( أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ )


 بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال - تعالى -: (أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكمًا لِّقَومٍ, يُوقِنُون) [المائدة/50]

قال ابن كثير في تفسيره (ينكر - تعالى - على من خرج عن حكم اللَّه المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة اللَّه، كما كان أهل الجاهلية يحكمون من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم... قال - تعالى -: (أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ) أي يبتغون ويريدون، وعن حكم اللَّه يعدلون. (وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكمًا لِّقَومٍ, يُوقِنُونَ) أي ومن أعدل من اللَّه، في حكمه، لمن عقل عن اللَّه شرعه، وآمن به، وأيقن، وعلم أن اللَّه أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها. فإنه - تعالى - هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء). وقال ابن أبي حاتم... عن الحكم يقول: (من حكم بغير حكم اللَّه، فحكم الجاهلية).... وعن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «أبغض الناس إلى اللَّه - عز وجل - من يبتغي في الإسلام سنّة الجاهلية».



وقال البيضاوي في تفسيره (أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ) الذي هو الميل والمداهنة في الحكم. والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية، التي هي متابعة الهوى. (وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكمًا لِّقَومٍ, يُوقِنُونَ) هذا الاستفهام لقومٍ, يوقنون، فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور، ويتحققون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون أن لا أحسن حكماً من اللَّه - سبحانه و تعالى -.



ويقول سيّد في الظلال في تفسير الآية: إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص. فالجاهلية، كما يصفها اللَّه، ويحددها قرآنه، هي حكم البشر للبشر... وإن الجاهلية في هذا النص ليست فترةً من الزمن، ولكنها وضعٌ من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غداً، فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام... والناس، في أي زمان، وفي أي مكان، إما أنهم يحكمون بشريعة اللَّه، دون فتنة عن بعض منها، ويقبلونها، ويسلّمون بها تسليماً، فهم إذاً في دين الله، وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر، في أي صورة من الصور، ويقبلونها، فهم إذاً في جاهلية... والذي لا يبتغي حكم اللَّه، يبتغي حكم الجاهلية، والذي يرفض شريعة اللَّه يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية، وهذا مفرق الطريق يقف الناس عليه، وهم بعد ذلك بالخيار.



ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية، وسؤال تقرير لأفضلية حكم اللَّه (وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكمًا لِّقَومٍ, يُوقِنُونَ) وأجل! فمن أحسن من اللَّه حكماً؟



ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس، ويحكم فيهم، خيراً مما يشرع اللَّه لهم، ويحكم فيهم؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض؟



أيستطيع أن يقول: إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟



أيستطيع أن يقول: إنه أرحم بالناس من رب الناس؟



أيستطيع أن يقول: إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس؟



أيستطيع أن يقول: إن اللَّه – سبحانه -، وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير، ويجعل رسوله خاتم النبيين، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات، ويجعل شريعته شريعة الأبد... كان سبحانه يجهل أن أحوالاً ستطرأ، وأن حاجات ستستجد، وأن ملابسات ستقع، فلم يحسب حسابها في شريعتهº لأنها كانت خافيةً عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان؟!

ما الذي يستطيع أن يقوله، من ينحّي شريعة اللَّه عن حكم الحياة، ويستبدل بها شريعة الجاهلية. وحكم الجاهلية، ويجعل هواه هو، أو هوى شعبٍ, من الشعوب، أو هوى جيلٍ, من أجيال البشر، فوق حكم اللَّه، وفوق شريعة اللَّه؟



ما الذي يستطيع أن يقوله... الظروف؟ الملابسات؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء؟... ألم يكن هذا كله في علم اللَّه، وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته، وأن يسيروا على منهجه، وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله؟



قصور شريعة اللَّه عن استيعاب الحاجات الطارئة، والأوضاع المتجددة، والأحوال المتغلبة؟ ألم يكن ذلك في علم اللَّه، وهو يشدد هذا التشديد، ويحذر هذا التحذير؟.



إن هذه الآية تربط الحكم بالإسلام، وتطبيق شريعته، بالإيمان باللَّه - تعالى - ربطاً لا انفصام له. ففي قوله - تعالى -: (وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكمًا لِّقَومٍ, يُوقِنُونَ) نجد هذا الربط الإيماني واضحاً. فالذي يؤمن باللَّه رباً لا شريك له، يؤمن بأنه الخالق وحده، وأنه المشرع وحده، قال - تعالى -: (أَلَا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) [الملك/14].



وإن حكم الجاهلية الذي يكتوي المسلمون بناره اليوم، جبراً عنهم، هو حكم الديمقراطية الذي يشرع بحسب أكثرية الناس، بحسب أهوائهم وشهواتهم ونظرتهم القاصرة للمصالح، والذي ظهر فساده لأهله قبل غيرهم. ولعل في قوله - تعالى - ما يرد على جاهلية اليوم، ويسفّه أصحابها، ويبين واقعها أجلى بيان، قال - تعالى -: (أَفَغَيرَ اللّهِ أَبتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَينَاهُمُ الكِتَابَ يَعلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمتَرِينَ، وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدقًا وَعَدلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ، وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلٌّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِن هُم إِلاَّ يَخرُصُونَ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ مَن يَضِلٌّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ) [الأنعام/114-117]، وقال - تعالى -:(أَفَغَيرَ اللَّهِ تَأمُرُونِّي أَعبُدُ أَيٌّهَا الجَاهِلُونَ، وَلَقَد أُوحِيَ إِلَيكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكَ لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعبُد وَكُن مِّن الشَّاكِرِينَ) [الزمر/64-66].

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply