التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في قسمي علوم الحديث


 بسم الله الرحمن الرحيم  

 


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ، فإن علم السنة علم جليل الخطر، عظيم الأثر، وقد نهض بخدمته علماء أجلاء، ورجال فضلاء من أفذاذ هذه الأمة المحمدية المرحومة، كانت لهم بمعرفته يد طولى، حيث ذبو الكذب عن حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ونفوا الخطاء والغلط، وبينوا الصحيح من السقيم ، وعانوا في سبيل ذلك ما عانوا من نصب وعناء ، وأجرهم على الله تعالى ، ولقد كان لهم في معرفة ذلك وتمييزه قواعد عظيمة ، ومسالك دقيقة ، مبنية على سعة الحفظ وقوة الاطلاع ، والمعرفة الدقيقة بأحوال الرواة والمرويات .
ولقد كان أئمة الحديث في عصور الازدهار من أمثال شعبة بن الحجاج ، ويحي القطان ، وابن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، وابن معين ، وابن المديني ، والبخاري ،ومسلم ،وأبي داود ،و الترمذي ، والنسائي ، وأبي زرعة ،وأبي حاتم وغيرهم – على نهج واحد وطريق متحد في عمومه مبني على النظر الدقيق،والتفتيش العميق في أحوال الرواة والمقارنة بين المرويات لتمييز الخطأ من الصواب .
وكان هذا المنهج واضحاً لهم تمام الوضوح كما هو واضح لمن اطلع على كلامهم وتأمل في أحكامهم ، وكتبهم بين أيدينا ، وهي شاهدة وناطقة بذلك ، وهذا لا يعني رفع الاختلاف بينهم ، بل الاختلاف واقع ، ولكن مع اتحاد الأصول العامة التي يسيرون عليها، وإنما ينتج الاختلاف في التطبيقات الجزئية لاختلاف النظر وتفاوت العلم بينهم في ذلك . فقد يطلع أحدهم على ما لم يطلع عليه الآخر ، وقد ينقدح في ذهن أحدهم مالم ينقدح في ذهن الآخر ، وقد يشدد أحدهم ويتسمح الآخر ، إلا أن ذلك لا يخرج عن الأصل العام الذي يسيرون عليه .
ثم ضعف علم السنة بعد ذلك ، وتكلم فيه من لم يتقنه ، وكثر ذلك ، حتى ظهرت قواعد جديدة ، وآراء غريبة في تمييز الصحيح من السقيم ، وقد قام بتطبيق هذه القواعد جملة من الفقهاء والأصوليين وغيرهم ، ثم تبناها بعض متأخري المحدثين ، وجعلوها قواعد في علم السنة امتلأت بها كتب المصطلح.ولازال كثير ممن عنى بخدمة السنة يطبق هذه القواعد المتأخرة في التمييز بين الصحيح و السقيم إلى هذا العصر ، ومن هنا انقسم الكلام في هذا العلم إلى قسمين وانتسبت إلى مدرستين ، وصار على منهجين :
الأول : منهج المتقدمين من أئمة الحديث :

كمن سبق ذكرهم ومن أهم ما يتميز به هذا المنهج ما يلي :
1- قاعدة عندهم في النظر عند الاختلاف بين الرواة -كاختلاف في وصل وإرسال أو رفع ووقف أو زيادة ونقص ونحو ذلك - مبنية على التأمل الدقيق في أحوال الرواة المختلفين والتأمل التام في المتن المروي ، فلا يحكمون للواصل مطلقاً سواء كان ثقة أو غير ثقة ، ولا يحكمون للمرسل – أيضاً – مطلقاً ، وكذا الزائد والناقص الخ .. وإنما يتأملون في ذلك فإن دلت القرائن على صواب المُرسِل حكموا به ، وإن دلت على صواب الواصل حكموا به ، وهكذا بقية الاختلاف ، وهذا أمر ليس بالهين ، بل يستدعي بحثاً دقيقاً ، ونظراً متكاملاً ، وتأملاً قوياً ، في الموازنة بين ذلك ، وإنما ساعدهم على هذا سعة حفظهم وقوة فهمهم وقربهم من عصر الرواية .
ولأجل هذا الأمر فإنهم لا يحكمون على إسنادٍ, بمفرده إلا بعد أن يتبين أن هذا الإسناد سالم من العلل ، كما قال ابن المديني \"الحديث إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه\" .
2- ومن أهم ما تميز به عمل الأئمة المتقدمين التفتيش في حديث الراوي ، وتمييز القوي منه وغير القوي ، وذلك أن الراوي قد يكون ثقة ، إلا أن في حديثه شيئاً في بعض الأحوال ، أو الأوقات ، أو عن بعض الشيوخ ، أو نحو ذلك ، فهم يهتمون بتمييز ذلك والتنبيه عليه ، وبناءً عليه فقد يكون الحديث خطاءً وإن كان راويه ثقة ، ولأجل هذا فإنهم قد جعلوا أصحاب الرواة المشاهير على طبقات متفاوتة بعضهم أتقن من بعض وهكذا .
3- ومن القضايا المهمة في هذا أن الأئمة المتقدمين كانت لهم عناية خاصة بنقد المتون ، والتنبيه على ما وقع فيها من خطأ ووهم ، وهذا كثير في كلامهم .
فهذه جملة من القضايا والميزات المهمة التي تميز بها عمل الأئمة المتقدمين في نقد السنة وتمييز صحيحها من سقيمها ، وليس القصد من ذلك الحصر ، فإن هناك قضايا أخرى متعلقة بإثبات السماع وعدمه والاتصال والانقطاع ، وأخرى في التدليس وغير ذلك .
المنهج الثاني : منهج المتأخرين أو منهج الفقهاء والأصوليين ومن تبعهم من متأخري المحدثين :

وقد تميز هذا المنهج بميزات أيضاً ، ومن أهمها ما يلي :
1- أهم ما يتميز به هذا المنهج أنهم قعدوا قواعد نظرية ثم طردوها ، مع أنهم قد يختلفون في بعض هذه القواعد ، فمن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة مطلقاً ، دون تحرٍ, في ذلك هل أصاب الثقة في هذه الزيادة أو أخطأ ، فإذا اختلف في وصل حديث وإرساله أو وقفه ورفعه ، وكان الواصل أو الرافع ثقة فقوله هو الصواب ، ومنهم من يقول المرسل هو المصيب لأن هو المتيقن ، فهذه قاعدة أخرى مقابلة للقاعدة السابقة ، وكل هذا مجانب المنهج أئمة الحديث ،ولهذا ذكر ابن رجب أن هذه الأقوال كلها لا تعرف عن أئمة الحديث المتقدمين . ويترتب على قاعدتهم في زيادة الثقة فروع كثيرة ليس المقصود حصرها .
2- وتبعاً للقاعدة السابقة في زيادة الثقة – أيضاً – فقد برز بوضوح في عمل المتأخرين الحكم على الأسانيد مفردة دون النظر في بقية طرق الحديث التي قد تظهر علة قادحة في هذا الإسناد المفرد ، وفي هذا المنهج هدم لجزء كبير مما اشتملت عليه كتب العلل، ولهذا قل اهتمامهم بهذه الكتب ، حتى لا تكاد تذكر إلا قليلاً مع أهميتها البالغة وجلالة مؤلفيها.
3- ومما يميز منهج المتأخرين أنهم لا يعتنون كثيراً بالتفريق بين أحاديث الراوي ، لأنهم لما حكموا بأنه ثقة ألزموا أنفسهم بقبول كل ما روى، ولهذا ظهر في العصور المتأخرة الحرص على إبداء كلمة مختصرة في الحكم على الراوي لتكون عامة في جميع رواياته .
4- ومن الأمور الظاهرة في منهج المتأخرين المبالغة الظاهرة في تقوية النصوص المعلولة بعضها ببعض ، وقد أسرف بعض المعاصرين في هذا جداً، وحتى قُوِّيَّ الخطأ بالخطأ فصار صواباً ،ولا شك أن تقوية النصوص بعضها ببعض أمر وارد عند أئمة الحديث المتقدمين ولكن ذلك على نطاق معين ،وله شروط وضوابط ، ولم يراعها كثير من المتأخرين.
وبناءاً على الاختلاف في المنهج بين المتقدمين والمتأخرين من خلال النقاط السابقة وغيرها مما لم أذكره ، ظهر اختلاف شديد وتباين واضح في الحكم على الأحاديث ، فوجدنا مئات الأحاديث التي نص الأئمة المتقدمون على ضعفها أو أنها خطأ ووهم ،قد صححها بعض المتأخرون ، وصار الأمر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من أن بعض المتأخرين عمدوا إلى أحاديث هي خطأ عند بعض الأئمة المتقدمين فصححها هؤلاء المتأخرون ثم عارضوا بها النصوص الثابتة فاحتاجوا إلى الجمع بينها فجاءوا بأوجهٍ, مستنكرة في الجمع بين هذه النصوص. وما ذكره أمر واقع لا شك فيه ، بل اضطر بعض المتأخرين إلى تبني أقوال مهجورة وآراء شاذة في بعض المسائل تبعاً لتصحيحه لبعض النصوص الساقطة والأوهام والأخطاء .والنتائج المترتبة على الاختلاف بين المنهجين عظيمة جداً ، وتمثل خطراً جسيماً على علم السنة إذ يُنسَب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت عنه ،بل ما يعلم أنه أخطئ عليه فيه، وهذه نتيجة طبيعية للفروق الكبيرة بين المنهجين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply