الهجرة بين الأمس واليوم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

وجوه إعجاز القرآن الكريم

بعد أن أجمع أهل العلم على إعجاز القرآن بذاته، وعلى عدم استطاعة أحد من البشر أن يأتي بمثله، تعددت أقوالهم في وجوه إعجاز هذا الكتاب المبارك.

فمن إعجاز القرآن: حسن تأليفه، وفصاحته، ووجوه إعجازه، وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام، قد خُصوا من البلاغة والحِكَم ما لم يُخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، جعل الله لهم ذلك طبعًا وخِلقَةً، وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، وتساجلوا في النظم والنثر، فما راعهم إلا رسول كريم، بكتاب عزيز: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد {فصلت: 42}.

أحكمت آياته وفصلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، ولهذا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى {النحل: 90}، قال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر- وهو تشبيه منه بأنه كشجرة مُثمرةٍ,.

وذكر أبو عبيد أن أعرابيّا سمع رجلاً يقرأ: \" فاصدع بما تؤمر \" {الحجر: 94}، فسجد وقال: سجدت لفصاحته. وسمع آخر رجلاً يقرأ: \" فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا \" {يوسف: 80}. فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام.

وحكى الأصمعي أنه سمع جارية تتكلم فقال لها: قاتلك الله، ما أفصحك؟ فقالت: أو يُعد هذا فصاحة بعد قول الله - تعالى -: \"وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين \" {القصص: 7}، فجمع في آية واحدة بين أمرين، ونهين، وخبرين، وبشارتين.

فهذا نوع من إعجازه، منفرد بذاته، غير مضاف إلى غيره على التحقيق والصحيح من القولين.

وكون القرآن أتى به النبي من عند الله معلوم ضرورة، وكونه - صلى الله عليه وسلم - متحديًا به معلوم ضرورة، وعجز العرب عن الإتيان به معلوم ضرورة، وكونه في فصاحته خارقًا للعادة معلوم ضرورة للعالمين بالفصاحة ووجوه البلاغة.

وإذا تأملت قوله - تعالى -: \" ولكم في القصاص حياة \" {البقرة: 179}، وقوله: \" ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب \" {سبأ: 51}.

وقوله: \" ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم \" {فصلت: 34}، وقوله: \" فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون \" {العنكبوت: 40}، وأشباهها من الآي - بل أكثر القرآن - حققت ما بينته من إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وحسن تأليف حروفها، وأن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة، وفصولاً جمة، وعلومًا زواخر، ملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها، وكثرت المقالات في المستنبطات عنها.

ثم هو في سرد القصص الطوال وأخبار القرون السوالف التي يضعف في عادة الفصحاء عندها الكلام آية لمتأمله من ربط الكلام بعضه ببعض، كقصة يوسف على طولها، ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تُنسي في البيان صاحبتها، ولا نفور للنفوس من ترديدها ولا معاداة لمعادها.

ومن إعجازه: الإخبار عن السابقين

أخبر القرآن عن الأمم المتقدمة على لسان نبي أُميّ لا يعرف الكتابة ولا يقرأ المكتوب كما قال - تعالى -: \" وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون \" {القصص: 46}، وقال - تعالى -: \" وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون \" {آل عمران: 44}، وقال - تعالى -: \" ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون \" {يوسف: 102}، إلى قوله: \" لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب \" {يوسف: 111}.

وأخبر عن خلق آدم وقصته مع الشيطان وقصص الأنبياء مع قومهم وخبر موسى والخضر وأصحاب الكهف وذي القرنين ولقمان وابنه وعن بعض أحكام التوراة حتى تحداهم الله بقوله: \" قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين \"{آل عمران: 93}، وقال - تعالى -: \" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير \" {المائدة: 15}. بل قد شهد له من هداه الله من أهل الكتاب فقال - تعالى -: \" وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم \" {الأحقاف: 10}.

يتحداهم ذلك النبي الأمي فلا يستطيعون رد شيء مما يقول كما يقول - سبحانه وتعالى -: \" وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون \" {العنكبوت: 48}.

ومن إعجازه: الإخبار عن الأمور المستقبلة:

إخباره عن أمور مستقبلة وما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع فوقعت مطابقة لما أخبر الله به في كتابه.

كقوله - تعالى -: \" لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين \" {الفتح: 27}، وقوله - تعالى -: \" وهم من بعد غلبهم سيغلبون \" {الروم: 3}، وقوله - عز وجل -: \" ليظهره على الدين كله \" {التوبة: 33}، وقوله - جل وعلا -: \" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض \" {النور: 55}، وقوله - تعالى -: \" إذا جاء نصر الله والفتح \" {النصر: 1} إلى آخرها.

فكان جميع هذا كما أخبر - تعالى -: فغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل الناس في دين الإسلام أفواجًا، فما مات - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد دخل الإسلام بلاد العرب كلها، واستخلف الله المؤمنين في الأرض ومكن فيها دينهم وملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب كما قال - صلى الله عليه وسلم -: \"زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها\". رواه مسلم.

ومنه قوله - تعالى -: \" علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله \" {المزمل: 20}، وذلك قبل أن يُفرض القتال لأن السورة مكية.

وقوله - تعالى -: \" سيهزم الجمع ويولون الدبر \" {القمر: 45}، فهزموا يوم بدر، وقوله - تعالى -: \" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم \"{التوبة: 14}، وقوله - تعالى -: \" لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار \" {آل عمران: 111}، فكان كل ذلك.

وقوله - تعالى -: \" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون \" {الحجر: 9}، فكان كذلك، فكم من ملحد وضال ومجرم قد أجمعوا كيدهم وحولهم وقوتهم، فما قدروا على إطفاء شيء من نوره ولا تغيير كلمة من كلامه، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه والحمد لله، فإن الله تكفل بحفظه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

وعلى الرغم مما حوته كتب الشيعة الروافض من الطعن في القرآن- ونقلهم عن أئمة أهل البيت كذبًا وافتراءً تغييره بالزيادة والنقصان - وكذلك ما تمخض عن داري نشر أمريكيتين فقذفتا لنا أخيرًا آيات شيطانية في مصحف مزعوم اسمته: \"الفرقان الحق\" ويوزع في إحدى الدول العربية على المتفوقين من أبنائنا الطلبة في المدارس الأجنبية الخاصة، يتألف من 77 سورة حرفوا فيه كتاب الله ونشروا فيه الباطل، فإن كل ذلك لم يؤثر في تواتر صحته عند المسلمين شيئًا، بل لم يزدد إلا تعظيمًا وتقديرًا وانتشارًا.

ومن إعجازه: تأثر المستمع به

تأثر مستمعه به ثابت في نصوص القرآن والسنة، قال - سبحانه وتعالى -: \" لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله \" {الحشر: 21}، وقال - تعالى -: \" تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله \" {الزمر: 23}، وقال - تعالى - مخبرًا عن تأثر الجن بالقرآن: \" قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا \" {الجن: 1، 2}، روى البخاري عن ابن عباس قال: \"انطلق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجع الشياطين فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء، قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن تسمعوا له فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا {الجن: 1، 2}، وأنزل الله - عز وجل - على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن {الجن: 1} وإنما أوحى إليه قول الجن.



تأثر النصارى بالقرآن:

قوله - تعالى -: \" وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين \"{المائدة: 83- 84}.

وكذلك تأثر كفار قريش به: كما روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: \"أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون \" {الطور: 35- 37}، كاد قلبي أن يطير.

ولما سمع الوليد بن المغيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن رق فجاءه أبو جهل منكرًا عليه، قال: والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، وفي خبر الآخرين جمع قريشًا عند حضور الموسم وقال: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأيًا لا يكذب بعضكم بعضًا، فقالوا: نقول: كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته ولا سجعه. قالوا: مجنون. قال: ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، وقد عرفنا الشعر كله، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده. قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإن أقرب القول أنه ساحر، فإنه سحر يفرق بين المرء وابنه، والمرء وأخيه، والمرء وزوجه، والمرء وعشيرته، فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس، فأنزل الله - تعالى - في الوليد: \" ذرني ومن خلقت وحيدا \" {المدثر: 11}، وقال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن: يا قوم قد علمتم أني لم أترك شيئًا إلا وقد علمته وقرأته وقلته، والله لقد سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.

هدانا الله وإياكم إلى صراطه المستقيم، والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply