قيام حجة الله على الكفار المعاصرين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 





الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه وكفى بالله وكيلاً، فهدى به من الضلالة، وأنقذ به من الجهالة، وبصّر به من العماية، ونجّى به من الغواية، ونصح به الأُمّة، وكشف به الغُمّة، وأوضح به المحجّة، وأقام به الحُجّة، حيث جعل كتابه آخر الكتب، وشريعته ناسخةً للشرائع، وأمته شاهدةً على الأمم، فصلوات ربي وسلامه وبركاته عليه، وعلى آل بيته الطاهرين الطيبين، وعلى صحابته الغُرِّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان واقتدى بهم من الإنس والجان.



وبعد..

فاعلم أخي الحبيب أن سائر المكلّفين من الإنس والجنِّ هم من أمة محمد البشير النذير - صلى الله عليه وسلم -، مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمنون أمة الاستجابة، والكافرون أمة الدعوة، وأنّ الله لا يقبل من أحدٍ, منهم بعد بعثته ديناً سوى الإسلام، ولا دستوراً ولا منهجاً سوى القرآن، وأنه ما من أحدٍ, سمع به إلا ووجب عليه اتِّباعه والإيمان به، وإلا أكبّه الله في النار، وجعل مثواه دار البوار، ولا يُستثنى من ذلك يهوديُّ ولا نصرانيّ، ولا عربيُّ ولا عجميّ، ولا هندوسيُّ ولا بوذيّ، ولا شيوعيُّ ولا علمانيّ، ولا غير ذلك، كما أخبر بذلك الناصح الأمين، الرؤوف الرحيم - صلى الله عليه وسلم -.



خرّج الإمام مسلم بسنده في صحيحه عن حافظ الأمة أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديُّ ولا نصرانيُّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار)(1)، وليس هذا خاصّاً بعصره فقط، بل هو لكلِّ العصور، ولا باليهود والنصارى دون غيرهم من الملل، بل هو عامُّ لكلِّ الملل والنِّحَل إلى يوم البعث والنشور.



قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: \"فيه نسخ الملل كلِّها برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي مفهومه دلالةٌ على أنَّ مَن لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، وهذا جارٍ, على ما تقدّم في الأصول أنه لا حُكم قبل ورود الشرع على الصحيح، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأُمّة..)، أي: ممّن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكُلٌّهم يجب عليه الدخول في طاعته. وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على ما سواهما، وذلك لأنَّ اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أنّ لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى، والله أعلم\"(2).



قال الإمام الحُجّة، واضح المحَجّة، وأبو محمد بن حزم(3) - رحمه الله - مستدلاً بهذا الحديث الصحيح الصريح في كفر المعرضين عن الدين الصحيح، والمتكبرين عن قبوله: \"فإنما أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان به على من سمع بأمره، فكلٌّ من كان في أقاصي الجنوب، والشمال، والمشرق، وجزائر البحور، والمغرب، وأغفال الأرض، من أهل الشِّرك، فسمع بذكره - صلى الله عليه وسلم -، ففرضٌ عليه البحث عن حاله وإعلامه والإيمان به\".



إلى أن قال: \"وأمّا من بلغه ذكر النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، ثم لا يجد في بلاده من يخبره عنه، ففرضٌ عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرئ فيها الحقائق، ولولا إخباره - صلى الله عليه وسلم - أنه لا نبيَّ بعده، لَلَزِمنا ذلك في كلِّ من نسمع أنه ادّعى النبوة، ولكنّا قد أَمِنّا ذلك، والحمد لله\"(4).



والذي يترجّح لديَّ أنّ عامّة الكفار اليوم سمعوا بالإسلام، أو برسول الإسلام، أو بالقرآن، في معظم أنحاء المعمورة ـ اللهم إلاّ في الأصقاع النائية، والقمم الشاهقة، والمناطق القطبية، وبعض الأحراش والأدغال المعزولة ـ سيّما في المدن الكبيرة، والحواضر الجامعة. وذلك للأسباب التالية:



[1] عالم اليوم أصبح كالقرية الواحدة بسبب كثرة وسائل الاتصال، وتنوّعها، وسهولتها، ويسرها، مقارنةً بالأزمنة السابقة، سيما في ديار الكفر.



[2] هجرة العديد من المسلمين إلى بلاد الكفار البعيدة والقريبة(5)، القاصية والدانية، ومساكنتهم ومخالطتهم ومعاشرتهم للكفار.



[3] انتشار العديد من المساجد، والمراكز، والجمعيّات، والاتِّحادات، والمدارس، والجامعات الإسلامية، في معظم أنحاء ديار الكفر.



[4] دراسة التاريخ، خاصة لفترة الحروب الصليبية على بلاد الإسلام التي يفخر بها الكفار، ويعملون على نشرها.



[5] العديد من الكتب، والمذكِّرات التي كُتبت عن بلاد الإسلام والمسلمين بواسطة المُنصِّرين، والجواسيس والمكتشفين.



[6] كتب أئمة الكفر والمتحلِّلين من الأخلاق، نحو كتاب (آيات شيطانية)، الذي تُرجم إلى كلِّ اللغات، وطُبع عشرات المرّات، لعدوِّ الله وعدوِّ نفسه (سلمان رشدي)، ومن شاكله، أمثال (نزار قباني)، و(فرج فودة)، و(أنيس منصور)، و(محمود محمد طه)، وغيرهم كثير، التي يحتفل بها الكفار ويعملون على نشرها وتوزيعها على أوسع نطاق.



[7] الحروب الدائرة في الشرق الأوسط وبلاد الإسلام: حرب الخليج، والحروب الصليبية التي تدور هذه الأيام في فلسطين، وأفغانستان، والصومال، وكشمير، وغيرها كثير.



[8] الدورات الأولمبية والرياضية المشتركة.



[9] هيئة الأمم المتحدة والمنظمات العديدة المنبثقة منها ومشاركة الدول العربية والإسلامية فيها.



[10] الحملات التنصيرية الضخمة تحت عدة مُسمّيات، المستهدفة لبلاد الإسلام الفقيرة، كأندونيسيا وغيرها.



[11] الفنانون والمصارعون والممثلون أمثال (مايكل جاكسون)، الذي له أغنية يشتم فيها الإسلام، واستكبر أن يكون له معجبون من المسلمين، وحُقَّ له ذلك، و\"من يَهُن يسهل الهوان عليه\".



[12] البعثات الطلابية العديدة منذ عهد محمد عليّ.



[13] الاستعمار الأوروبي والياباني لكلِّ الدول الإسلامية سوى الجزيرة العربية وأفغانستان، التي جلب لها (أصحاب الشمال الأفغاني) الاستعمار الأمريكي الآن، حتى لا تُحرم هذا النعيم كما حُرمت في الماضي.



[14] العديد من المخطوطات التي سُرقت من المكتبات الإسلامية وحازتها مكتبات أوروبا، والعديد من الكتب الإسلامية التي تُرجمت واستفيد منها.



هذه مجرد أمثلة، وإلاّ فالأسباب التي تجعل الكفار في جلِّ بلاد الدنيا يسمعون بالإسلام وبرسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - لا تُحصى.



ثم كيف لا يكون البحث عن الإسلام ومعرفته واجبة على من سمع به ولو بصورة مشوّهة من الكفار مع وجود الإمكانات الواسعة لديهم والأموال الطائلة عندهم؟ مع اشتغالهم بسفاسف الأمور، ومغامرات تافهة وبحوث رخيصة، حيث لم يكتفوا بهذا الكوكب بل تعدّوه إلىكواكبَ أُخرىº القمر والمشتَرى ونحوهما، ومع بذلهم جل ميزانياتهم لصنع أسلحة الدمار الشامل وتطويرها مع تحريم ذلك على كل بلاد الإسلام، وصرف الأموال كذلك على القِطَطِ، الكلاب، والحشرات، والطيور، والحيوانات البرية والبحرية المهددة بالانقراض!



هذا مع سَعي كثير من الكفار في الماضي والحاضر لمعرفة الإسلام والدخول فيه مع قلة إمكانياتهم، وصعوبة تحركاتهم، وتحملهم للمشاق القاسية في سبيل ذلك، وإليك بعض الأمثلة:

[1] سَعي سَلمان الفارسي - رضي الله عنه - وتطوافه البلاد حتى دُلّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهاجر إليه.



[2] سَعيُ أبي ذر - رضي الله عنه - ومجيئه إلى مكة للتثبت من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بعد أن أرسل أخاه الذي لم يشفِ غليله، وقد جلس مع ذلك ثلاثين ليلة لا يطعم إلا ماء زمزم إلى أن استضافه عليُّ - رضي الله عنه - الذي أوصله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم على يديه، وأمره أن يرجع إلى بلاده، ولكنه أصرّ أن يصرخ بكلمة التوحيد بين ظهراني المشركين، وقد كادوا أن يقتلوه لولا أن حماه العباس - رضي الله عنه -.



[3] الطٌّفيل بن عمرو الدوسي وقد حذره أهلُ مكةَ من السماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وضع في أذنيه الكُرسُف لكيلا يسمع منه، ولكنه مع ذلك أصرّ على السماع والتعرف على رسول الهدى، فأسلم.



[4] وفد نصارى نجران، ونصارى الحبشة الذين هاجروا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وتثبّتوا من صدقه فآمنوا به.



[5] تميم الداري وقد كان نصرانياً فأسلم، وقد أتى من بلاد فلسطين.



[6] وفود القبائل العربية العديدة من العام الخامس الهجري إلى العام السابع الذي عُرِفُ بعام الوفود.



[7] ومِن قَبلُ سَعيُ الغلام ـ ثامر ـ واجتهاده لمعرفة الحق، وتردده بين الساحر والراهب وتحمله المشاق، وأخيراً جاد بنفسه لِيُدخِلَ الناسَ في دِين الله أفواجاً، كما في قصة أصحاب الأخدود.



[8] سَعي، وبحثُ، واجتهاد معظم الذين أسلموا في بلاد الكفار، ولولا أنّ الله سهل لهم هذا البحث والاجتهاد لمعرفة الإسلام والاتصال بالمسلمين لما دخلوا في الدين الإسلامي.



والأمثلة على ذلك كثيرة، وفيما ذكرنا عوض عما أغفلنا.



هذا مع العلم أنّ الكفار أنواع حسب السبب المانع للإنسان من دخول الإسلام، فهناك:



[1] كفر تكذيب كما قال - تعالى -: \"فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون\".



و[2] كفر إباء واستكبار: \"وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم\"، \"أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون\"؟



و[3] كفر إِعراض: \"والذين كفروا عما أُنذروا معرضون\".



والسببان الثاني والثالث هما المانعان كثيراً من الكفار اليوم من السعي لمعرفة الإسلام، فهم معرضون عن الأسباب المعيينة على ذلك، ومستكبرون ومستنكفون عن الدخول في الإسلام، وعلى الرغم من سماع الكثير منهم به وبرسوله، كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما استجار بأهل الطائف فلم يجيروه: \"إن كنتَ صادقاً فأنت أجَلّ في عيني من أَن أَردّ عليك، وإن كنتَ كاذباً فأنتَ أحقر من أن أكلمك\".



[4] وهناك كفر الشك، حيث لا يصدق ولا يكذب.



أَبَعدَ كل هذا يمكن أن نقول أنّ معظم الكفار اليوم لم تقم عليهم الحجّة؟!! مستدلين بقوله - تعالى -: (وما كنّا معذبين حتى نعث رسولاً)؟ كيف والرسول قد بُعِث، وسُمِع به ولكن لم يَسعَوا، ولم يجتهدوا في التعرف على دينه والبحث والتفتيش عما يعينهم على الدخول فيه، سيَّما وأنّ هناك العديد من المسلمين في الماضي والحاضر سَعَوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى أتباعه، وأتباع أتباعه، فَكُتِبَت لهم الهداية، ولو انصرفوا عن ذلك لصُرِفَت قلوبهم عن الإسلام.



عِلماً أنّ هذا كلّه لا يعفي المسلمين عن مسئوليتهم تُجاه هذا الدين، وتبليغه لكل البشرية، ومجاهدة مَن يحول دون ذلك، ولكن ينبغي ألاّ نلتمس للكفّار العذر، كما لا نلتمس للمسلمين كذلك المعاذير.



والله أسأل أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحقّ حقّاً ويرزقنا اتِّباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله صادق الوعد الأمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



-----

(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس ونسخ المِلل بملته، الحديث رقم: 239.

(2) شرح صحيح مسلم للإمام النووي: 2/188.

(3) هذا الإمام مظلوم من قِبَل أهل الأهواء أخزاهم الله حيث أفشوا زلته وهفوته في إباحة الملاهي، وتجاهلوا انتصاره للسٌّنة، ودحضه لحُجج عُبّاد الصلبان واليهود لعنهم الله، قتلة الأنبياء، نسأل الله أن يدفنها في حسناته العظام ويُجازي بها من أفشوها عنه.

(4) الإحكام في أُصول الأحكام لأبي محمد علي بن حزم (384ـ456هـ) الطبعة الأولى1405هـ، دار الكتب بيروت: 5/111ـ112. وهذا الكتاب وكتاب الفصل في المِلل والأهواء والنِّحل، وكتاب المُحلّى من أجلِّ كتب ابن حزم.

(5) لا يجوز لأحدٍ, أن يسافر إلى بلاد الكفار، أو أن يعيش بين ظهرانيهم إلاّ لحاجةٍ, ماسّة وضرورةٍ, قاهرة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply