الإعجاز العلمي في القرآن الكريم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 





العقل الصحيح لا يتناقض مع النقل الصريح:

اعلم - علمني الله وإياك - أنه لا يكون ولن يكون في القرآن الكريم نص صريح يصادم ويتنافى مع حقيقة علمية ثابتة، إذ العقل الصحيح لا يتنافى ولا يتناقض مع النقل الصريح.



يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان مكانة العقل مع النقل ما نصه:



\"بل العقل شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكتمل العلم والعمل، ولكنه ليس مستقلاً بذلك، لكونه غريزة في النفس وقوة فيها، بمنـزلة قوة البصر التي من العين، فإذا اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأنوار التي يعجز وحده عن إدراكها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أموراً حيوانية، قد يكون فيها محبة ووجد وذوق، كما يحصل للبهيمة فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن إدراكه، ولم تأت بما يعلم العقل امتناعه\"[1]. اهـ.



* * *



((ولا تقف ما ليس لك به علم)) [الإسراء: 36]:



إن ما يفعله بعض المنتسبين للعلم، من ربط القرآن بالنظريات العلمية، إنما هي محاولات خطيرة على قدسية القرآن، وذلك لأن هؤلاء يحاولون ربط كلام الله - عز وجل - بنظريات علمية اكتشفها الإنسان، قد يتبين بعد مرور زمن أنـها نظريات غير صحيحة، والقرآن في غنى عن أن يعتز بمثل هذا التكلف، كما أن التوسع والإسهاب في تفسير القرآن على أساس النظريات العلمية يخرج القرآن عن مسلكه الصحيح، إذ هو كتاب عبادة ومنهج حياة، فأسلوبه يخلو عن الإسهاب والإطناب في ذكر تفاصيل الموضوعات، وكذلك يجب أن يتجنب الباحث في تفسيره، وفي بحثه عن وجه الإعجاز العلمي في هذا الكتاب الكريم مسلك التوسع والإسهاب في ذكر النظريات العلمية كي لا يخرج عن الهدف الحقيقي.



فحسبهم أن لا يكون في القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جدّ ويجدّ من نظريات وقوانين علمية تقوم على أساس من الحق وتستند إلى أصل من الصحة[2].



قال - تعالى -: ((ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)) [الإسراء: 36].



* * *



((إن هو إلا ذكر وقرآن مبين)) [يس: 69]:



للقرآن الكريم خصائص تميزه عن سائر الكتب والمصنفات التي عرفتها البشرية، فعنده تلتقي نـهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرافها، فبالرغم من قصده في الألفاظ، لكنه يفي بحق المعنى، ولا يحيف على المعنى مطلقاً، كما أنه يجمع بين البيان والإجمال دون أن يطغى أحدهما على الآخر، وهذه الأمور من خصائص القرآن، بل من عجائبه التي جعلته معجزاً.



فالقرآن الكريم إذن كتاب منهج عبادة، ليس كتاب علم على غرار الكتب التي يصنفها علماء البشر، ولذلك تجده متجنباً للحديث عن تفاصيل العلوم التي اهتم بـها العلماء، كعلم الفلك، وعلم الطب، وعلم الأرض، وعلم الحساب وغيرها.



إنما نجد فيه قواعد مجملة وأسساً وأصولاً لكل العلوم النافعة التي تفيد الإنسان في دنياه وآخرته، قال - تعالى -: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) [الأنعام: 38].



فأسس علم الطب مأخوذة من قوله - تعالى -:



((وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)) [الأعراف: 31] وقـوله عن العسـل: ((شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس)) [النحل: 69].



وقوله: ((وإذا مرضت فهو يشفين)) [الشعراء: 80].



وقوله: ((فلينظر أيها أزكى طعاما)) [الكهف: 19].



وأسس علم الفلك موجودة في قوله - تعالى -:



((وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر)) [الأنعام: 97].



وقوله: ((هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب)) [يونس: 5].



والماء أصل كل كائن حي وأساسه، إذا عدم الماء تنعدم الحياة ولذا قال - تعالى -: ((وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون)) [الأنبياء: 30].



* * *



((ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)) [النحل: 89]:



وأذكر فيما يلي آيات كريمة تضمنت حقائق علمية دالة على إعجاز القرآن الكريم، وبحث في موضوعها عدد من العلماء، ما بين مقلٍّ, ومكثرٍ,[3] منها:



قوله - تعالى -: ((تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا)) [الفرقان: 61].



فالشمس جعلها الله سراجاً، والسراج لا يطلق إلا على ما كان يبعث مع الشعاع حرارة، وجعل القمر منيراً، فهو يبعث الضياء ولا حرارة فيه.



وقوله - تعالى -: ((وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون)) [النمل: 88].



وقوله: ((وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين)) [فصلت: 10].



وقوله: ((وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا)) [المرسلات: 27].



فالجبال إذا يراها الإنسان يحسب أنـها جامدة غير متحركة بينما هي متحركة، كتحرك السحاب، والسحاب تحركه الرياح، فكذلك الجبال لها محرك آخر وهي تابعيتها لدوران الأرض.



وأمر آخر من الحكمة الإلهية في خلق الجبال لتثبيت الأرض ولئلا تميد وتضطرب.



وقوله - تعالى -: ((فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)) [الأنعام: 125].



لم يكن للناس معرفة بتغير الضغط الجوي قبل قرون، ولم يكونوا يعرفون زيادة الضغط في المنخفضات، لكن التجارب العلمية الحديثة، مع تطور وسائل النقل والمخترعات، أثبتت أنه كلما ارتفع الإنسان في الجو، كلما يضيق تنفسه، بسبب اختلاف الضغط الجوي.



وقوله - تعالى -: ((وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا)) [الفرقان: 53].



وقوله: ((مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان)) [الرحمن: 19-20].



وقوله: ((أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أئله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون)) [النمل: 61].



ذكر علماء التفسير المتقدمين إلى أن معنى (برزخاً) أي حاجزاً وهو اليبس من الأرض.



لقد تساءل العلماء عن ظاهرة عدم اختلاط الماء العذب بالماء المالح منذ قرون عديدة، وأجابوا عن معنى الآيات بما ذكرناه آنفاً وما يشبهه، ولم يقفوا على حقيقة الأسباب المادية المؤدية إلى عدم اختلاط أحدهما بالآخر، حتى أثبتت التجارب العلمية الحديثة وعرفوا ما يسمى بقانون (المط السطحي).



ومعناه: ضبط المواد السائلة وعدم اختلاطها ببعضها، وذلك لأن تجاذب الجزيئات يختلف من سائل لآخر، فيحتفظ كل سائل باستقلاله في مجاله، وغير ذلك من قوانين علمية عرفها العلماء بعد التجارب الحديثة، كقانون تجاذب الجزيئات المتجانسة، وقانون الكثافة، فلكل سائل كثافة تختلف عن كثافة غيره.



وقوله - تعالى -: ((بلى قادرين على أن نسوي بنانه)) [القيامة: 4].



وقوله - تعالى -: ((ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)) [الذاريات: 49].



وقوله - تعالى -: ((يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث)) [الزمر: 6].



وغيرها من الآيات كثير، أثبتت وجهاً من وجوه إعجاز القرآن في جانب العلوم التي اكتشفت حديثاً، وسبق القرآن في الحديث عنها.



* * *



جهود العلماء في الإعجاز العلمي، ومنهج التفسير العلمي:



بذل العلماء - شكر الله سعيهم - جهوداً لا تنكر قديماً وحديثاً في موضوع الإعجاز العلمي والتفسير العلمي للقرآن الكريم، فمنهم المؤيد لهذا المنهج، ومنهم المعارض، كما أن منهم من حالفه التوفيق ومنهم من جنح عن الطريق.



فأما الذين أسهبوا وأطنبوا في البحث في تفسير القرآن على ضوء العلوم والتجارب الإنسانية والنظريات التي يتقدم بـها العلماء وجعلوا آيات القرآن كأنـها مباحث رياضية أو طبية أو جيولوجية، فكانوا موضع نقد ومؤاخذة عند كثير من العلماء، وذلك لما ظهر من تمحلات وأخطاء واستطرادات تذهب ببهاء آيات القرآن، ومن هؤلاء الرازي في (التفسير الكبير) قال عنه بعض العلماء فيه كل شيء إلا التفسير.



وكذلك الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) فعندما ذكر أبواب آداب تلاوة القرآن، ونقل عن العلماء أن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع[4]!!!



فمن استطاع أن يقوم بـهذه الإحصائية؟!!



وما الأدلة على صدقها من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟!!



وفي كتابه (جواهر القرآن) قسم علوم القرآن إلى قسمين:



الأول: علم الصدف والقشر، ويشمل: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم القراءات، وعلم مخارج الحروف وعلم التفسير الظاهر!!



والثاني: علم اللباب، ويشمل: علم قصص الأولين، وعلم الكلام وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر والعلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك[5].



كيف جعل علوم القرآن تنقسم إلى قشور ولباب؟!!



ومن الذي يجرؤ على القول بأن تفسير ظاهر القرآن من علم الصدف والقشر؟!!



ومن المعاصرين الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه (الجواهر في تفسير القرآن الكريم) وقد لامه كثير من العلماء على مسلكه في التفسير.



ومن الجهود التي تحمد في هذا العصر في البحث في الإعجاز العلمي، المركز الذي يصدر مجلة في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وكذلك الجهود التي يقوم بـها الشيخ عبد المجيد الزنداني، محاولاً ربط هذه الحقائق العلمية بآيات القرآن الكريم، واستنباط اللطائف ومحاولة الجمع بين ظهور الحقائق العلمية والأحكام الفقهية وما ترشد إليه الآيات.



والخطر كل الخطر يكمن في منهج الباحثين في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، مركّزين جهدهم على نتيجة واحدة وهي الاهتمام بتوحيد الربوبية، وهذا يتفق مع منهج المتكلمين والمرجئة منهم على وجه الخصوص الذين يفسرون الإيمان بأنه التصديق القلبي واختلفوا في النطق باللسان هل هو ضروري أم لا!!



ولابد من اتباع منهج السلف في دراسة القرآن وتفسيره.



فقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان ابن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنـهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا[6].



وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف



قال - تعالى -: ((وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)) [يونس: 37].



وقال - سبحانه -: ((وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)) [يوسف: 105].



وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه...



----------------------------------------

[1] - مجموع الفتاوى [3/338].

[2] - انظر التفسير والمفسرون للذهبي [2/531]، ومعجزة القرآن الكريم لمحمد متولي الشعراوي ص 84.

[3] - انظر كتاب (رسائل في العلم والإيمان) لعبد المجيد الزنداني ص55، و\"تأملات في العلم والإيمان\" لنجيب محمد غالب ص15.

[4] - انظر إحياء علوم الدين [3/135].

[5] - انظر التفسير والمفسرون [2/512] نقلاً عن جواهر القرآن للغزالي.

[6] - مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام بن تيمية ص9.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply