ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي


 بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

1- مُراعاة الحقائق التي قررها القرآن الكريم: مثلاً(الأصل في عقائد البشر التوحيد لا الشرك) الأصل في عقيدة البشر التوحيد من لدن آدم عليه السلام، ثم طرأ عليهم الشرك (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النَّبيّين مبشرين ومنذرين) أي كانوا أمة واحدة على التوحيد، فلما تركوه وانحرفوا عنه أرسل الله تعالى الأنبياء ليردوهم إليه. هذا ما قرره القرآن الكريم، فإذا راجعنا كتب التاريخ القديم 1  ، وجدنا المُؤرِّخ المنتسب للإسلام يقرر ما يخالف القرآن حيث يذكر أن الأصل عبادة الحيوان والكواكب والقوى الطبيعية، ثم نتيجة ارتقاء العقل البشري وصل إلى التوحيد.. وهم يعتبرون الفرعون (اخناتون) أقدم الموحدين لأنه دعا إلى عبادة الشمس وحدها دون بقية المعبودات عند المصريين.

إنَّ هذا التَّقريرَ يرجعُ إلى أمرينِ:

الأول: إنكار الوحي والنبوة حيث اعتبر ظهور العقائد الدينية وتطورها من تعدد الآلهة إلى التوحيد مجهوداً بشرياً نتيجة الارتقاء العقلي والثقافي.

الثاني: التأثر بنظرية داروين وتطبيق نظرية النشوء والارتقاء في مجال العقيدة الدينية.

على أن من الحق أن نذكر فكرة شاملة تتطابق مع النظرة القرآنية طرحها عالم الأجناس البشرية إيفار ليسنر في كتابه ( الإنسان والله والسحر) تقول: (إن أسلافنا البدائيين قد اعتقدوا بوجود إله واحد، ثم انحطوا بالتدريج بسبب النفوذ الشرير لسحرة القبائل وساحراتها وتحولوا إلى عباد لآلهة متعددة).

إن المطلوب من المُؤرِّخ المسلم أن يستوعب كليات التصور القرآني للتاريخ البشري ويلتزم به في الكتابة التاريخية، ولو ظهرت بعض النظريات التي تخالف بعض هذه الكليات فليتهم هذه النظريات ما دامت لم تصبح حقائق قطعية، ومعظم استنتاجات التاريخ القديم ترتكز على علم الآثار والحفريات، وهي تعطي معلومات مشتتة لا تكفي لتغطية الفجوات الكبيرة في التاريخ البشري القديم، وإذا كان المُؤرِّخ غير المسلم لا يستطيع التصور إلا من خلال الآثار المادية التي تزوده بالمعلومات.. فإن المُؤرِّخ المسلم يستند إلى القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الإلهي الوحيد الذي لم ينله التحريف والتبديل وهي نعمة عظيمة أنعمها الله -تعالى- على المسلمين بحفظ كتابه يتلونه كما أنزل في كل عصر، مطمئنة نفوسهم إلى أنه (كلام الله) مما له أعمق الأثر في نفوسهم وعقولهم وسلوكهم وشخصيتهم وطبيعة مجتمعهم وحضارتهم، وهو أمر لم يتحقق لأمة أخرى غير الأمة الإسلامية.

2- تفسير دوافع السلوك عند المسلمين في صدر الإسلام:

إن دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي التي تهيمن عليه العقيدة تتأثر كثيراً بالتطلع إلى ما عند الله.. إلى الجزاء الأخروي، وصفوة المؤمنين لا يشركون دوافع أخرى في سلوكهم، إذ لا بد من إخلاص النية لله تعالى في كل أعمال المسلم سواء كانت جهاداً بالنفس أو نشاطاً اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً، فنشاط المسلم في كل مجالات الحياة يدور حول محور -إرضاء الله تعالى- ويعرف المسلم أنه إذا أشرك في نيته فإنه يحبط عمله كما في الحديث الشريف: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وابتغى به وجهه)2 وإذا كان هذا التصور يتحكم في الكثير من المسلمين الواعين اليوم فكيف كان أثر ذلك في جيل الصحابة والتابعين والأتباع -وهم خير القرون- إذاً؟

إن معرفة أثر الإسلام في تربية أتباعه في صدر الإسلام وتزكية أرواحهم وتثقيف عقولهم وإخلاص عقيدتهم وتوجههم إلى الله وحده بالعبادة والمجاهدة، يجعل من البدهي التسليم بأن الدوافع لهم في مشاركتهم في الفتوح ونشر الإسلام والتمكين له وتنظيم المناطق المفتوحة والاجتهاد في حل المشاكل والأقضية المستجدة وفق تعاليم الإسلام، لم يكن دافعاً دنيوياً ولا رغبة في التسلط والاستحواذ ولا طمعاً في خيرات البلاد المفتوحة ولا فراراً من شطف الحياة في الصحراء كما يقول كايتاني وغيره من المستشرقين.

 روى الطبري خبر مفاوضة المغيرة بن شعبة لرستم، وما رد به على عروض رستم المادية مقابل تخلي المسلمين عن القتال حيث أجابه المغيرة بقوله: (أتيناكم بأمر ربنا نجاهد في سبيله، وننجز موعوده، وندعوكم إلى الإسلام وحكمه، فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله، وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا نفوسكم بالجزية فإن فعلتم وإلا فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا، فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم...) 3.

وروى الطبري أن ربعي بن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه فسأله: ما جاء بكم؟ فقال:(الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه)، إن ما قاله كل من ربعي بن عامر والمغيرة بن شعبة للفرس لم يكن يعبر عن شعور فردي، وإنما كان يمثل الفكرة المهيمنة على قياد المسلمين ومعظم جندها المجاهدين، ولا يمنع هذا القول من مشاركة بعض الأعراب في الجهاد ممن تحفزهم العوامل المادية إلى جانب الرغبة في الجهاد، لكن هؤلاء لا يمثلون قيادة الحركة ولا روحها الموجهة، إنما أقرر ذلك لأن المجتمع المسلم مجتمع بشري فيه الصفوة الخيرة التي تلتزم المثل العليا وتخلص النية لله وتجعل كل همها كسب رضاه، وفيه طبقات دونها تأخذ نفسها بالحد الأدنى الذي يحقق لها صفة الإسلام .

وينبغي أن يتقرر بوضوح كامل أن تفسير حركة التاريخ الإسلامي في صدر الإسلام لا يمكن أن يقوم به إلا المسلم الذي يردد كل يوم قول الحق تعالى لنبيه: {قُل إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} الأنعام:162 . والذي تفاعل قلبه وشعوره مع القرآن والسنة وأحس بأثرهما في صياغة شخصيته وتحديد دوافع سلوكه. ومن هنا جاءت التفسيرات الغربية والاستشراقية قاصرة عن فهم دوافع السلوك عند المسلمين في صدر الإسلام، فمثلاً عندما يعرض المستشرق الأب (لامانس) لحادثة سقيفة بني ساعدة -وهي سابقة رائعة لتطبيق الشورى الإسلامية، حيث اقتنعت الأكثرية برأي الأقلية - فإن صور المؤامرات في البلاط الفرنسي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تشوه رؤيته لأحداث السقيفة. فيطلع علينا بصورة مشوهة عندما يقرر تآمر أبي بكر وعمر وعثمان (رَضِيَ اللهُ عَنهُم) واتفاقهم على انتزاع الخلافة والتعاقب عليها فيما بينهم في سقيفة بني ساعدة.

إن الدراسات الاستشراقية وهي كثيرة جداً ومتباينة من حيث المستوى والدقة العلمية والبعد عن التعصب الديني والقومي، لكنها على العموم تصدر عن مفكرين عاشوا في بيئة بعيدة عن الإسلام لها حضارتها وفلسفاتها ومقاييسها وأذواقها، فيصعب عليهم تذوق الإسلام وبالتالي يتعذر عليهم فهم دوافع سلوك المسلم في حركته الفردية والجماعية، وهم يقيسون على التاريخ الأوروبي في تفسيرهم لحركة التاريخ الإسلامي رغم اختلاف طبيعة التاريخيين، ولا نغفل عن كون الأوروبيين عموماً ينظرون إلى العالم من خلال موقفهم المتفوق عسكرياً وتكنلوجياً، فهم ينسبون كل مأثرة لأنفسهم وكل منقصة لسواهم. وعندما أرَّخ توينبي لحضارات العالم أعطى الحضارة الإسلامية مساحة ضيقة لا تتناسب مع حجمها ودورها الحقيقي في التاريخ العالمي.

إن أعظم قصور يواجه الدراسات الاستشراقية هو عجزها عن التصور السليم للإسلام وروحه وأثره في المجتمع وحركته التاريخية، وهو قصور كبير يمنع إمكان الاعتماد على هذه الدراسات خاصة في عصر السيرة والراشدين حيث تتطابق النظرية مع الواقع التاريخي.

3- تقويم الحضارة يرتبط بمدى ملاءمتها لعبادة الله:

إنَّ المُؤرِّخَ المسلمَ لا يحكم على المستوى الذي تبلغه أية حضارة من خلال منجزاتها المادية فقط، وإنما ينظر إلى مدى تحقيقها للهدف الأساسي الذي وضعه (الخالق) عز وجل لـ(خلقه) قال -تعالى-:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذاريات:56.  فالحضارة السامية في نظر المسلم هي التي تهيئ الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمادية الملائمة لتوجه الإنسان نحو توحيد الله وإفراده بالعبودية والتزام تعاليمه في كل ألوان النشاط الذي يمارسه، دون أن تعيقه المؤسسات والأجهزة القائمة في المجتمع أو توقعه في التناقض بين(عقيدته) و (سلوكه) ودون أن تضغط عليه لتحرفه عن التزامه أمام رب العالمين. لذلك مهما تقدمت الحضارة في العلوم والمعارف والآداب والفنون، ومهما تفننت في رياسة الدور والقصور وفي الأثاث واللباس والطعام.. وفي تيسير الحياة المادية الرخية للإنسان، أقول مهما وصلت الحضارة في  التقدم المادي فإنها تبقى في نظر المُؤرِّخ المسلم(متخلفة) و(قاصرة) ما دامت لا تهيئ الظروف الملائمة لعبادة الله والوفاء بالالتزام بشرعه.

والحضارة الإسلامية نفسها مرت بمراحل تاريخية مختلفة.. ولاشك أن التضخم في منجزاتها المادية لم يكن في صدر الإسلام بل كان في القرنين الثالث والرابع الهجريين، لذلك فإن المُؤرِّخ الغربي آدم يمتز يرى أن القرن الرابع الهجري يمثل أوج الحضارة الإسلامية في حين أن المُؤرِّخ المسلم يرى أن عصر صدر الإسلام يمثل أوج الحضارة لأنه أكثر ملاءمة لعبادة الله وتوحيده، وسلوك المسلمين في صدر الإسلام أكثر التزاماً بتعاليم الشريعة من سلوك المسلمين في القرن الرابع الهجري، وهذا ما أشار إليه الرَّسُول الأعظم - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - في حديثه: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)4.

إن هذا المنطلق والتصور يبدوان غريبين بالنسبة للمؤرخين غير المسلمين لأنهم يخضعون في مقاييسهم لقيم الحضارة الغربية، أما المُؤرِّخ المسلم فإن الأمر بدهياً أمامه لأنه تمكن من تمزيق طوق القيم والمقاييس والتصورات المنبثقة عن الحضارة المادية الغربية ولم يتم ذلك إلا بعد الوعي الإسلامي الذي ظهرت آثاره في العالم الإسلامي المعاصر.. ومن آثاره التفلت من كماشة الحضارة الغربية والاستعلاء بالإيمان والإسلام عليها والشعور بالذات والاستقلال الروحي والفكري. وهو أمر يمثل الخطوة الصحيحة على طريق الحضارة إن شاء الله.

4- رفض منطق التَّبرير كأساس لتفسير تاريخ صدر الإسلام. إن هذا المنطق أثر للقهر النفسي والفكري الذي أحدثه الغزو الفكري في عقولنا، ومن ذلك: الأسلوب الاعتذاري الذي يستخدمه بعض المُؤرِّخين المسلمين المعاصرين في الكلام عن الجهاد في الإسلام وحركة الفتوح الإسلامية واعتبارها دفاعاً عن حدود شبه جزيرة العرب أمام تحركات الفرس والروم، بل إن غزوات الرَّسُول -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- لم تسلم من هذا الأسلوب التبريري وجعلها دفاعاً عن دولة المدينة المنورة. (دراسة العلامة محمد شبلي النٌّعماني عن السيرة مثلاً فهو على فضله وقع في هذا الخطأ). بل إن بعض المُؤرِّخين المسلمين ذهب إلى نفي روايات صحيحة عندما عجز عن التبرير الذي يريده، فقد نفى أحد الكتاب روايات ابن إسحاق حول قتل مقاتلة بني قريظة، وهي ثابتة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ. وكأنه يشك في عدالة قتلهم، فالتفسير الإسلامي إذاً ليس دفاعياً تبريرياً بل ينطلق من اعتقاد أن الإسلام حق وما عداه باطل، وأن ما شرعه الإسلام من الجهاد وغيره حق لا يحتاج إلى اعتذار أو تبرير، حَتَّى لو بدا ذلك غريباً أمام الذهنية المهيمنة على الناس في القرن العشرين، لأننا لا نطوع(الإسلام وتاريخه)لأذواق الناس واتجاهاتهم الفكرية في (عصر معين) فما يحبذه الناس في عصر قد ينكرونه في عصر آخر، وما يحسبه أبناء بلدة حسناً يراه سواهم منكراً، والحكم لله ولشرعه وليس لأذواق الناس وأهوائهم والله غالبٌ على أمره.

5- استعمال المصطلحات الشرعية في الكتابة التاريخية: إن استعمال المصطلحات الشرعية ضروري عند كتابة التاريخ الإسلامي من خلال التصور الإسلامي النابع من القرآن الكريم والسنة المطهرة، لأن هذه المصطلحات ذات دلالة واضحة ومحددة ولأنها معايير شرعية لها قيمتها في وزن الأشخاص والأحداث. والقرآن الكريم قسم الناس إلى (المؤمن) و(الكافر) و(المنافق) ولكل من الثلاثة صفات محددة ثابتة ودقيقة لا تقبل التلاعب فيها. فما ينبغي أن نحيد عن هذا التقسيم إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلامية كوصف الإنسان بأنه(يميني) أو (يساري) أو غير ذلك من النعوت غير الشرعية التي ليست محددة بصورة دقيقة ثابتة، وكذلك فإن الحكم على الأعمال والمنجزات الحضارية ينبغي أن تستخدم فيه المصطلحات الشرعية وهي (الخير) و(الشر) و(الحق) و(الباطل) و(العدل) و(الظلم) كما حددها الشرع ولا تستخدم معايير الفكر الغربي (كالتقدمية والرجعية).

لقد انجرَّ بعض الكتاب المسلمين إلى استخدام مصطلحات وألفاظ ليست في القاموس الإسلامي، وفي ذلك يكمن خطر الذوبان في الفكر الجاهلي والضياع وسط مصطلحاته الكثيرة التي تفقدنا ذاتيتنا المستقلة.

إن استعمال المصطلحات الشرعية عند إعادة صياغة التاريخ الإسلامي ضروري جداً للحفاظ على استقلال التصور والمنهج الإسلامي وإبراز هويته بالإضافة إلى أن المصطلحات الشرعية أوضح وأدق من المصطلحات الغربية 5.

هذه بعض الملامح المهمة في دراسة وكتابة التاريخ الإسلامي وخصوصاً السِّيرَة النَّبَويَّة.

 


1 -مراد المؤلف بعض مؤلفات المعاصرين في التاريخ القديم.

2 - أخرجه النسائي كتاب الجهاد باب من غزا يلتمس الأجر والذكر برقم ( 3089).

3-  تاريخ الأمم والملوك للطبري ( 3/520-528).

4 أخرجه البخاري (3/1335) ومسلم (4/1963).

5 - السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري:(1/ 32-38).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply