الهجرة


 بسم الله الرحمن الرحيم

 

ملخص الخطبة:

1- تعرضه  للإيذاء من قريش وإعراضهم عن دعوته. 2- مؤامرة الكفار لقتل النبي . 3- خروجه مع أبي بكر وتخفيه عن الكفار ومعية الله له. 4- استقبال أهل المدينة للرسول . 5- موقف اليهود من النبي- صلى الله عليه وسلم - . 

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

ففي هذا الشهر شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر من البعثة وصل النبي  إلى المدينة مهاجرا من مكة البلد الأول للوحي وأحب البلاد إلى الله ورسوله خرج من مكة مهاجرا بإذن ربه بعد أن أقام  بمكة ثلاث عشرة سنة يبلغ رسالة ربه ويدعو إليه على بصيرة فلم يجد من أكثر قريش وأكابرهم سوى الرفض لدعوته والإعراض عنها والإيذاء الشديد للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن به حتى آل الأمر بهم إلى تنفيذ خطة المكر والخداع لقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث اجتمع كبراؤهم في دار الندوة وتشاوروا ماذا يفعلون برسول الله  - صلى الله عليه وسلم - حين رأوا أصحابه يهاجرون إلى المدينة وأنه لابد أن يلحق بهم ويجد النصرة والعون من الأنصار الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم وحينئذ تكون له الدولة على قريش فقال عدو الله أبو جهل: الرأي أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جلدا ثم نعطي كل واحد سيفا صارما ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه فيتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع بنو عبد مناف - يعني عشيرة النبي  - أن يحاربوا قومهم جميعا فيرضون بالدية فنعطيهم إياها.

 

الله أكبر هكذا يخطط أعداء الله للقضاء على رسول الله وبهذا القدر من المكر والخديعة ولكنهم يمكرون ويمكر الله كما قال الله - عز وجل -: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}. فأعلم الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما أراد المشركون وأذن له بالهجرة وكان أبو بكر قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: (على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي) فتأخر أبو بكر  ليصحب النبي. قالت عائشة - رضي الله عنها -: فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار إذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الباب متقنعا فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فدخل النبي – صلى الله عليه وسلم - وقال لأبي بكر: (أخرج من عندك) فقال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (قد أذن لي في الخروج) فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله قال: (نعم) فقال يا رسول الله: فخذ إحدى راحلتي هاتين فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (بالثمن) ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليالٍ, يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وكان غلاما شابا ذكيا واعيا فينطلق في آخر الليل إلى مكة فيصبح مع قريش فلا يسمع بخبر حول النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه إلا وعاه حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام فجعلت قريش تطلب النبي - صلى الله عليه وسلم -  من كل وجه وتسعى بكل وسيلة ليدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم -  حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مائة من الإبل ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته حتى إن قريشا ليقفون على باب الغار فلا يرونهما.

قال أبو بكر  قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال: (لا تحزن إن الله معنا ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما). حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلا خرجا من الغار بعد ثلاث ليال متجهين إلى المدينة على طريق الساحل فلحقهما سراقة بن مالك المدلجي على فرس له فالتفت أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا تحزن إن الله معنا) فدنا سراقة منهما حتى إذا سمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاصت يدا فرسه في الأرض حتى مس بطنها الأرض وكانت أرضا صلبة فنزل سراقة وزجرها فنهضت فلما أخرجت يديها صار لأثرهما عثان ساطع في السماء مثل الدخان قال سراقة: فوقع في نفسي أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فناديتهم بالأمان فوقف رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - ومن معه فركبت فرسي حتى جئتهم وأخبرتهم بما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع وقال للنبي- - صلى الله عليه وسلم - : إنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا فخذ منها حاجتك. فقال: (لا حاجة لي في ذلك) وقال: (أخفِ عنا). فرجع سراقة وجعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده وقال: كفيتم هذه الجهة فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رجل ينطلق على فرسه طالبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه ليظفر بهما فيفخر بتسليمهما إلى أعدائهما من الكفار فلم ينقلب حتى عاد ناصرا معينا مدافعا يعرض عليهما الزاد والمتاع وما يريدان من إبله وغنمه ويرد عن جهتهما كل من أقبل نحوها وهكذا كل من كان الله معه فلن يضره أحد وتكون العاقبة له.

ولما سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم كانوا يخرجون صباح كل يوم إلى الحرة ينتظرون قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه حتى يطردهم حر الشمس فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وتعالى النهار واشتد الحر رجعوا إلى بيوتهم وإذا رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة ينظر لحاجة له فأبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مقبلين يزول بهم السراب فلم يملك أن نادى بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم يعني هذا حظكم وعزكم الذي تنتظرون فهبَّ المسلمون للقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم السلاح تعظيما وإجلالا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيذانا باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه - رضي الله عنهم - فتلقوه بظاهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء وأقام فيهم بضع ليال وأسس المسجد ثم ارتحل إلى المدينة والناس معه وآخرون يتلقونه في الطرقات قال أبو بكر : خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله ، الله أكبر جاء محمد. وقال أنس بن مالك : إني لأسعى بين الغلمان وأنا يومئذ غلام والناس يقولون: جاء محمد جاء محمد. هكذا يردد الناس هذه الكلمات فرحا بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أحب الناس إليهم. فيا له من مقدم ملأ القلوب فرحا وسرورا وملأ الآفاق بهجة ونورا.

 

فقدم رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - المدينة وكل قبيلة من الأنصار تنازع الأخرى زمام ناقته النزول وكل يقول: عندنا يا رسول الله في العدد والعدة والمنعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: دعوها فإنها مأمورة وإنما أنزل حيث أنزلني الله - عز وجل -. فلما انتهت به إلى مكان مسجده بركت فلم ينزل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وثبت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أطلق لها الزمام فسارت غير بعيد ثم التفتت خلفها فعادت إلى مكانها الأول فبركت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هذا إن شاء الله المنزل) وكان هذا المكان لغلامين يتيمين فدعاهما رسول الله  فساومهما ليشتريه منهما فيتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما وقال: (أي بيوتنا أقرب)؟ قال أبو أيوب: أنا يا رسول الله هذه داري وهذا بابي قال: (فانطلق فهيئ لنا مقيلا) ففعل ثم جاء فقال: قوما على بركة الله.

ثم جاء عبد الله بن سلام وكان حبرا من أحبار اليهود فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بالحق وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت فإنهم إن علموا به قالوا فيّ ما ليس فيّ فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليهود فأتوا إليه فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق) قالوا: ما نعلم ذلك قال:(فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام)؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا قال:(أرأيتم إن أسلم)؟ قالوا حاش لله ما كان ليسلم فأعاد فأعادوا وكان عبد الله بن سلام قد اختبأ لينظر ما يقولون فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يا ابن سلام اخرج عليهم) فخرج فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق فقالوا له: كذبت. فأخرجهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عبد الله للنبي- صلى الله عليه وسلم - : ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور. هذه أيها المسلمون هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من بلدة ليقيم دعوة الله ويصلح بها عباد الله. 

فاتقوا الله عباد الله واهجروا المعاصي لتقوموا بإحدى الهجرتين ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ومن اتقى وأحسن كان الله معه: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply