أقسام التوحيد - الاصطلاح والمضمون


 


بسم الله الرحمن الرحيم

 




1- الإيمان قضية واحدة:

الإيمان قضية واحدة وخلاصة هذه القضية هي التصديق بكل أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله، والتصديق بالغيب الذي يخبر به عن ملائكته ورسله واليوم الآخر وقضائه وقدره والإقرار بذلك باللسان وتصديق ذلك بالعمل، وجماع التصديق والعمل هو معنى عبادته، وعبادته سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.

فمما يجب الإيمان به مما يصف به نفسه قوله تعالى: {قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد}

وقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم}

وقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون}..

2- الكفر بجزئية واحدة من أجزاء الإيمان كفر بالله عز وجل:

ولا شك أن الكفر بجزئية واحدة من أجزاء هذا الإيمان هو كفر بالله جل وعلا فمن كفر بالملائكة فقد كفر بالله، ومن كفر بالرسل فهو كافر بالله كذلك بل من كفر برسول واحد من رسل الله فهو كافر بالله ولا ينفعه إيمانه ببقية الرسل، ولا ببقية أجزاء الإيمان، ومن كفر بيوم القيامة فهو كافر بالله، ومن كفر بقدر الله فهو كفر به سبحانه وتعالى.

قال جل وعلا: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله}، وقال تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين} ولم يكذبوا إلا رسولهم، ولكن تكذيبهم لرسولهم تكذيب للرسل جميعاً.

وقال صلى الله عليه وسلم: [والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا دخل النار]

3- توحيد الله سبحانه وتعالى قضية واحدة:

ولا يكون العبد مؤمناً بالله حقاً إلا إذا اعتقد وحدانيته سبحانه وتعالى في جميع ما كان من صفاته وأفعاله وحده، وإلا إذا عبده سبحانه وتعالى وحده.

فمما تفرد به سبحانه وتعالى:

(1) الخلق:

فهو سبحانه وتعالى خالق كل شيء، ولا يشاركه في الخلق أحد قط، قال تعالى: {الله خالق كل شيء} وقال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} وقال معرضاً بما يعبد من دونه: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون}، وقال تعالى: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بهم يعدلون} أي يجعلون له عدلاً في صفاته أو أفعاله أو حقوقه.

فمن أعتقد أن هناك من خلق ذرة في هذا الكون، أو أنه يخلق شيئاً حتى أفعاله فهو كافر مشرك بالله سبحانه وتعالى.

(2) الملك:

فكما كان الخلق لله وحده فالملك لله وحده قال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك} وقال: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير* تولج الليل في النار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} (آل عمران: 26-27)

وقال تعالى: {قل ادعوا الذي زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}

فكل ما عبد من دون الله ملائكة أو رسلاً أو جناً أو أصناماً، لا يملكك أحد مثقال درة من السموات والأرض وما لأحد منهم شرك مع الله في ملكه، ولا كان أحد منهم معيناً لله في خلق ذرة من مخلوقاته..

ملك غير الله ملك عاري:

وملك غير الله ملك عاري ليس ملكاً حقيقياً فالله هو الذي ملكه، وهو الذي ينزعه منه إذا شاء سواء كان هذا الملك سلطاناً أو مالاً، فإن الله هو ماله الحقيقي، وهو الذي يعطيه وهو الذي ينزعه ومن ظن أنه يملك سلطانه أو ماله ملكاً حقيقياً فهو كافر بالله سبحانه وتعالى مشرك به.

(3) التصريف والتدبير: (الأمر الكوني القدري)

بالأحياء والإماتة، والإعزاز والإذلال، والإغناء والإفقار، والمرض والصحة، والهدى والضلال، والسلم والحرب، والظلم والعدل.. الخ (القضاء والقدر)

فكل ما يعتري المخلوق في كل شأن من شئونه إحياءاً وإماتة، وإغناءاً وإفقاراً، وصحة ومرضاً، وهداية وإضلالاً وما يعتري العوالم كلها وجوداً وعدماً، وبداية ونهاية، وحرباً وسلماً وظلماً وعدلاً، فكله جار بتصريف الله سبحانه وتعالى في عباده، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا مرضاً ولا صحة، ولا حياة ولا نشوراً، ولا عزاً ولا ذلاً، ولا هداية ولا إضلالاً، ولا زيادة في عمره، ولا نقصاً منه.

بل جميع مقادير المخاليق من ملائكة وجن وإنس وحيوان ونبات كلها جارية وفق أمر الله الكوني القدري ومن ظن أن مخلوقاً يملك لنفسه ذرة من التصريف، أو فعلاً من الأفعال فهو كافر مشرك بالله سبحانه وتعالى.

والأدلة على هذا من القرآن والسنة كثيرة جداً ومن ذلك قوله تعالى: {أفرأيتم ما تعبدون* أنتم وآباؤكم الأقدمون* فإنهم عدو لي إلا رب العالمين* الذي خلقني فهو يهدين* والذي هو يطعمني ويسقين* وإذا مرضت فهو يشفين* والذي يميتني ثم يحيين* والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} (الشعراء 75-82)

وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم}، وقوله تعالى: {يهدي من يشاء ويضل من يشاء}، وقوله تعالى: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلاً* وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً}

وقوله تعالى: {قل اللهم مالك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير* تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب}

وقوله تعالى عن رسوله: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله} (الأعراف:188)، وقوله تعالى عن ملائكته: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون* يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون* ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}.

(4) الأمر الشرعي: (التشريع):

وكما هو أن الأمر الكوني القدري هو لله وحده سبحانه وتعالى ليس لأحد معه من الأمر شيء، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل قال الله لرسوله: {ليس لك من الأمر شيء} بل ما هو دون الأمر من الشفاعة فإنه لله وحده وليس لأحد من الشفاعة شيئاً كما قال تعالى: {قل لله الشفاعة جميعاً} ولا يشفع عند الله إلا من ارتضاه الله للشفاعة، ومن رضي عنهم من المشفوع فيهم ومن ظن أنه يشفع عند الله بغير إذنه فهو طاغوت كافر، ومن ظن أن هناك من يشفع عند الله دون إذن من الله، وأن الله يقبل الشفاعة غير راض عنها كما هو حال ملوك الدنيا فقد كفر بالله سبحانه وتعالى وجعل لله نداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

فكما أن الأمر الكوني القدري لله وحده، فكذلك الأمر التشريعي لله وحده وليس لأحد مع الله أمر ولا نهي فالله هو الذي يحل ويحرم ويحسن ويقبح ويشرع لعباده ما يشاء من دين وهدى وسلوك، فالتشريع تشريعه، والصراط صراطه.. والرسل ليسوا مشرعين من عند أنفسهم بل مبلغين عن الله آمرين بأمر الله وناهين عن نهي الله، ليس لهم من التشريع شيءفكما أنه ليس لهم من الأمر الكوني القدري شيء فليس لهم شيء كذلك من الأمر التشريعي لأنه سبحانه وتعالى {لا يشرك في حكمه أحداً}..

الله سبحانه وتعالى هو المعبود وحده:

لما كان الله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، وهو المتصرف في شؤون خلقه وحده، وهو صاحب الأمر الكوني والقدري والأمر الشرعي وحده كان هو المستحق وحده بالعبادة دون سواه، ولذلك جعل العبادة حقاً له وحده، حقاً له على جميع موجوداته ومخترعاته ومصنوعاته ملائكة وجناً وإنساً، وسماءاً وأرضاً، وقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم بيان هذا في حديث ابن مسعود: [أتدري ماحق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله] قال: قلت: الله ورسوله أعلم: قال صلى الله عليه وسلم: [حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً]

والعبادة التي شرعها الله لعباده كثيرة فمنها أعمال القلوب من الخوف والرجاء والمحبة، والتوكل والخشية والإنابة والذل والخشوع، والاستسلام، وأعمال الجوارح كالصلاة والسجود والركوع، والنذر، والصوم، والحج، والجهاد، والصدقة.

وجعل سبحانه وتعالى هذا كله حقاً له على عباده، وحرم عليهم أن يصرفوا عبادة منها لغيره وأخبرهم أن من صرف شيئاً من العبادة التي لا تليق إلا به لغيره كافر مشرك، وأن الله قد حرم عليه الجنة {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة} { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}..

المعالجة البيانية التعليمية لقضية واحدة:

ومع أن قضية الإيمان بالله قضية واحدة إلا أنه يندرج تحتها عشرات بل مئات الفروع الداخلة فيها، ولذلك فإن هذه القضية جاءت مجملة ومفصلة.

فمن الإجمال قوله تعالى: {أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فهذه الآية جمعت الدين كله وأنه إيمان وسمع وطاعة، إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ثم سمع، وهذا يقتضي التصديق بكل ما يخبر الله به، وطاعة، وهذا معناه العمل بما يأمر الله به، ومن الإجمال قول النبي صلى الله عليه وسلم في جمع الدين كله {قل آمنت بالله ثم استقم}.

فهاتان الكلمتان {قل آمنت بالله ثم استقم} جمعت الدين كله لأن الدين إيمان بالله ثم استقامة على أمره...

ويدخل في الإيمان بالله بكل ما يخبر به عن نفسه ورسله وغيبه، ويدخل في الطاعة الإسلام له في كل ما يأمر وينهى عنه.

وهذا الإجمال جاء مفصلاً تفصيلاً دقيقاً في كل صغيرة وكبيرة.

فجاء القرآن ببيان أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، والقرآن كله حديث عن الله سبحانه وتعالى فهو تفصيل لمعنى الإيمان به وطاعة، والسنة كلها تفصيل وبيان للقرآن، وشرح لمعنى الإيمان بالله، وطاعته جل وعلا.

عمل علماء الإسلام في تعليم الدين وبيانه:

ثم جاء علماء الإسلام فقسموا علم الدين إلى علوم كثيرة، وكل علم متفرقة وكل فرع من فروع العلوم إلى أبواب وكل باب إلى فصول ومباحث، ومسائل، فنشأت علوم خاصة بالقرآن الكريم كالقراءات والتفسير وأسباب النزول، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفصل... الخ

ونشأت علوم خاصة بالسنة كمصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل والكتب الخاصة بالصحيح والكتب الخاصة بالضعيف والموضوع.

ونشأ كذلك علم التوحيد الذي بدأ الردود على المنحرفين في العقائد، ومسائل الإيمان كالخروج، وتحريف أسماء الله وصفاته، والشرك به، ثم أفردت الكتب لجمع مسائل الإيمان الاعتقادية وتبويبها وتصنيفها.

وكذلك سائر العلوم من السيرة والتاريخ والأخلاق والتهذيب.. الخ

وأصبح كل علم من هذه العلوم تقسيماته ومصطلحاته ورجاله وكتبه.

عمل علماء الإسلام في علم التوحيد :

وعلم التوحيد لقي العناية الفائقة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلماء الإسلام، والسنة من التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يم الدين لأنه أصل الدين، وعليه تبني جميع الأحكام، ويتوقف على العلم والعمل به الإيمان والكفر فمن ذلك:

(1) الرد بنصوص الكتاب والسنة على أي انحراف فيه كما فعل ابن عمر رضي الله عنه عندما سمع أنه هناك من أهل الإسلام من ينكر القدر فقال لمن أخبره بهذا الخبر: أخبرهم أنني منهم برئ، وأن الله لا يقبل من أحدهم صرفاً ولا عدلاً إلا أن يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى، واستدل على ذلك بحديثه عن أبيه وهو حديث جبريل وفيه: [وأن تؤمن بالقدر خيره شره من الله تعالى]، والشاهد أن ابن عمر رد على من نفى القدر، وأن الله لا يقبل منه عملاً صالحاً، واستدل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

ومن ذلك ردود ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه على الخوارج من الكتاب والسنة.

(2) ثم جاء دور التأليف فألف علماء الإسلام عشرات بل مئات الرسائل في الرد على المخالفين في العقائد ككتاب أحمد بن حنبل رحمه الله الذي سماه (الرد على الزنادقة) وهم القائلون بأن الله بذاته في كل مكان، والردود على الجهمية والمعطلة.. الخ

(3) ثم ألفت الكتب في بيان معتقد أهل السنة والجماعة في جميع المسائل التي اختلف فيها أهل الإسلام.

(4) ومن عمل علماء الإسلام في هذا الصدد تحريم قراءة الكتب التي ألفت في العقائد والتي جعلت الأصل في معرفة العقيدة هو العقل، وهي الكتب التي سمت علم التوحيد علم الكلام فقد حرم علماء الإسلام النظر فيها، وتعلم الدين والمعتقد بواسطتها.

(5) وكذلك أبطل علماء الإسلام استعمال مصطلحاتهم في هذا العلم لأنها تتضمن حقاً وباطلاً كالجسم والجوهر، والعرض، والهيولي، وتساهلوا في بعض المصطلحات التي لا تتضمن باطلاً كلفظ القديم بمعنى الأول.

(6) ووضع علماء التوحيد كذلك الحدود والشروط والأركان والواجبات لقضية الإيمان، وكذلك النواقض التي تخرج من الإيمان، والمخالفات التي تخالف الإيمان ولا تنقض أصله، وكل ذلك لضبط هذا العلم، وبيان حدوده كقولهم مثلاً الإيمان قول باللسان، وإقرار بالجنان، وعمل بالجوارح، واختلافهم في العمل هل هو شرط صحة أو شرط وجوب، أو شرط كمال، واختلافهم في العمل المخرج من الملة بذاته، والعمل الذي لا يخرج من الملة إلا إذا اقترن به استحلال.. الخ

كقول بعض أهل السنة إن ترك الصلاة كسلاً ولو دون جحود مخرج من الملة، وكقول بعضهم بل الصلاة شرط وجوب ولا تخرج المسلم من الإسلام لملة الكفر إلا بجحدها.. الخ

أقسام التوحيد :

ومما صنعه بعض علماء السنة المتأخرين مما يدخل في باب التعليم والتقريب، وتقسيم التوحيد إلى قسمين: العلم والعمل، فالتوحيد العلمي معناه تعلم أسماء الله وصفاته ومعاني الإيمان به، وتصديق ذلك بالقلب، وأما توحيد العمل فهو أن يعمل المسلم بمقتضى هذا التصديق فلا يعبد إلا الله ولا يرجو إلا هو، ولا يجب حب عبادة إلا له، ولا يسجد إلا له، لا يحاكم إلا إليه.. الخ

وهذا التقسيم ليس خاصاً بالتوحيد لأن كل أعمال الدين لا بد فيه من العلم والعمل فالصوم لا يكون إلا باعتقاد فرضيته، وتصور تشريعه تصوراً صحيحاً ثم القيام به على النحو الذي أمر العبد به وأن يكون ذلك لله وحده لأنه عبادة خاصة به سبحانه وتعالى وهكذا سائر العبادات.

وتقسيم التوحيد إلى قسمين إنما هو نوع من التعليم حتى يعلم العبد أنه لا يكفي في التوحيد العلم دون العمل ولا العمل دون العلم.

وجاء من أهل العلم من قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام باعتبار موضوعاته الكبرى فجعل الربوبية قسماً، وعنى بالربوبية بعض معاني الرب من الخلق والتدبير والتصرف والملك، والقهر والغلبة، وجعل الألوهية قسماً وعنى بها المعبود، وجعل جميع أسمائه وصفاته قسماً وسماه توحيد الأسماء والصفات، وسمى كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة توحيداً، وأنه لا يكون موحداً على الحقيقة إلا من أقر بها جميعها.. وأقر بأن الله وحده دون ما سواه هو خالقه وخالق الكون كله، وأنه مالك الملك، والمتصرف فيه وحده، وأقر بأن الله وحده هو إله الناس وإله العالمين والخلق أجمعين، وأنه لا معبود بحق غيره، وأن كل إله غيره باطل، وأن جميع أصناف العبادة لا تصرف إلا له، ومن صرف شيئاً لغيره فهو مشرك، وكذلك جعل توحيد الأسماء والصفات قسماً وهو الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، وأن صفاته على النحو الذي يليق به.

مقاصد من قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام :

وكان من مقاصد هذا التقسيم الثلاثي لمعاني التوحيد، وقضية الإيمان بالله، تعليم الناس أنه لا يكون مؤمنا إلا من جمع هذه الأقسام الثلاثة، وأن من آمن ببعض صفات الله وكفر ببعضها فهو كافر، فمن آمن بالله خالقاً ورازقاً ومالكاً، ولم يؤمن به إلهاً ولكنه جحد بعض ما وصف به نفسه كالاستواء، والنزول إلى سماء الدنيا، ورؤية المؤمنين له في الآخرة، أو نفي كلامه، أو رحمته أو غضبه، فهو كافر لأنه جحد بعض ما وصف به نفسه سبحانه وتعالى.

لماذا دعت الحاجة إلى هذا التقسيم الثلاثي :

وهذا التقسيم الثلاثي لم ينص عليه أحد في القرون الثلاثة الأولى فإن التوحيد ومسائل الإيمان بالله كانت معلومة من كتاب الله وسنة رسوله بل كان من ضرورات الدين العلم بأن العبد لا يكون موحداً حقاً إلا إذا آمن بالله رباً وإلهاً وخالقاً ورازقاً وملكاً، وآمن بكل ما أخبر به عن نفسه أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما دعت الحاجة إلى هذا لتيسير فهم التوحيد، والتعريف بجميع جوانبه فإن تقسيم الأمر المجمل إلى أقسام يسهل فهمه وحفظه.

ولعل أول من ذكر هذا التقسيم بالتفصيل والتعريف هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذلك لانتصابه رحمه الله للرد على جميع المخالفين في التوحيد من أهل الكلام والفلسفة، ومن أهل التصوف ووحدة الوجود، ومن القدرية -نفاة القدر- والجبرية، ومن الذين وقعوا في شرك الألوهية فإن كل فريق من هؤلاء أقر بنوع من التوحيد وكذب بالآخر، وكثير منهم تصور التوحيد الذي ينادي به على وجه مغلوط، فانتصب شيخ الإسلام رحمه الله لتفصيل هذا الأمر وإعطائه حدوده وضوابطه ومما قرره في ذلك قوله:

\"وبهذا وغيره يعرف ما وقع الغلط في مسمى التوحيد فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر: غايتهم أن يجعلوا التوحيد (ثلاثة أنواع).

فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له.

وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهم (توحيد الأفعال) وهو خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب!! وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله، حتى قد يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع.

ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً: لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء حتى أنهم كانوا يقرون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون.

فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله كالقدرية وغيرهم، ولكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا أنهم خلقوا أفعالهم.

وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم، الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور، هم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة، لا يقولون إنها غنية عن الخالق مشاركة له في الخلق فأما من أنكر الصانع فذاك جاحد معطل للصانع، كالقول الذي أظهره فرعون.

والكلام الآن مع المشركين بالله، المقرين بوجوده، فإن هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون بل يقرون به مع أنهم مشركون، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام.

وكذلك (النوع الثاني) وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته فإنه ليس في الأمم من أثبت قديماً مماثلاً في ذاته سواء قال أنه يشاركه أو قال: إنه لا فعل له، بل من شبه به شيئاً من مخلوقاته فإنما يشبهه به بعض الأمور.

وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه، فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم.

وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد بينهما من قدر مشترك كاتفاقهما في مسمى الوجود، والقيام بالنفس، والذات ونحو ذلك فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابد من إثبات خصائص الربوبية وقد تقدم الكلام على ذلك.

ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد فصار من قال: إن لله علماً أو قدرة، أو أنه يرى في الآخرة، أو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق يقولون: أنه مشبه ليس بموحد.

وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة، نفوا أسماءه الحسنى، وقالوا من قال إن الله عليم قدير، عزيز حكيم، فهو مشبه ليس بموحد.

وزاد عليهم غلاة الغلاة قالوا: لا يوصف بالنفي ولا الإثبات لأن في كل منهما تشبيهاً له، وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، والمعدومات، والجمادات فراراً من تشبيههم بزعمهم له بالأحياء.

ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت على حد ما يثبت لمخلوق أصلاً، وأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات، فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات، لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك، فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيداً، ويجعلون مقابل ذلك التشبيه ويسمون أنفسهم الموحدين.

وكذلك (النوع الثالث) وهو قولهم: واحد لا قسيم له في ذاته أو لا جزء له، أو لا بعض له لفظ مجمل، فإن الله سبحانه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فيمتنع عليه أن يفترق، أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء، لكنهم يدرجون في هذا لفظ نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد.

فقد تبين أن ما يسمونه توحيداً: فيه ما هو حق، وفيه ما هو باطل، ولو كان جميع حقاً، فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن، وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لا بد أن يعترفوا أنه لا إله إلا الله.

وليس المراد (بالإله) هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره، وأن من أقر بأن الله هو القادر .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply