التوكل على الله: فضله و أهميته


 




بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين, و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله وصحبه و التابعين. أما بعد:
*فإن للتوكل على الله تعالى منزلة عظيمة في الإسلام, يلحظها من تأمل النصوص الواردة فيه, و كل عبد مضطر إليه, لا يستغني عنه طرفة عين, كما أنه من أعظم العبادات من جهة توثق صلته بتوحيد الرب سبحانه، يقول تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} (الفرقان58) . و في هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه و سلم ـ أن يتوكل عليه ـ سبحانه و تعالى ـ ، و ألا يركن إلا إليه، لأنه الحي الذي لا يموت، و هو القوي القادر سبحانه و تعالى ، و من يتوكل عليه جل و علا فهو حسبه, أي كافيه و مؤيده و ناصره, و من توكل على غير الله , فإنما يتوكل على من يموت و يفنى, و الضعف و العجز يعتوره من كل جهة, و لأجل ذلك فالمتوكل عليه يضيع و يزيغ, و كل من اعتمد على غير الله فقد ضل سعيه.

* فدل ذلك على فضل التوكل على الله ـ جل و علا ـ و تعليق القلب به سبحانه.

* و التوكل معناه: صدق اعتماد القلب على الله ـ عز و جل ـ في استجلاب المصالح و دفع المضار, من أمور الدنيا و الآخرة كلها, و أن يكل العبد أموره كلها إلى الله ـ جل و علا ـ , و أن يحقق إيمانه بأنه لا يعطي و لا يمنع و لا يضر و لا ينفع سواه عز و جل.

* و قد حض الله عباده المؤمنين على التوكل في مواضيع عديدة من الكتاب العزيز، و بين سبحانه ثمراته و فائدته:
و من ذلك قوله سبحانه: {و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (المائدة:23)، و قوله عز و جل: {و على الله فليتوكل المؤمنون} (التوبة:51)، و قوله تعالى: { و من يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق:3)، وقوله جل و علا:{ فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران:159) ، و قال سبحانه و تعالى واصفاً عباده المؤمنين في معرض الثناء و المدح:{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً و على ربهم يتوكلون} (الأنفال:2) و في السنة المطهرة تكاثرت النصوص الموضحة لأهمية التوكل و الحض عليه, و من ذلك ما رواه الإمام أحمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ:
\"لو أنكم توكلون على الله حق توكله , لرزقكم كما يرزق الطير, تغدو خماصاً, و تعود بطاناً. \"
قال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ: هذا الحديث أصل في التوكل, و أنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق, قال الله ـ عز و جل ـ : { و من يتق الله يجعل له مخرجاً(2) و يرزقه من حيث لا يحتسب و من يتوكل على الله فهو حسبه(3) } (الطلاق:2و3)

و دل حديث عمر المذكور على أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل, و وقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم, و مساكنتهم لها, فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب, و يجتهدون فيها غاية الاجتهاد , و لا يأتيهم إلا ما قدر لهم, فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب, كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو و الرواح, و هو نوع من الطلب و السعي, لكنه سعي يسير. و هذا ما يشير إليه قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ :\"لرزقكم كما يرزق الطير.... \" , و معناها أنها تذهب أول النهار خماصاً, أي ضامرة البطون من الجوع, و تتجه إلى غير وجهة محددة, تطير و تبحث و تسعى, ثم ترجع آخر النهار بطاناً, أي ممتلئة البطون.

و صح عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فيما رواه عنه جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: \" إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها, فاتقوا الله و أجملوا في الطلب, خذوا ما حل و دعوا ما حرّم. \" (رواه ابن ماجة و الحاكم و ابن الحبان).

ومما ينبه إليه هنا أن ضعف التوكل لدى الإنسان إنما ينتج عن ضعف الإيمان بالقضاء و القدر , و ذلك لأن من وكل أموره إلى الله و رضي بما يقضيه له و يختاره , فقد حقق التوكل عليه , و أما من وكل أموره لغير الله , و تعلق قلبه به، فهو مخذول غافل عن ربه ـ جل و علا ـ .

روى ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال: \"من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته, و من أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى... \"الحديث رواه أبو داود و غيره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : \" و ما رجا أحد مخلوقاً و لا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه, فإنه مشرك, قال تعالى:{ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } (الحج:31)\".

قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله : \" التوكل قسمان :
*أحدهما : التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله , كالذين يتوكلون على الأموات و الطواغيت في رجاء مطالبهم ، من نصر أو حفظ رزق أو شفاعة, فهذا شرك أكبر.
*والثاني : التوكل في الأسباب الظاهرة , كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله تعالى عليه من رزق أو دفع أذى و نحو ذلك، فهو نوع من شرك أصغر.
*و الوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه, لكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وكل فيه, بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه, و ذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها, ولا يعتمد عليها بل يعتمد على المسبب الذي أوجد السبب و المسبّب\".

و مما يزيد إيضاح تحقيق التوكل و العمل بالأسباب مع تعليق القلب بالله وحده ما أخبر أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في هجرة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ للمدينة إذ قال: نظرت إلى أقدام المشركين و نحن في الغار و هم على رؤوسنا ، فقلت: يا رسول الله ! لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا, فقال:\"ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما \" متفق عليه. و تصديقه قوله تعالى: {إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } (التوبة:40)

و من توكل على الله فإنه ينال من فضائله و ثمراته بحسب تحقيقه له ما لا يخطر له على بال, و لا يحيط به مقال, فهو أشرح الناس صدراً, و أطيبهم عيشاً , قال تعالى: {و من يتوكل على الله فهو حسبه}(الطلاق:3)

و لأهمية هذه المسألة فقد عدها العلماء في أبواب التوحيد و العقائد , إذ أنها من أجلّ العبادات و أعظمها, و لذا عقد لها الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب باباً في كتابه\"كتاب التوحيد\" و دلل عليها و بيّن أنها من الفرائض و من شروط الإيمان. فالواجب على كل مسلم و مسلمة العناية بها و تعاهد قلبه على ذلك.

و فقنا الله لهداه، و رزقنا صدق التوكل عليه ، و حسن الإنابة إليه , و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم.


 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply