعلم.
وأمَّا معاني الأحاديث وفقهها فقد قدَّمنا في الباب الَّذي قبل هذا كيفية ترتيب الكبائر.
قال العلماء -رحمهم اللَّه-: ولا انحصار للكبائر في عدد مذكور.
وقد جاء عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- أنَّه سئل عن الكبائر أسبع هي؟
فقال: هي إلى سبعين، ويروى إلى سبعمائة أقرب.
وأمَّا قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم-: (الكَبَائِرُ سَبعٌ) فالمراد به من الكبائر سبع، فإنَّ هذه الصِّيغة وإن كانت للعموم فهي مخصوصة بلا شكٍّ,، وإنَّما وقع الاقتصار على هذه السَّبع.
وفي الرِّواية الأخرى: ثلاث.
وفي الأخرى: أربع لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيَّما فيما كانت عليه الجاهليَّة، ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى، وهذا مصرَّح بما ذكرته من أنَّ المراد البعض.
وقد جاء بعد هذا من الكبائر شتم الرَّجل والديه، وجاء في النَّميمة وعدم الاستبراء من البول أنَّهما من الكبائر، وجاء في غير مسلم من الكبائر اليمين الغموس واستحلال بيت الله الحرام.
وقد اختلف العلماء في حدِّ الكبيرة وتمييزها من الصَّغيرة: فجاء عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: (كلٌّ شيء نهى الله عنه فهو كبيرة) وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراينيٌّ الفقيه الشَّافعيٌّ، الإمام في علم الأصول والفقه وغيره. (ج/ص: 2/85)
وحكى القاضي عياض -رحمه اللَّه- هذا المذهب عن المحقِّقين، واحتجَّ القائلون بهذا بأنَّ كلَّ مخالفة فهي بالنِّسبة إلى جلال الله كبيرة.
وذهب الجماهير من السَّلف والخلف من جميع الطَّوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، وهو مرويُّ أيضا عن ابن عبَّاس -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسٌّنَّة واستعمال سلف الأمَّة وخلفها.
قال الإمام أبو حامد الغزاليٌّ في كتابه (البسيط في المذهب): إنكار الفرق بين الصَّغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه، وقد فُهِمَا من مدارك الشَّرع.
وهذا الَّذي قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه، ولا شكَّ في كون المخالفة قبيحة جدَّاً بالنِّسبة إلى جلال اللَّه، ولكن بعضها أعظم من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى:
ما تكفِّره الصَّلوات الخمس، أو صوم رمضان، أو الحجّ، أو العمرة، أو الوضوء، أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة، أو غير ذلك ممَّا جاءت به الأحاديث الصَّحيحة.
وإلى ما لا يكفِّره ذلك كما ثبت في (الصَّحيح) ما لم يغش كبيرة، فسمَّى الشَّرع ما تُكَفِّره الصَّلاة ونحوها صغائر وما لا تكفِّره كبائر، ولا شكَّ في حسن هذا، ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنِّسبة إلى جلال اللهِ، فإنَّها صغيرة بالنِّسبة إلى ما فوقها لكونها أقلٌّ قبحاً، ولكونها متيسِّرة التَّكفير، واللَّه أعلم.
وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فقد اختلفوا في ضبطها اختلافاً كثيراً منتشراً جدَّاً، فروي عن ابن عبَّاس -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- أنَّه قال: الكبائر كلٌّ ذنب ختمه اللهُ بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، ونحو هذا عن الحسن البصريِّ.
وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار أو حَدٍّ, في الدٌّنيا.
وقال أبو حامد الغزاليٌّ في (البسيط): والضَّابط الشَّامل المعنوي في ضبط الكبيرة أنَّ كلَّ معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم، كالمتهاون بارتكابها والمتجرِّئ عليه اعتياداً، فما أشعر بهذا الاستخفاف والتَّهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النَّفس أو اللِّسان وفترة مراقبة التَّقوى، ولا ينفكٌّ عن تندٌّم يمتزج به تنغيص التلذٌّذ بالمعصية، فهذا لا يمنع العدالة وليس هو بكبيرة.
وقال الشَّيخ الإمام أبو عمرو بن الصَّلاح -رحمه اللَّه- في فتاويه: الكبيرة كلٌّ ذنب كبر وعظم عظماً يصحٌّ معه أن يطلق عليه اسم الكبير، ووصف بكونه عظيماً على الإطلاق.
قال: هذا حدٌّ الكبيرة ثمَّ لها أمارات: منها إيجاب الحدِّ، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنَّار ونحوها في الكتاب أو السٌّنَّة، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصَّاً، ومنها اللَّعن كلعن الله سبحانه وتعالى من غيَّر منار الأرض. (ج/ص: 2/86)
وقال الشَّيخ الإمام أبو محمَّد بن عبد السَّلام -رحمه اللَّه- في كتابه (القواعد): إذا أردت معرفة الفرق بين الصَّغيرة والكبيرة، فاعرض مفسدة الذَّنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليه، فإن نقصت عن أقلّ مفاسد الكبائر فهي من الصَّغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو ربت عليه فهي من الكبائر.
فمن شتم الرَّبَّ سبحانه وتعالى أو رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- أو استهان بالرٌّسل أو كذَّب واحداً منهم، أو ضمَّخ الكعبة بالعذرة، أو ألقى المصحف في القاذورات، فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرِّح الشَّرع بأنَّه كبيرة، وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو أمسك مسلماً لمن يقتله، فلا شكَّ أنَّ مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر.
وكذلك لو دلَّ الكفَّار على عورات المسلمين مع علمه أنَّهم يستأصلون بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم، فإنَّ نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من تولِّيه يوم الزَّحف بغير عذر مع كونه من الكبائر، وكذلك لو كذب على إنسان كذباً يعلم أنَّه يقتل بسببه، أمَّا إذا كذب عليه كذباً يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من الكبائر.
قال: وقد نصَّ الشَّرع على أنَّ شهادة الزٌّور وأكل مال اليتيم من الكبائر، فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في مال حقير فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطاماً عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة من خمر من الكبائر وإن لم تتحقَّق المفسدة، ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السَّرقة.
قال: والحكم بغير الحقِّ كبيرة، فإنَّ شاهد الزور متسبِّب والحاكم مباشر، فإذا جعل السَّبب كبيرة فالمباشرة أولى.
قال: وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنَّها: كلٌّ ذنب قُرِنَ به وعيد أو حدّ أو لعن، فعلى هذا كلٌّ ذنب علم أنَّ مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو الحدّ أو اللَّعن أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة.
ثمَّ قال: والأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليه، واللَّه أعلم.
هذا آخر كلام الشَّيخ أبي محمَّد بن عبد السَّلام -رحمه اللَّه-.
قال الإمام أبو الحسن الواحديٌّ المفسِّر وغيره: الصَّحيح أنَّ حدَّ الكبيرة غير معروف، بل ورد الشَّرع بوصف أنواع من المعاصي بأنَّها كبائر، وأنواع بأنَّها صغائر، وأنواع لم توصف وهي مشتملة على صغائر وكبائر، والحكمة في عدم بيانها أن يكون العبد ممتنعاً من جميعها مخافة أن يكون من الكبائر.
قالوا: وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، وساعة إجابة الدٌّعاء من اللَّيل، واسم الله الأعظم، ونحو ذلك ممَّا أخفي، واللَّه أعلم.
قال العلماء -رحمهم اللَّه-: والإصرار على الصَّغيرة يجعلها كبيرة. (ج/ص: 2/87)
وروي عن عمر وابن عبَّاس وغيرهما -رَضِيَ اللهُ عنهم-: (لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار) معناه: أنَّ الكبيرة تمحى بالاستغفار، والصَّغيرة تصير كبيرة بالإصرار.
قال الشَّيخ أبو محمَّد بن عبد السَّلام في حدِّ الإصرار: هو أن تتكرَّر منه الصَّغيرة تكراراً يشعر بقلَّة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك.
قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر.
وقال الشَّيخ أبو عمرو بن الصَّلاح -رحمه اللَّه-: المُصِرٌّ: من تلبَّس من أضداد التَّوبة باسم العزم على المعاودة أو باستدامة الفعل، بحيث يدخل به ذنبه في حيِّز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيراً عظيماً، وليس لزمان ذلك وعدده حصر، واللَّه أعلم.
هذا مختصر ما يتعلَّق بضبط الكبيرة.
وأمَّا قوله: (قال: أَلاَ أُنَبِّئُكُم بِأَكبَرِ الكَبَائِرِ -ثَلاثَاً-) فمعناه: قال هذا الكلام ثلاث مرَّات.
وأمَّا عقوق الوالدين فهو مأخوذ من العقِّ وهو القطع، وذكر الأزهريٌّ أنَّه يقال: عقَّ والده يعُقٌّه، بضمِّ العين، عقَّاً وعقوقاً، إذا قطعه ولم يصل رحمه، وجمع العاقّ: عَقَقَة، بفتح الحروف كلّها، وعقق بضمِّ العين والقاف.
وقال صاحب (المحكم): رجل عقق وعقق وعقّ وعاقّ بمعنى واحد، وهو الَّذي شقَّ عصا الطَّاعة لوالده، هذا قول أهل اللٌّغة.
وأمَّا حقيقة العقوق المحرَّم شرعاً فقلَّ مَن ضبطه.
وقد قال الشَّيخ الإمام أبو محمَّد بن عبد السَّلام -رحمه اللَّه-: لم أقف في عقوق الوالدين وفيما يختصَّان به من الحقوق على ضابط أعتمده، فإنَّه لا يجب طاعتهما في كلِّ ما يأمران به وينهيان عنه باتِّفاق العلماء، وقد حرّم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما يشقٌّ عليهما من توقٌّع قتله أو قطع عضو من أعضائه ولشدَّة تفجٌّعهما على ذلك، وقد ألحق بذلك كلَّ سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه، هذا كلام الشَّيخ أبي محمَّد.
وقال الشَّيخ أبو عمرو بن الصَّلاح -رحمه اللَّه- في فتاويه: العقوق المحرَّم: كلٌّ فعل يتأذَّى به الوالد أو نحوه تأذِّياً ليس بالهَيِّنِ مع كونه ليس من الأفعال الواجبة قال: وربما قيل: طاعة الوالدين واجبة في كلِّ ما ليس بمعصية، ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق، وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشٌّبهات.
قال: وليس قول من قال من علمائنا: يجوز له السَّفر في طلب العلم وفي التِّجارة بغير إذنهما، مخالفاً لما ذكرته، فإنَّ هذا كلام مطلق، وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق، واللَّه أعلم. (ج/ص: 2/88)
وأمَّا قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم-: (أَلاَ أُنَبِّئُكُم بِأَكبَرِ الكَبَائِرِ: قَولُ الزٌّورِ أَو شَهَادَةُ الزٌّورِ) فليس على ظاهره المتبادر إلى الإفهام منه، وذلك لأنَّ الشِّرك أكبر منه بلا شكٍّ,، وكذا القتل فلا بدَّ من تأويله، وفي تأويله ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه محمول على الكفر، فإنَّ الكافر شاهد بالزٌّور وعامل به.
والثَّاني: أنَّه محمول على المستحيل فيصير بذلك كافراً.
والثَّالث: أنَّ المراد من أكبر الكبائر كما قدَّمناه في نظائره، وهذا الثَّالث هو الظَّاهر أو الصَّواب.
فأمَّا حمله على الكفر فضعيف، لأنَّ هذا خرج مخرج الزَّجر عن شهادة الزٌّور في الحقوق.
وأمَّا قبح الكفر وكونه أكبر الكبائر فكان معروفاً عندهم، ولا يتشكَّك أحد من أهل القبلة في ذلك، فَحَملُه عليه يخرجه عن الفائدة، ثمَّ الظَّاهر الَّذي يقتضيه عموم الحديث وإطلاقه والقواعد أنَّه لا فرق في كون شهادة الزٌّور بالحقوق كبيرة بين أن تكون بحقِّ عظيم أو حقير، وقد يحتمل على بعد أن يقال فيه الاحتمال الَّذي قدَّمته عن الشَّيخ أبي محمَّد بن عبد السَّلام في أكل تمرة من مال اليتيم، واللَّه أعلم.
وأمَّا عدّه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- التَّولِّي يوم الزَّحف من الكبائر، فدليل صريح لمذهب العلماء كافَّة في كونه كبيرة، إلاَّ ما حكي عن الحسن البصريِّ -رحمه اللَّه- أنَّه قال: ليس هو من الكبائر، قال: والآية الكريمة في ذلك إنَّما وردت في أهل بدر خاصَّة، والصَّواب ما قاله الجماهير أنَّه عامُّ باق، واللَّه أعلم.
وأمَّا قوله: (فَكَانَ مُتَّكِئَاً فَجَلسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلنَا: لَيتَهُ سَكَتَ) فجلوسه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- لاهتمامه بهذا الأمر، وهو يفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه.
وأمَّا قولهم: (لَيتَهُ سَكَتَ) فإنَّما قالوه وتمنَّوه شفقة على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- وكراهة لما يزعجه ويغضبه.
وأمَّا عدَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم- السِّحر من الكبائر فهو دليل لمذهبنا الصَّحيح المشهور، ومذهب الجماهير: أنَّ السِّحر حرام من الكبائر فعله وتعلٌّمه وتعليمه.
وقال بعض أصحابنا: أنَّ تعلٌّمه ليس بحرام، بل يجوز ليعرف ويردٌّ على صاحبه ويميّز عن الكرامة للأولياء، وهذا القائل يمكنه أن يحمل الحديث على فعل السِّحر، واللَّه أعلم.
وأمَّا قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم-: \"مِنَ الكَبَائِرِ شَتمُ الرٌّجُلِ وَالِدَيهِ...\" إلى آخره.
ففيه: دليل على أنَّ من تسبَّب في شيء جاز أن ينسب إليه ذلك الشَّيء، وإنَّما جعل هذا عقوقاً لكونه يحصل منه ما يتأذَّى به الوالد تأذِّياً ليس بالهيِّن كما تقدَّم في حدِّ العقوق، واللَّه أعلم.
وفيه: قطع الذَّرائع، فيؤخذ منه النَّهي عن بيع العصير ممَّن يتَّخذ الخمر، والسِّلاح ممَّن يقطع الطَّريق ونحو ذلك، واللَّه أعلم. (ج/ص: 2/89) .

 

 

صحيح مسلم بشرح النووي .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply