الإرجاء والمرجئة


بسم الله الرحمن الرحيم





إن من الصفات اللصيقة ببني الإنسان: العجلة في الأمـور، وكيف لاº وقد قال فاطر الناس جل وعلا: ((وكَانَ الإنسَانُ عَجُولاً)) ، ثم منَّ تعالى على المؤمنين بأن وجّـه تـلـك الـفـطـرة العجولة لديهم إلى معنى قُدّ من الـعـجـلة ، إلا أن جالب للبر والخير ، وهو (المسارعة) إلى الخيرات ، وقد قدمت بهذه المقدمة لأسـتـمـيـح القارئ عذراً لمسارعتي بالكتابة في موضوع هذه المقالة عن الإرجاء والمرجئة ، رغم أنه يدخل ضـمـن مجموعة الكتب التي اعتزمت - وأخ لي - أن نصدرها تباعاً - بعون الله تعالى - عن الـفــرق الإسلامية ، والتي صدر منها بالفعل مقدمتها عن أسباب التفرق والاختلاف ، وما فـعـلــت ذلك إلا بعد أن قدرت مدى الحاجة إلى إظهار عوار تلك الفئة التي ما زالت جرثومتها خافـيــة تارة ، وظاهرة تارات بين صفوف المسلمين - بل وعجباً! بين صفوف الإسلاميين منهم - فـتـصـيب ذلك الـكيان الإسلامي بالضعف والوهن وفقدان القدرة على تمييز الخبيث من الطيب ، ومـعــرفة المفسد من المصلح ، وبالتالي أثرها البالغ السوء في الواقع الإسلامي أخلاقياً وسياسياً.

ونحن لا نعتزم الخوض في هذه العجالة في تفاصيل مذهب (الإرجاء) ومناقشة أصحابه فيما ذهبوا إليه ، أو الإتيان على ذكر كافة فروع المرجئة التي انقسمت إليها ، إلا أننا سنذكر اختصاراً ما ذهبت إليه المرجئة بشكل عام في بدعتهم ، ثم نعرِّج بنقض تلك الأقوال وبيان وجه الحق فيها كما اختطَّه أهل السنة والجماعة ، ثم نلقي نظرة على الواقع الإســـلامي لنرى مدى تأثره بتلك الجرثومـة الإرجـائـيـة التي لازالت تنتقل في الجـسـد الإســلامي، لتنخر فيه نخراً يفسد عليه قوته ، ويجعله عـرضــة للـتـفـكــك والانهيار. بعد أن يفـسـد المحكوم ويطغى الحاكم ويمهد لكليهما سبل الزيغ والانحراف.

الإرجاء: مصدر أرجأ بمعنى أخر ، يقال: أرجأ الأمر أي أخره. وقد أطلق هذا الاسـم على طائفة المرجئة لما قالوا بتأخير العمل عن الإيمان، أي فصله عنه وتأخير مرتبته في الأهمية كذلك لعدم حكمهم على الـفـاسـق أو الكافر بما هو أهلٌ له ، وادعــاء إرجاء ذلك إلى يـوم الحساب وتدور عقائد المرجئة حول الإيمان ، إذا ذهب أكثرهم إلى أنــه التصديق بالقـلـب والإقــرار بـاللـسـان - عــدا بعضهم ممن زعم أنه تصديق القلب ولم يـشـترط أنـه الـنـطـق بالشهادتين مع القدرة عليهما - ولم يُدخلوا العمل في مسمى الإيمان ، فالإيمان عـند هؤلاء متحقق كاملاً لمن صدق بالرســالـة ونـطــق بالـشـهـادتـيـن ، وإن لم يأتي بـعـمل من أعمال الطاعات!.

وقـد دخـلــت عليهم تلك البدع من أصل تصورهم للإيمان ، وأنـه واحــد لا يـتـجــزأ ولا يتبعض(1) ، أي لا يزيد ولا ينقص.

وقد تمسكت المرجئة في أقوالهم تلك بما ادعوه من أن معنى الإيمان في اللغة: الـتـصـديـق، كما في قوله تعالى: ((ومَا أَنتَ بِمُؤمِنٍ, لَّنَا)) ، أي: مصدق لنا.

كذلك بظواهر الأحاديث ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - ، فيما رواه مسلم بسنده عن أبي هـريــرة قـال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) ، وفيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له: (فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة).

وقـالــوا: إن تلك الأحاديث تدل على أن الإيمان هو: تصديق القلب والتلفظ بالشهادتيـن، وهما كافيان لإثبات الإيمان ودخول الجنة دون العمل!.

وقــد تجاوز بعض من ابتلاهم الله بشبه الإرجاء º فلم يكتفوا بإخراج أعمال الطاعات من الواجبات والمـسـتـحـبات من مسمى الإيمان بل كذلك الأعمال اللازمة لتحقيق التوحـيـد، كالحكم بما أنزل الله مـن الـشـرائــع - والذي هو من معاني الشهادتين والمتعلق بتوحيد ألوهية الله عز وجل - ولم لا؟! والإيـمــان محله القلب والتصديق متحقق؟! وما يضر من يترك التحاكم بغير إثم أو ذنب يقترفه مثله كمثل سارق البرتقالة ، أو من يؤذي جاره؟!.

فأتوا بذلك بما لم يأتِ به الأولون من أســلاف المـرجـئـة ، ومهدوا لما سنلقي عليه نظرة عاجلة في واقع المجتمع الإسلامي.

ونقض مذهب الإرجاء يكون بطريقتين: أحدهما: عام ، يتناول نقض مبادئهم في النظر إلى الشريعة - وهو ما اشتركت فيه معهم سائر أهل البدع والأهــواء - ، والآخـر: خــاص ، يتناول الرد على أقوالهم قولاً قولاً ، وبيان فسادها بالأدلة الشرعية.

وسنتناول كل طريق منهما بشكل موجز ، يتناسب مع ما قدرناه لهذا المقال من إيجاز.

أولاً - الرد العام:

سلك أهل البدع والأهواء طرقاً معينة في دراستهم للنصوص الشرعية ، أدت بهم إلى النتائج التي وصلوا إليها ، نجملها فيما يلي:

1- عدم الجمع بين أطراف الأدلة ، وذلك باتباعهم أول دليل يرونه دالاً - من جـهــة معينة - على ما أرادوه ، فإذا صادفوا دليلاً آخر لم يجمعوا بينه وبين الأول ، بل أولوه أو ضـعـفــوه أو أخفوه! بينما (مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المترتبة عليها ، وعامها المترتب على خاصها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر بمبينها ، إلى ما سوى ذلك من مناحيها).

2- الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، مع ترك الأحاديث الصحيحة وإغفالها، بينما مسلك أهل السنة هو في اتباع الحديث الصحيح وما يصح الاحتجاج به في الأحكام الشرعية ، سواء ما صح أو حسن حسب قواعدهم في ذلك.

3- التعويل على جزيئات الشريعة دون ربطها بالقواعد الكلية التي تحكمها وتنتظمها.

4 - تحريف الأدلة عن مواضعها ، وهو نوع من تحريف الكلم عن مواضعه الذي ذمه الله تعالى في كتابه ، وذلك بإيراد الدليل المقصود به مناط معين أو واقعة محددة لتطبيقه على مناط آخر - أو واقعة أخرى - وهي العملية التي تسمى عند الأصوليين: (تحقيق المناط) ، ولا شك أن (من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلام عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً إلا مع اشتباه يعرض له وجهل يصده عن الحق ، مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعاً) .

فإطلاق الدليل وتوهم أنه يعم كافة الحالات الداخلة تحته دون تقييد فهو من جملة من حرف الكلم عن مواضعه وصار إلى الابتداع بدلاً من الاتباع. [الاعتصام 1/223].

ثانياً - النقض الخاص:

إن ما استدلت به المرجئة من أن الإيمان هو التصديق فليس بصحيح ، والحق أن الإيمان اسم شرعي استعمله الشارع ليدل به على معاني محددة في الشرع ، هي مجموعة الأقوال والأفعال التي يتركب منها ، فلا مدخل للمعنى اللغوي إذ (مما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرِف تفسيرها وما أُريد بها من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة وغيرهم).

[ الإيمان لابن تيمية : 245 ].

هذا إلا أن الإيمان لا يعني لغة التصديق من وجوه عدّة (فإنه يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه ، ولا يـقــال: آمـنـه وآمـن به ، بل يقال: آمن له ، كما قال: ((فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ)) ، وقال: ((فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَومِهِ)) فــإن تعـدى باللام كـقـولـه: آمن له ، كان تصديقاً وإن تعدى بالباء كان الإيمان الشرعي المتضمن للعمل.

[ الإيمان : 248 ].

كذلك فإن قسيم الإيمان ليس التكذيب بل الكفر ، فيقال لمن لم يصدق: قد كذب ، ومن لم يؤمن: قد كفر.

ووجه آخر في لفظ التصديق والتكذيب: يطلق على ما هو غائب أو مشاهد ، أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغيب [ الإيمان : 249 ] .

والإسلام والإيمان اسمان يدلان على معنى واحد إن انفردا ، وهو الاستسلام لله والعبودية له سبحانه ظاهراً وباطناً ، لكنهما إن اجتمعا دل كل منهما على معنى غير الآخر ، فدلّ الإسلام على الأعمال الظاهرة من الصـلاة والـصــوم والحج ، ودلّ الإيـمـان على الأعمال الباطنة ، كالخشية والمحبة والخوف ، من أعمال القلوب.

وقد دلت الآيات والأحاديث على أن الأعمال داخـلــة في مسـمـى الإيمان - وعليه أجمع الصحابة والتابعون وسلف الأمة - فهو: قول وعمل ، يـزيـد وينقـص ، يزيد بالطاعات ، وينقص بالمعاصي ، قال تعالى: ((لِيَزدَادُوا إيمَاناً مَّعَ إيمَانِهِم)).

وما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (الإيمان بضع وسبعون شعة أو بضع وستون شعبة أفضلها قــول لا إله إلا الله ، وأدنـاهـا إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان).

كذلك ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس في حديث وفد عبد القيس ، قال رسول الله - صـلــى الله عـلـيه وسلم - : (وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تؤدي خمساً من المغنم).

فالإيمان - إذن - قول وعمل ، قول القلب وهو: التصديق ، وعمل القلب: وهو: الإقرار والخضوع المـسـتـلــزم للمحبة والانقياد ، وقول اللسان: وهو: النطق بالشهادتين ، وعمل اللسان والجوارح ، وهو العمل بالطاعات ، وترك المحظورات من الشريعة ، وهو يزيد وينقص.

ثم ننظر إلى استدلال المرجئة - سلفاً وخلفاً - بأحاديث الشفاعة على أن قول الشهادتين تلفظاً يُثبت لصاحبة الإسلام والإيمان ، وإن أتى عملاً من أعمال الكفر ، كترك التحاكم إلى الشرع ، فـنــرى أنـهــا هي طرق أهل البدع في عدم جمع أطراف الأدلة ، والنظر في الأحاديث.

قالوا: روى مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب في حديث جبريل: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً).

وأغفلوا الرواية التالية لها مباشرة في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان).

كذلك حديث أركان الإسلام الذي رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر عن أبيه ، قال عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن مـحـمـداً عـبــده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان).

وأغفلوا رواية مسلم الأخرى: في الـبــاب نفـســه عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (بُني الإسلام على خمسة: على أن يُوحَّد الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان ، والحج).

وغير ذلك من الأحاديث التي ذكروا فيها رواية وأسـقـطــوا روايات ، والتي تدل على أن التلفظ بالشهادتين المعتبر شرعاً هو توحيد الله وعبادته ، وتـرك الـشــرك ، وأن الـتـلـفـظ بالشهادتين دلالة على قيام ذلك المعنى في النفس وفي البدن قولاً وعملاً º ما لم يأت بعمل ظـاهــــر َيكفُر به ، فلا اعتبار حينئذ بتلفظ ، وهو المعنى الذي ذكره ابن القيم في إعلام الموقـعـيـــن من أن الألفاظ تراد لمعانيها لا لذواتها وما فصله من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ .[مسلم بشرح النووي 1/157].

وبعد .. فما هي الدوافع التي أدت إلى ظهور المرجئة في التاريخ؟ وما هي عوامل بقائهم واستمرارهم؟ لذلك الأمر تفصيل يضيق عنه نطاق هذا المقال ولكن لا بد من كلمتين توفيان بالغرض في هذا المقال.

أما عن بداية الإرجاء فقد زعم بعض من تناول ذلك الأمر أنها ترجع إلى موقف بعض الصحابة إبان إطلال الفتن برأسها عند إرهاصات قيام الدولة الأموية ، وهم الذين لم يشاركوا في تلك الفتن إلا أننا نرى أن ذلك تزيد معيب على تلك الفترة يحمّلها أكثر مما تطيق ، ويجعلها نواة كل فساد ظهر في تاريخ المسلمين بعدها ، وما اعتزل بعض الصحابة الفتنة إرجاءً بل إن منهم من لاح له وجه الصواب فاتبعه ، ومنهم من غمض عليه جلية الأمر فآثر السلامة وحسب..! وهو موقف معتاد في مثل تلك الظروف أن يشارك البعض ويعتزل البعض الآخر! ، ولعل بعض المفكرين يخرج علينا بأن هؤلاء - كذلك - هم نواة المعتزلة º لاعتزالهم ذلك الأمر!!!.[ انظر إعلام الموقعين 3/105 ] .

وما نرتضيه في هذا المقام إيجازاً أن مذهب الإرجاء يتناسب مع من يتميع في موقفه ويؤثر السلامة على المخاطرة وإن كانت بالباطل ، فإن من تلفظ بالشهادتين مؤمن كإيمان جبريل! والأعمال لا تدل على إيمان وفسق أو حتى كفر ، وليس لنا أن نزيف الباطل ونظهر عوار المفسد وندل على سوءاته ونسير فيه سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في معادلة الفاسق أو المذنب أو الكافر ، فمن ثم فهو مذهب يتناسب مع الحاكم الظالم - أو الحاكم الكافر حسب الحالة - فلن يثير أرباب هذا المذهب خلافاً مع الحاكم مهما أتى من أفعال، فهو مؤمن على كل حال ، أليس يتلفظ بالشهادتين؟! ثم ما لنا ندخل في سرائر الناس وندعي معرفة مكنونات صدورهم ، مادام العمل الظاهر لا مدخل له في قضية الإيمان ، وأن اعتقاد القلب هو المعوّل عليه في ذلك ، أليس يكفي ما ينطق به الحاكم لنكون معه في صف واحد ومسيرة واحدة نهادنه ونتعذر له المرة تلو المرة لنظل نعيش نتفيأ ضلال حكمه ، وإن ظهرت منا في بعض الأحيان - أو كلها - معاتبة أو معارضة فإنما هي معاتبة التصديق ، ونصح الأخ المؤمن لأخيه ، أو هي معارضة الخاضع ، وتبرم السائر تحت اللواء! .

ثم عامل آخر قد يكون له بعض الأثــر في إطـــلال الإرجـــاء برأســــه ، بل هو إلى عوامل استمراريته أقرب - وهو ظهور طوائف المنتسبين إلى مذهب الخوارج فكراً وعقيدة - وإن لم يكن بالضرورة اسماً - مما يزين لمن لم يتعمق النظر في دراسة العقائد وترجيح الصالح من الفاسد من الآراء - وغالبهم من الشباب على مر التاريخ دون رءوس الفتنة الذين يعون ما هم عليه من البدعة ، بل وبعضهم يقصد إليه قصداً - أن ينتسب إلى فكر الإرجـــاء قــولاً وعـمــــلاً - دون تسمية ودون وعي منهم بذلك ولا إدراك لحقيقة مذهب السلف الصالح ، وهذا التصرف كرد فعل غير مدروس للأفكار التي تجنح للتطرف والغلو في فهم العقيدة في الجانب الآخر ، وكلا جناحي الإفراط والتفريط إن هي إلا ردود أفعال سلبية للحكم غير المشروع الذي يسود المجتمعات الإسلامية في أي عصر من عصورها.

فالإرجاء إذن مـذهـب سـيـاسي - أو قل: موقف سياسي - اتخذ طابع البحث في أوليات العقائد مع استشراء تلك الموجــــة في بداية عصر الأمويين وظهور علم الكلام - كما بينا عوامل ذلك في مقدمة أسباب الاختلاف - كان موقفاً سياسياً في الحكام الظالمين ، يوم أن كانوا لا يزالون يحكّمون شرع الله ، وإن تجاوزوا الحد وأفرطوا في الظلم ، ثم استمر على ذلك النهج منهجاً للضعاف ممن يريدون مهادنة الظالم وتبرير مواقف الضعف والخزي ، حتى وإن تجاوز الظلم إلى الكفر ، ومن هنا نرى أن المرجئة لم يكونوا هدفاً للسلطة الغاشمة الظالمة في عصر من العصور ، بل كان منهم شعراء وعمال للحكام ، كثابت قطنة الذي كان والياً ليزيد بن المهلب على بعض الـثـغــور ، بل إنه مذهب يصلح أن يدعيه الحاكم نفسه ليكون برداً وسلاماً على كافة الطوائف المبتدعة.

فالمرجئة - إذن - في صلحٍ, خفي ومهادنـــة غـيـر مكتوبة مع الحاكم يتمتعون بالحرية في الحركة والقول جميعاً ، بينما يُضرب على يد من سواهم من أهل السنة والجماعة ، كما حدث لأئمة الفقه والحديث ، كمالك وأحمد بن حنبل وابن تيمية ، وكثيرين غيرهم ممن اتبعوا منهج السلف الصالح في الفهم عن الكتاب والسنة.

وليست هذه هي الكلمة الأخيرة عن الإرجــــاء والمرجئة كما قدمت في أول المقال ، ولكنها نفـثة غلت في الصدر وارتجّ بها القِدرُ ، فلم يكن بُدِّ من إظهارها!.

وقد اتبعت فيها مذهباً أراه يعين الباحث في مثل تلك الأمور ، وهو التحليل النفسي لفهم الدوافع وراء تلك العقائد المنحرفة ، وهو مذهب ارتضيناه في أسباب الاختلاف وسنجعله بعون الله تعالى أحد مصادرنا في دراسة أمثال تلك الفرق التي تحمل معول الهدم والخراب لتهدم به صرح الإسلام من داخله ، عارفةً بذلك أو جاهلةً.

((واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ)).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply