صفة الإقسام على الله


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 




السؤال:

ما صفة الإقسام على الله؟ و ما حكمه؟



الجواب:

أقول مستعيناً بالله - تعالى -:

إن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوٌّره، فإذا تعددت صور المسألة اختلفت أحكامها من صورة إلى صورة، كما هو الحال في الإقسام على الله - تعالى -، إذ إنَّ له صوراً نأتي ـ فيما يلي ـ على ذكرها، و بيان حكم الشرع في كلٍّ, منها:

الصورة الأولى: الإقسام على الله - تعالى - بمعنى الطلب و الدعاء ممن أخذ بأسباب الإجابة، و من كانت هذه حاله كان حرياً بأن يستجاب له، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره).

قال النووي - رحمه الله -: (أي لو حلف على وقوع شيء أوقعه الله إكراماً له بإجابة سؤاله و صيانته من الحنث في يمينه.و هذا لعظم منزلته عند الله، و إن كان حقيراً عند الناس.و قيل: معنى القَسَم هنا: الدعاء، و إبراره إجابته).

و روى الترمذي في سننه بإسناد حسَّنه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبره).



الصورة الثانية: الإقسام على الله - تعالى - بصيغةٍ, جواب القسم فيها أمرٌ معلوم من الدين بالضرورة، أو مما أخبر الله به عن نفسه أو أخبر به عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كالإقسام على الله أن يدخل الجنة من مات لا يشرك بالله شيئاً، و نحو ذلك، لأنه يفيد الإخبار أو الدعاء، و إن جاء على صيغة الإقسام، إذ إن العبرة بالمقاصد و المعاني، لا بالألفاظ و المباني و هذا أمر مشروع لا بأس به و لا لبس فيه.

و من هذا القبيل ـ و الله أعلم ـ ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في موقعة شقحب [رمضان من سنة 702 للهجرة] حيث كان يحلف لأجناد المسلمين بين يدي المعركة أنهم في هذه الكرَّة منصورون، فيقولون له: قل: إن شاء الله، فيقول: (إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً).

قال ابن كثير - رحمه الله -: و حرّض ابن تيمية السلطان على القتال و بشّره بالنصر، و جعل يحلف له بالله إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. و أفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، و أفطر هو أيضاً، و كان يدور على الأطلاب، و الأمراء، فيأكل من شيء معه في يده، ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل، فيأكل الناس) [البداية و النهاية: 18 / 26].

قلتُ: و الظاهر أن مَرَدَّ إقسام شيخ الإسلام على أن الجند منصورون في شقحب، و عدم استثنائه في ذلك، إلى إيمانه بوعد الله - تعالى -لعباده في قوله - سبحانه -: (إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد) [غافر: 51].



الصورة الثالثة: الإقسام على الله - تعالى -القائم على ثقة المُقسِم بربِّه، و عِظَم رجائه فيه، و هو أمر جائزٌ ما لم يفض إلى ردِّ حكم الله و رسوله، و قد وقع ذلك بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقرَّه و لم يُنكره.

روى الشيخان و غيرهما عن أنس - رضي الله عنه - قال: كَسَرت الرٌّبَيِّعُ ـ و هي عمة أنس بن مالك ـ ثَنِيَّةَ جاريةٍ, من الأنصار، فطلب القومُ القصاص. فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بالقصاص. فقال أنس بن النضر ـ أخو الرٌّبَيِّعَ ـ: لا و الله لا تكسر سنها يا رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أنس! كتابُ الله ـ أي حكمه و قضاؤه - القصاص). فرضي القوم و قبلوا الأرش. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).

قلتُ: و لا يفهَم من هذا الخبر إعراض أنس عن حكم الله و رسوله، و لا رده أو رفض النزول عليه، حاشاه - و الله - أن يصدر منه ذلك، أو يصدر هو عن موقف كهذا، بل لعلَّه أراد حث أولياء الجارية على قبول الأرش (و هو العِوَض الماديٌّ عن الضرر) إذا بَلغهم قوله، أو رجاء أن يَشفَع لأخته عندهم من يرتضونه من الشفعاء، فيعفون و يصفحون.

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري: (استشكل إنكار أنس بن النضر كسر سن الرٌّبَيِّعِ مع سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمرَ بالقصاص، ثم قال: أتكسر سن الرٌّبَيِّعِ؟ ثم أقسم أنها لا تكسر. و أجيب بأنه أشار بذلك إلى التأكيد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلب الشفاعة إليهم أن يعفوا عنها. و قيل: كان حلِفُه قبل أن يعلم أن القصاص حتمٌ فظن أنه على التخيير بينه و بين الدية أو العفو. و قيل: لم يُرِد الإنكار المحض و الرد، بل قاله توقعاً و رجاءً من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش، وبهذا جزم الطيبي فقال: لم يقله رداً للحكم بل نفى وقوعه، لما كان له عند الله من اللطف به في أموره، و الثقة بفضله أن لا يخيبه فيما حلف به، و لا يخيب ظنه فيما أراده بأن يلهمهم العفو، و قد وقع الأمر على ما أراد.

و فيه ـ أي في هذا الحديث ـ جواز الحلف فيما يُظنٌّ وقوعه، و ـ جواز ـ الثناء على من وقع له ذلك عند أمن الفتنة بذلك عليه).



الصورة الرابعة: الإقسام على الله - تعالى -بشيء من مخلوقاته كالكعبة و الأنبياء و الصالحين، سواء كان ذلك بجاههم أو بذواتهم، و هو أمر مبتدع محدث، نهى عنه أكثر العلماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (و الذي قاله أبو حنيفة و أصحابه و غيرهم من العلماء من أنه لا يجوز أن يسأل الله - تعالى -بمخلوقº لا بحق الأنبياء و لا غير ذلك يتضمن شيئين:

(أحدهما) الإقسام على الله - سبحانه وتعالى-به و هذا منهي عنه عند جماهير العلماء، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة و المشاعر باتفاق العلماء.

و (الثانى) السؤال به فهذا يجوزه طائفة من الناس، و نقل في ذلك آثار عن بعض السلف، و هو موجود في دعاء كثير من الناس) [مجموع الفتاوى: 1 / 222].



الصورة الخامسة: الإقسام على الله - تعالى -تألِّياً و اعتراضاً على قَدَرِه و مشيئته، بحيث ينصب المقسِم نفسَه حكماً بين يدي الله - تعالى -، و هذا من الافتئات على رب العالمين، و هو مزلة قدم، و مورد هَلَكة لمن وقع فيه.

روى مسلم عن جندب بن جنادة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثَ: (أن رجلا قال: و الله! لا يغفر الله لفلان. و إن الله - تعالى -قال: من ذا الذي يتألى علي أن أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، و أحبطت عملك).

و في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب و الآخر مجتهدٌ في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصِر! فوجده يوماً على ذنبٍ,، فقال له: أقصِر. فقال: خلِّني و ربِّي، أبُعِثتَ عليَّ رقيباً؟ فقال: و الله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما. فاجتمعا عند ربِّ العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ و قال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي. و قال للآخر: اذهبوا به إلى النار). قال أبو هريرة: و الذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه و آخرته.

هذا، و الله أعلم و أحكم، و ما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت و إليه أنيب.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply