الخُشُــوع


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 


إن الخشوع قيامُ القلب بين يدي الربّ بالخضوع والذلِّ والجمعيَّة عليه، ورقَّة القلب وسكونه وانكساره وحُرقته.

والخشوع: خمود نيران الشهوة، وسكون دُخَان الصدور، وإشراق نور التعظيم في القلب، واستحضار عظمة الله وهيبته وجلاله.

والخشوع قاسمٌ مشترك بين الأخلاق والعقيدة والعمل، يغذوها بخشية الله، فتؤدِّي مقصودها في النفس والقلب معـًا.



الخشوع معنىً شرعي وسلوكٌ سُنِّيّ، فيه كل الانقياد لله ربِّ العالمين. قال الجنيد: الخشوع تذلٌّل القلوب لعلاّم الغيوب. والقلب أمير البدن، فإذا خشَع القلب، خشع السمع والبصر والوجه وسائر الأعضاء، وما نشأ عنها، حتى الكلام.

الخشوع يقظة دائمة لخلَجَات القلب وخفقاته ولفتاته حتى لا يتبلد، وحذرٌ من هواجسه ووساوسه، واحتياط من سهواته وغفَلاته ودفعاته، خشية أن يزيغ وتعتريه القساوة.

والخشوعُ عِلمٌ نافع يُباشر القلب، فيوجب له السكينة والخشية، والإخبات والتواضعَ والانكسارَ لله، وكلٌّ أولئك رشحٌ من فيض الخشوع.

عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من علمٍ, لا ينفع، وقلبٍ, لا يخشع، ومن نفسٍ, لا تشبع، ومن دعوةٍ, لا تُستجاب)).(رواه مسلم).



وقد مدح الله في كتابه الخاشعين المنكسرين لعظمتهº فقال - تعالى -: (إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيرَاتِ وَيَدعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)(الأنبياء/90)، وقال - تعالى -: (إِنَّ المُسلِمِينَ وَالمُسلِمَاتِ وَالمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُم وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَغفِرَةً وَأَجراً عَظِيماً) (الأحزاب/35).



فأُولى المنازل التي يحطٌّ فيها الخاشعون رِحالَهم: مغفرةٌ من الله تمحق السيئات وتُربي الحسنات والأجر العظيم. قال - تعالى -: (وَإِنَّ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَمَن يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيكُم وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ) (آل عمران/199).

وللخاشعين البشرى من ربهم كما قال الله - تعالى -: (فَإِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسلِمُوا وَبَشِّرِ المُخبِتِينَ)(الحج/34).



ووصَفَ الله المؤمنين بالخشوع في أشرف عبادتهم وهي الصلاة، وبيَّن أن الخشوعَ طريقُ الفلاح في الدنيا والآخرةº يحُسٌّه المؤمن بقلبه، ويجد مصداقه في واقع حياته، وعدٌ من الله بالفلاح الذي لا يخطر على قلب بَشَر. قال - تعالى -: (قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ * الَّذِينَ هُم فِي صَلاتِهِم خَاشِعُونَ)(المؤمنون/1، 2).

ووصف الله - عز وجل - الذين أوتوا العلم بالخشوع حين يسمعون كلامهº فقال جل شأنه: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبلِهِ إِذَا يُتلَى عَلَيهِم يَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعدُ رَبِّنَا لَمَفعُولاً * وَيَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعاً) (الإسراء/107 - 109).



والخشوع طريقٌ إلى أعالي الفردوس: قال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخبَتُوا إِلَى رَبِّهِم أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ) (هود/23)، وقال - تعالى -: (أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِردَوسَ هُم فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون/10، 11).



والخشوع ثباتٌ على منهج الله: قال - تعالى -: (وَلِيَعلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ أَنَّهُ الحَقٌّ مِن رَبِّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخبِتَ لَهُ قُلُوبُهُم وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيمٍ,)(الحج/54).

والقلب الخاشع بعيد عن الشيطان: قال سهل:\"مَن خشع قلبُه لم يقرب منه الشيطان\".



ولولا عظم منزلة الخشوع وعُلوّها، لَمَا عاتَب الله الصحابة أفضل القرون، الذين لم يصلوا إلى تلك المرتبة السامية التي يريدها الله لهم بعد بضع سنين واستبطأهم. قال - تعالى -: (أَلَم يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم وَكَثِيرٌ مِنهُم فَاسِقُونَ * اعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحيِي الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ) (الحديد/16، 17).

قال ابن مسعود - رضي الله عنه -:\"ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: (أَلَم يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ)، إلاّ أربع سنين\").(رواه مسلم). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -:\"إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن\".



والخشوع أولُ علمٍ, يُرفع من بين هذه الأمة: عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أول ما يُرفع من الناس: الخشوع)).(حديث صحيح).

وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول شيءٍ, يُرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعـًا)).(حديث صحيح).

وقال حذيفة - رضي الله عنه -: ((أول ما تفقدون من دينكم: الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم: الصلاة)).



..........................

(مدارج السالكين 1/521) .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply