الصراط


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



أحبتي في الله:

نحن اليوم بتوفيق الله - جل وعلا - على موعد مع اللقاء التاسع عشر من لقاءت هذه السلسلة العلمية الهامة، وكنا قد أنهينا الحديث الماضي مع مشهد الميزان، وقلنا إن الحساب لتقرير الأعمال، وإن الوزن لإظهار مقدارها ليكون الجزاء بحسبها.

فإذا وزنت الأعمال، وتقرر الجزاء، ما بقى إلا أن يلقى كل واحد مصيره، فيأمر الملك - جل وعلا - أن ينصب الصراط على متن جهنم ليمر عليه الموحدون المتقون المؤمنون الصادقون إلى جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وليمر عليه المشركون والمجرمون الكافرون الجاحدون إلى نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.

لذا فموضوعنا مع حضراتكم اليوم بإذن الله - تعالى - هو مشهد الصراط بعد الميزان.

وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من بين أيدينا فسوف نركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في العناصر التالية:

أولاً: الصراط جسر جهنم وأحوال الناس عليه.

ثانياً: الأمانة والرحم على جانبي الجسر.

ثالثاً: من هو آخر رجل يمر على الصراط؟

رابعاً: كيف النجاة؟

فأعيروني القلوب والأسماع والوجدان أيها الأحبة الكرام، فإن الموضوع جد خطير، والله أسأل أن ينجيني وإياكم يوم الحساب ويوم الميزان ويوم الصراط إنه ولى ذلك والقادر عليه.

أولاً: الصراط جسر جهنم وأحوال الناس عليه.

أحبتي في الله:

الصراط لغة: هو الطريق الواضح المستقيم البين، ومنه قول جرير: أمير المؤمنين على الصراط إذا اعوج الموارد مستقيم

والصراط شرعاً: المراد به هنا جسر أدق من الشعر، وأحدٌّ من السيف كما قال أبو سعيد الخدري في صحيح مسلم: (الصراط جسر أدق من الشعر، وأحد من السـيف، يضربه الله - جل وعلا - على ظهر جهنم ليمر عليه المؤمنون إلى جنات النعيم، والمشركون إلى جهنم وبئس المصير، فهو قنطرة بين الجنة والنار).

قال - تعالى -: {وَإِن مِنكُم إلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتماً مَقضِيّاً} [مريم: 71].

قال الإمام أبو العز الحنفى في شرح العقيدة الطحاوية ([1]):\" اختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله - تعالى -:{وَإِن مِنكُم إلا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، وكان الرأي الأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط قال - تعالى -:{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً}[مريم: 72].

وفى الصحيح قال رسول الله:(والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة) قالت حفصة: فقلت يا رسول الله، أليس الله يقول:{وَإِن مِنكُم إلا وَارِدُهَا} قال:(ألم تسمعيه قال:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً}).

والتحقيق العلمى للجمع بين أقوال أهل العلم في معنى الورود هو أن الورود على النار نوعان:

الأول: ورود بمعنى الدخول، وهذا للكافرين والمشركين، كما قال الله في شأن فرعون:{يَقدُمُ قَومَهُ يَومَ القِيَامَةِ فَأَورَدَهُمُ النَّارَ وَبِئسَ الوِردُ المَورُودُ}[هود: 98].

الثاني: بمعنى المرور على الصراط وهذا لا يكون إلا لأهل الأنوار من المتقين الموحدين ممن قال فيهم رب العالمين:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم: 73].

فأعرني قلبك وسمعك فها هو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى يبين لنا بأسلوبه النبوي البليغ الموجز الرائع الجامع لبيان الكلم هذا المشهد المهيب مشهد المرور على الصراط، بل إن شئت فقل يجسد لنا هذا المشهد الذي يخلع الفؤاد، فعن أبي هريرة أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال النبي: (هل تضارون في القمر ليلة البدر؟) قالوا: لا، يا رسول الله، فقال النبي:(هل تضارون في الشمس ليس لها سحاب؟) قالوا: لا، يا رسول الله، فقال النبي:(فإنكم ترونه كذلك)([2]).

يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله يقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا؟ فيدعوهم، ويضرب الصراط بين ظهرانى جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز الصراط، ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم.. سلم، وفى جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله - تعالى -، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار وفى رواية: فمنهم المؤمن بقى بعمله، ومنهم المجازى حتى ينجى، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار - فكل ابن ادم تأكله النار إلا أثر السجود - فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد).

لكن هل تدبرت ما سمعت من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان يعبد الشمس يتبع الشمس، ومن كان يعبد القمر يتبع القمر - وتبقى أمة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - فيها منافقوها، فينطلق المنافقون مع أهل الإيمان، فيقولون مع المؤمنين: أنت ربنا...يظنون أنهم يخدعون الله!!

ترى ماذا يحدث؟!!

هنا يلقى الله على أهل الموقف ظلمة حالكة السواد لا يستطيع أحد في أرض الموقف أن يخطو خطوة واحدة إلا بنور، كما في صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: يا رسول الله أين يكون الناس حين تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار؟ فقال المصطفى: (يا عائشة هم في الظلمة دون الجسر ) وفى لفظ مسلم (هم على الصراط)، قال ابن مسعود - كما في مسند أحمد ورواه الحاكم وابن حبان وابن أبى حاتم وصححه الألباني -:(فمنهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يتقد مرة وينطفأ مرة وهذا أقلهم نوراً، ومنهم من تحوطه الظلمة من كل ناحية)([3]).

أخي في الله تدبر جيداً هذه الآيات:

{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبٌّكُم أَن يُكَفِّرَ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيُدخِلَكُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ يَومَ لا يُخزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُم يَسعَى بَينَ أَيدِيهِم وَبِأَيمَانِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتمِم لَنَا نُورَنَا وَاغفِر لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ}[التحريم:8].

وقال - تعالى -:{يَومَ تَرَى المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ يَسعَى نُورُهُم بَينَ أَيدِيهِم وَبِأَيمَانِهِم بُشرَاكُمُ اليَومَ جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} [الحديد: 12].

وإذا ما أراد المنافقون أن يقتربوا من الصراط سلب الله نورهم أو كما قال الضحاك: طفئ نور المنافقين فيتميز أهل النفاق من أهل الإيمان، لذا فإذا رأى أهل الإيمان نور المنافقين طفأ على الصراط وَجِلَ المؤمنون وأشفقوا وهذا معنى قوله - تعالى -:{يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتمِم لَنَا نُورَنَا وَاغفِر لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ}[التحريم: 8].

حينئذ يرى أهل النفاق في الظلمات الحالكة أهل الأنوار من أهل الإيمان والتوحيد ينطلقون على الصراط - كما سأبين لاحقاً - فينادى أهل الظلمات من أهل النفاق على أهل الأنوار من أهل الإيمان والتوحيد: يا أهل الأنوار انظرونا نقتبس من نوركم، لا تتركونا في هذه الظلمات الحالكة السوداء، فانتظروا لنمشى في رحاب أنواركم، (( قيل ارجعوا ورائكم فالتمسوا نوراً )) وهذا من جنس الخداع للمنافقين كما خادعوا الله في الدنيا.

في هذه اللحظات:{قِيلَ ارجِعُوا وَرَاءَكُم فَالتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَينَهُم بِسُورٍ, لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} [الحديد:13-14].

\" ينادونهم \" أي ينادى أهل النفاق أهل الظلمة الحالكة أهل الإيمان والأنوار: \"ألم نكن معكم \" نصلى الجمعات، ونحضر الجماعة، ونشهد الغزوات، ونقف على عرفات، ألم نكن معكم نؤدي سائر الواجبات، \"قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم\" أي بالحق وأهله والسنة وأهلها، \" وارتبتم \" وتشككتم في البعث والميزان والصراط والنار \"وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله \"حتى فاجأكم الموت، وانتقلتم الآن من عين اليقين إلى عين اليقين - أي عاينتم الحقائق بأعينكم - فرأيتم الميزان، ورأيتم الصراط، ورأيتم الميزان، \" وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور\".

ويزيد الصادق المصدوق الصورة توضيحاً كما في رواية أبى سعيد الخدري في صحيح مسلم قال:(حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون، تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولوا: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً - مرتين أو ثلاثة - حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد لله اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم.. سلم) قيل: يا رسول الله، ما الجسر؟ (قال: مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة بنجد، يقال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذى نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله من استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، قد أخذت النار إلى نصف ساقه، وإلى ركبته، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحد ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً)، وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئتم:{إِنَّ اللّهَ لا يَظلِمُ مِثقَالَ ذَرَّةٍ, وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفهَا وَيُؤتِ مِن لَدُنهُ أَجراً عَظِيماً}.

(فيقـول الله - عز وجل -: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الرحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج فيها قوماً لم يعلموا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر من أنهار الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أخضر، وما يكون منها إلى الظل، يكون أبيض؟) فقالوا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى الغنم، قال: (فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمـن الذيـن أدخلهـم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحـداً مـن العـالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبـداً)([4]).

الله أكبر.. وصف ورب العزة لو تدبرناه كأن نعايشه ونراه.. ولما لا!!

والذي يبين ويوضح لنا هو من آتاه الله جوامع الكلم - بأبي هو وأمي - محمد بن عبد الله.

أيها المسلم بالله عليك تدبر هذا المشهد الذي يخلع القلب وأنت على الصراط، وجهنم مسودة تزفر وتزمجر تحت الصراط، وأناس بين يديك منهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطير، ومنهم من يزحف على الصراط، ومنهم من تخطفه الخطاطيف والكلاليب إلى نار جهنم.

أبت نفسي تتوب فما احتيالى إذا برز العباد لذي الجلال

وقاموا من قبورهم سكـــــــارى وقد برزوا كأمثال الجبـــال

وقـــد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال

ومنهم من يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغواني

يقول له الـمهيمــــن يا ولــيي غفرت لك الذنوب فلا تبالي



ثانياً: الأمانة والرحم على جانبي الصراط .

والله إنه لمشهد يخلع القلب، والحديث في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان وفيه أنه قال:(وترسل الأمانة والرحم على جانبى الصراط)، يقول الإمام النووى في شرحه لصحيح مسلم: وإرسال الأمانة والرحم على جانبى الصراط لتطالب كل من يمر على الصراط بحقها.

هذا يدل على عظيم قدرهما عند ربهما، الأمانة حمل ثقيل أشفقت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وحملها الإنسان قال - تعالى -:{إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}[الأحزاب:72].

ترى هل تعلم معنى الأمانة؟ يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: الأمانة هي الفرائض التي فرضها الله على عباده، يقول أبو العالية: الأمانة هي ما أمر وما نهى عنه، يقول الحسن وقوله أبلغ قول: الأمانة هي الدين فالدين كله أمانة.

فالعبادة أمانة بأنواعها كالصلاة والزكاة والصوم والحج، وجوارحك أمانة، ومنصبك وكرسيك أمانة، والمال عندك أمانة، وزوجك وأولادك أمانة، والعلم وطالب العلم عند العالم أمانة، والله قد حذرنا من الخيانة فقال - جل وعلا -:{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ}[الأنفال: 27].

وفى صحيح البخاري من حديث أبى هريرة بينما النبي في مجلس يحـدث القوم جاء أعربي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال فأنكر ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع حتى إذا ما قضى حديثه قال: (أين أراه السائل عن الساعة؟) قال: ها أنا يا رسول الله قال: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قال: كيف إضاعتها؟ قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)([5]).

ووالله لقد وسد الأمر إلى غير أهله، وتقدم وتطاول الأقزام والتافهون والرويبضات ممن قال عنهم الصادق المصدوق في حديثه الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم من حديث أبى هريرة: (سيأتي على الناس سنوات خدعات يصدق فيها الكاذب، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين).

لا في أمر العوام بل في أمر الإسلام.

وراعي الشاة يحمى الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب

فالدين كله أمانة، والله قد حذر من الخيانة، فالأمانة تقف على جانبي الصـراط تطـالبـك بحقوقها قبل أن تمر على الصراط، فالله الله في الأمانة والرحم.

وما أدراك ما الرحم؟! آه ثم آه من تقطيع الأرحام في هذا الزمان، والله لقد رأينا الابن يقطع رحم أبيه وأمه، رأينا الإنسان المسلم يأتي إلى المسجد وهو قاطع لأرحامه، يهين أباه ويهين أمه، يهين عمه ويهين عمته، يهين خاله ويهين خالته، ثم يقول: \" إن أهلي لا يزوروني لا يودونى، وأنا بالطبع لا أزور أحداً \" إن هذا ما يسمى بتبادل المنافع والمصالح والزيارات، إن زارك عمك تقدم له زيارة، وإن لم يفعل لا تفعل وهكذا ليس هذا بصلة للرحم، إنما صلة الرحم أن تُقطَعَ فَتَصل، أن يقطعك أهلك فتصل، هذه هي الصلة.

اسمع لهذا الحديث المرعب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والحديث في الصحيحين من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه -: (لما فرغ الله من خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: يا رب هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذلك لك)، ثم قال المصطفى: (إقرأوا إن شئتم قوله - تعالى -: (( فَهَل عَسَيتُم إن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدُوا فِي الأرضِ وَتُقَطِّعُوا أَرحَامَكُم أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُم وَأَعمَى أَبصَارَهُم))([6]).

أيها المسلم يا من تخشى المرور على الصراط اذهب من الآن ضع أنفك في التراب لله، وقبِّل يديّ أبيك، وقبِّل يديّ أمك، واذهب إلى أعمامك وعماتك، وأخوالك وخالاتك ورحمك.. لا تقطع الرحم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يدخل الجنة قاطع)([7]) والحديث في البخاري ومسلم.

وفى الصحيحين من حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:(من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه)([8])، أي من أراد أن يوسع الله عليه رزقه، ويبارك الله في أجله فليصل رحمه.

وهنا يبدو سؤال مهم: إذا كانت الأرحام التي ذكرت فيها الاختلاط والمعاصي والضلال فهل يجب علينا أن نقطعها من أجل هذا؟

الجواب: الهجر نوعان هجر للدنيا، وهجر للآخرة، فإن هجرت أرحامك من أجل الدنيا فهذه هي القطيعة المحرمة، وهذا هو الهجر المحرم الذي نهاك الله ورسوله عنه، أما إذا هجرت أرحامك من أجل دينك فبوصلهم مثلاً يضعف الإيمان ويرق، وعندهم المعاصي تؤثر فيك، وقد خضت طريق دعوتهم وبذلت لهم النصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلتهم بالتي هي أحسن عشرات المرات، ولكنهم لم يستجيبوا فأنت تهجر هؤلاء خوفاً على دينك وأهلك وأولادك فهذا هجر قد تؤجر عليه من الله - جل وعلا -، والله أعلم بنيتك، لحديث الثلاثة الذين خلِّفوا أَمَر النبي أهله وأصحابه أن يهجروا هؤلاء([9])، هذا الهجر كان من هجر الدين والآخرة فهو مأجور ومحمود.



ثالثاً: من هو آخر رجل يمر على الصراط وكيف يكون حاله؟

من هو آخر رجل يدخل الجنة من أمة الحبيب المحبوب محمد - صلى الله عليه وسلم -.

الجواب:

في الحديث الجليل الذي رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال المصطفى:(آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشى على الصراط مرة وهو يكبو مرة وتسفعه النار مرة (أي تلطمه وتضربه)، فإذا جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة، فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله - تبارك وتعالى-: يا ابن آدم لعلى إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب، ويعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: يا رب، أدنني من هذه الشجرة لأشرب من مائها، وأستظل بظلها ولا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلى إن أدنيتك منها أن تسألني غيرها، فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لم صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي ربى أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها وأشرب من مائها ولا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع صوت أهل الجنة، فيقـول: يا رب أدخلنيهـا، فيقول: يا ابن آدم ما يرضيك منى، أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب أتستهزئ منى وأنت رب العالمين).

فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مما أضحك؟ قالوا: مم تضحك؟ قال: ضحك رسول الله فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال:(من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: لا استهزئ بك ولكني على ما أشاء قادر)([10]).



رابعاً: كيف النجاة؟

إن الله له في الدنيا صراط، وإن له في الآخرة صراط، فمن استقام في الدنيا على صراط الله ثبته الله في الآخرة على الصراط، فاستقم على صراط الله في الدنيا فأنت حين تصلى تدعو الله في كل ركعة في صلاتك أن يهديك هذا الصراط (( اهدنا الصراط المستقيم )) هذا الصراط هو طريق محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، الزم هذا الصراط، واثبت عليه.

----------------------------------------

([1]) شرح الطحاوية بتحقيق الألبانى ص 416.

([2]) رواه البخارى رقم (7437) في التوحيد، باب قوله - تعالى -: (( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ))، ومسلم رقم (633) في المساجد، باب فضل صلاة والعصر والمحافظة عليها وأبو داود رقم (4730) في السنة، والترمذى رقم (2557) في صفة الجنة.

([3]) رواه مسلم رقم (315) في الحيض، باب صفة منى الرجل والمرأة.

([4]) رواه البخارى رقم (7439) في التوحيد، باب (( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ))، ومسلم رقم (183) في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، والنسائى (8/112، 113) في الإيمان.

([5]) رواه البخارى رقم (59) في العلم، باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل.

([6]) رواه البخارى رقم (7502) في التوحيد، با ب قوله - تعالى - (( يريدون أن يبدلوا كلام الله ))، ومسلم رقم (2554) في البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها.

([7]) رواه البخارى رقم (5987) في الأدب، باب من وصلها وصله الله، ومسلم رقم (2556) البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، وأبو داود رقم (1696) في الزكاة.

([8]) رواه البخارى رقم (5985) في الأدب، باب من بسط الله له في الرزق بصلة الرحم، ومسلم رقم (2555) في البر، باب صلة الرحم وتحريم قطيعته.

([9]) قصة كعب بن مالك وأصحابه الذين تخلفوا في غزوة تبوك، في البخارى رقم (4418)، ومسلم رقم (2769).

([10]) رواه البخارى رقم (6571) في الرقاق، باب صفة الجنة والنار، مسلم رقم (187) في الإيمان، باب آخر أهل الجنة خروجاً من النار، واللفظ له.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply