التوسل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 


اضطرب الناس في مسألة التوسل وحكمها في الدين اضطرابا كبيرا واختلفوا فيها اختلافا عظيما بين محلل ومحرم ومغال ومتساهل وقد اعتاد بعض المسلمين منذ قرون طويلة أن يقولوا في دعائهم مثلا: (اللهم بحق نبيك أو بجاهه أو بقدره عندك عافني واعف عني)، و (اللهم إني أسألك بحق البيت الحرام أن تغفر لي)، و (اللهم بجاه الأولياء والصالحين ومثل فلان وفلان..)، أو (اللهم بكرامة رجال الله عندك وبجاه من نحن في حضرته وتحت مدده فرج الهم عنا وعن المهمومين)، و (اللهم إنا قد بسطنا إليك أكف الضراعة متوسلين إليك بصاحب الوسيلة والشفاعة أن تنصر الإسلام والمسلمين.... ).......... إلخ

ويسمون هذا توسلا ويدعون أنه سائغ ومشروع وأنه قد ورد فيه بعض الآيات والأحاديث التي تقره وتشرعه بل تأمر به وتحض عليه، وبعضهم غلا في إباحة هذا حتى أجاز التوسل إلى الله - تعالى -ببعض مخلوقاته التي لم تبلغ من المكانة ما يؤهلها لرفعة الشأن، كقبور الأولياء والحديد المبني على أضرحتهم والتراب والحجارة والشجرة القريبة منها، زاعمين أن ما جاور العظيم فهو عظيم، وأن إكرام الله لساكن القبر يتعدى إلى القبر نفسه حتى يصح أن يكون وسيلة إلى الله، بل قد أجاز بعض المتأخرين الاستغاثة بغير الله وادعى أنها توسل مع أنها شرك محض ينافي التوحيد من أساسه.

فما هو التوسل يا ترى؟ وما هي أنواعه؟ وما معنى الآيات والأحاديث الواردة فيه؟ وما حكمه الصحيح في الإسلام؟

وقبل الخوض في هذا الموضوع بتفصيل أحب أن ألفت النظر إلى سبب هام من أسباب سوء فهم كثير من الناس لمعنى التوسل وتوسعهم فيه وإدخالهم فيه ما ليس منه، وذلك هو عدم فهمهم لمعناه اللغوي وعدم معرفتهم بدلالته الأصلية.

ذلك أن لفظة (التوسل): لفظة عربية أصيلة وردت في القرآن والسنة وكلام العرب من شعر ونثر، وقد عني بها التقرب إلى المطلوب والتوصل إليه برغبة.

قال ابن الأثير في (النهاية): (الواسل: الراغب، والوسيلة: القربة والواسطة، وما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل).

وبه فسر السلف الصالح وأئمة التفسير الآيتين الكريمتين اللتين وردت فيهما لفظة (الوسيلة) وهما:

قوله - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ} [سورة المائدة: 35].

وقوله - سبحانه -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدعُونَ يَبتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيٌّهُم أَقرَبُ وَيَرجُونَ رَحمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحذُوراً} [سورة الإسراء: 57].

فأما الآية الأولى فقد قال إمام المفسرين الحافظ ابن جرير - رحمه الله - في تفسيرها:

(يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعد من الثواب وأوعد من العقاب.

(اتقوا الله) يقول: أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك.

(وابتغوا إليه الوسيلة): يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه).

وأما الآية الثانية فقد بين الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مناسبة نزولها التي توضح معناها فقال: (نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون).

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة وهذا هو المعتمد في تفسير الآية).

قلت: وهي صريحة في أن المراد بالوسيلة ما يتقرب به إلى الله - تعالى -ولذلك قال: (يبتغون) أي يطلبون ما يتقربون به إلى الله - تعالى -من الأعمال الصالحة.

وهي كذلك تشير إلى هذه الظاهرة الغريبة المخالفة لكل تفكير سليم ظاهره أن يتوجه بعض الناس بعبادتهم ودعائهم إلى بعض عباد الله يخافونهم ويرجونهم مع أن هؤلاء العباد المعبودين قد أعلنوا إسلامهم وأقروا لله بعبوديتهم، وأخذوا يتسابقون في التقرب إليه - سبحانه - بالأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها ويطمعون في رحمته ويخافون من عقابه، فهو - سبحانه - يسفه في هذه الآية أحلام أولئك الجاهلين الذين عبدوا الجن واستمروا على عبادتهم مع أنهم مخلوقون عابدون له - سبحانه - وضعفاء مثلهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، وينكر الله عليهم عدم توجههم بالعبادة إليه وحده تبارك وتعالى، وهو الذي يملك وحده الضر والنفع وبيده وحده مقادير كل شيء وهو المهيمن على كل شيء.



الأعمال الصالحة وحدها هي الوسائل المقربة إلى الله:

ومن الغريب أن بعض مدعي العلم اعتادوا الاستدلال بالآيتين السابقتين على ما يلهج به كثير منهم من التوسل بذوات الأنبياء أو حقهم أو حرمتهم أو جاههم، وهو استدلال خاطئ لا يصح حمل الآيتين عليه لأنه لم يثبت شرعا أن هذا التوسل مشروع مرغوب فيه، ولذلك لم يذكر هذا الاستدلال أحد من السلف الصالح ولا استحبوا التوسل المذكور، بل الذي فهموه منهما أن الله - تبارك وتعالى - يأمرنا بالتقرب إليه بكل رغبة، والتقدم إليه بكل قربة، والتوصل إلى رضاه بكل سبيل.

ولكن الله - سبحانه - قد علمنا في نصوص أخرى كثيرة أن علينا إذا أردنا التقرب إليه أن نتقدم إليه بالأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، وهو لم يكل تلك الأعمال إلينا ولم يترك تحديدها إلى عقولنا وأذواقنا لأنها حينذاك ستختلف وتتباين وستضطرب وتتخاصمº بل أمرنا - سبحانه - أن نرجع إليه في ذلك ونتبع إرشاده وتعليمه فيه لأنه لا يعلم ما يرضي الله - عز وجل - إلا الله وحده.

فلهذا كان من الواجب علينا حتى نعرف الوسائل المقربة إلى الله أن نرجع في كل مسألة إلى ما شرعه الله - سبحانه - وبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويعني ذلك أن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو الذي وصانا به رسولنا محمد صلوات الله عليه وسلامه حيث قال: « تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله ».



متى يكون العمل صالحا؟

وقد تبين من الكتاب والسنة أن العمل حتى يكون صالحا مقبولا يقرب إلى الله - سبحانه - فلا بد من أن يتوفر فيه أمران هامان عظيمان:

أولهما: أن يكون صاحبه قد قصد به وجه الله - عز وجل -.

وثانيهما: أن يكون موافقا شرع الله- تبارك وتعالى -في كتابه أو بينه رسوله في سنته، فإذا اختل واحد من هذين الشرطين لم يكن العمل صالحا ولا مقبولا.

ونحن نعلم أن الله - عز وجل - أمرنا بدعائه - سبحانه - والاستعانة به فقال: {وَقَالَ رَبٌّكُمُ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر: 60]. وقال - تعالى -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُوا لِي وَليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ} [سورة البقرة: 187].

وقد شرع لنا عز شأنه أنواعا من التوسلات المشروعة المفيدة المحققة للغرض والتي تكفل الله بإجابة الداعي بها إذا توفرت شروط الدعاء الأخرى فلننظر الآن فيم تدل عليه النصوص الشرعية الثابتة من التوسل دون تعصب أو تحيز.

إن الذي ظهر لنا بعد تتبع ما ورد في الكتاب الكريم والسنة المطهرة أن هناك ثلاثة أنواع للتوسل شرعها الله - تعالى -وحث عليها ورد بعضها في القرآن واستعملها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحض عليها وليس في هذه الأنواع التوسل بالذوات أو الجاهات أو الحقوق أو المقامات.



أما الأنواع المشار إليها من التوسل المشروع فهي:

1. التوسل إلى الله - تعالى -باسم من أسمائه الحسنى أو صفة من صفاته العليا: كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم اللطيف الخبير أن تعافيني. أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي. ومثله قول القائل: اللهم إني أسألك بحبك لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.. فإن الحب من صفاته - تعالى -.

ودليل مشروعية هذا التوسل قوله - عز وجل -: {وَلِلَّهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. والمعنى: ادعوا الله - تعالى -متوسلين إليه بأسمائه الحسنى، ولا شك أن صفاته العليا - عز وجل - داخلة في هذا الطلب لأن أسماءه الحسنى - سبحانه - صفات له خصت به تبارك وتعالى.

ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقول في تشهده: (اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم) فقال - صلى الله عليه وسلم -: « قد غفر له قد غفر له ».

ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: « من كثر همه فليقل: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي) إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا ».

فهذه الأحاديث وما شابهها تبين مشروعية التوسل إلى الله - تعالى -باسم من أسمائه أو صفة من صفاته وأن ذلك مما يحبه الله - سبحانه - ويرضاه ولذلك استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله- تبارك وتعالى -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 8].

فكان من المشروع لنا أن ندعوه - سبحانه - بما دعاه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فذلك خير ألف مرة من الدعاء بأدعية ننشئها وصيغ نخترعها.



2. التوسل إلى الله - تعالى - بعمل صالح قام به الداعي:

كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك ومحبتي لك واتباعي لرسولك اغفر لي... أو يقول: اللهم إني أسألك بحبي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وإيماني به أن تفرج عني... ومنه أن يذكر الداعي عملا صالحا ذا بال فيه خوفه من الله - سبحانه - وتقواه إياه وإيثاره رضاه على كل شيء وطاعته له جل شأنه ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه ليكون أرجى لقبوله وإجابته.

وهذا توسل جيد وجميل قد شرعه الله وارتضاه ويدل على مشروعيته قوله - تعالى -: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16]. وقوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلتَ وَاتَّبَعنَا الرَّسُولَ فَاكتُبنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53]. وقوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَن آمِنُوا بِرَبِّكُم فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّر عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخزِنَا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخلِفُ المِيعَادَ} [آل عمران: 193 و 194]. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّن عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغفِر لَنَا وَارحَمنَا وَأَنتَ خَيرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109]. وأمثال هذه الآيات الكريمات المباركات.

ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار كما يرويها عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم (وفي رواية لمسلم: فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموهما صالحة لله فادعوا الله بها لعل الله يفرجها عنكم) فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فنأى بي في طلب شيء (وفي رواية لمسلم: الشجر) يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض (وفي رواية لمسلم: يا عبد الله اتق الله ولا تفتح) الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت: إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون ».

ويتضح من هذا الحديث أن هؤلاء الرجال المؤمنين الثلاثة حينما اشتد بهم الكرب، وضاق بهم الأمر ويئسوا من أن يأتيهم الفرج من كل طريق إلا طريق الله- تبارك وتعالى -وحده فلجؤوا إليه ودعوه بإخلاص واستذكروا أعمالا لهم صالحة كانوا تعرفوا فيها إلى الله في أوقات الرخاء راجين أن يتعرف إليهم ربهم مقابلها في أوقات الشدة، فتوسلوا إليه - سبحانه - بتلك الأعمال.

توسل الأول ببره والديه وعطفه عليهما ورأفته الشديدة بهما.

وتوسل الثاني بعفته من الزنى بابنة عمه التي أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء بعد ما قدر عليها واستسلمت له مكرهة بسبب الجوع والحاجة ولكنها ذكرته بالله - عز وجل - فتذكر قلبه وخشعت جوارحه وتركها والمال الذي أعطاها.

وتوسل الثالث بحفاظه على حق أجيره الذي ترك أجرته.

دعا هؤلاء الثلاثة ربهم - سبحانه - توسلين إليه بهذه الأعمال الصالحة أي صلاح والمواقف الكريمة أي كرم معلنين أنهم إنما فعلوها ابتغاء رضوان الله - تعالى -وحده لم يريدوا بها دنيا قريبة أو مصلحة عاجلة أو جاها أو مالا ورجوا الله جل شأنه أن يفرج عنهم ضائقتهم ويخلصهم من محنتهم. فاستجاب - سبحانه - دعاءهم وكشف كربهم وكان عند حسن ظنهم به فخرق لهم العادات وأكرمهم بتلك الكرامة الظاهرة فأزاح الصخرة بالتدريج على مراحل ثلاث كلما دعا واحد منهم تنفرج بعض الانفراج حتى انفرجت تماما مع آخر دعوة الثالث بعد ما كانوا في موت محقق.

ولا يقولن قائل: إن هذه الأعمال جرت قبل بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا تنطبق علينا بناء على ما هو الراجح في علم الأصول أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا. لأننا نقول: إن حكاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الحادثة إنما جاءت في سياق المدح والثناء والتعظيم والتبجيل وهذا إقرار منه - صلى الله عليه وسلم - بذلك بل هو أكثر من إقرار لما قاموا به من التوسل بأعمالهم الصالحة المذكورة.



3. التوسل إلى الله - تعالى -بدعاء الرجل الصالح الحي:

كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة كبيرة ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله- تبارك وتعالى -فيجب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة. فيطلب منه أن يدعوا له ربه. ليفرج عنه كربه ويزيل عنه همه.

فهذا نوع آخر من التوسل المشروع دلت عليه الشريعة المطهرة وأرشدت إليه وقد وردت أمثلة منه في السنة الشريفة كما وقعت نماذج منه من فعل الصحابة الكرام رضوان الله - تعالى -عليهم فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - حيث قال: (أصاب الناس سنة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لناº فرفع يديه يدعو حتى رأيت بياض إبطه: « اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا »، ورفع الناس أيديهم معه يدعون وما نرى في السماء قزعة، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته - صلى الله عليه وسلم -، فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى.

ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - أيضا: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال: فيسقون.

ومعنى قول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم - وإنا نتوسل إليك بعم نبينا أننا كنا نقصد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ونطلب منه أن يدعو لنا ونتقرب إلى الله بدعائه والآن وقد انتقل - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس ونطلب منه أن يدعو لنا وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم: اللهم بجاه نبيك اسقنا ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -: اللهم بجاه العباس اسقنا لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ولم يفعله أحد من السلف الصالح رضوان الله - تعالى - عليهم.

وأما ما عدا هذه الأنواع من التوسلات ففيه خلاف والذي نعتقده وندين الله - تعالى -أنه غير جائز ولا مشروع لأنه لم يرد فيه دليل تقوم به الحجة، فهذه الأدعية الواردة في القرآن الكريم وهي كثيرة لا نجد في شيء منها التوسل بالجاه أو الحرمة أو الحق أو المكانة لشيء من المخلوقات.

والتوسل داخل في العقيدة لأن المتوسل يعتقد أن لهذه الوسيلة تأثيرا في حصول مطلوبه ودفع مكروهه فهو في الحقيقة من مسائل العقيدة لأن الإنسان لا يتوسل بشيء إلا وهو يعتقد أن له تأثيرا فيما يريد والتوسل بالصالحين ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: التوسل بدعائهم وهم أحياء: فهذا لا بأس به فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يتوسلون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعائه وهو حي يدعو الله لهم فينتفعون بذلك، واستسقى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعم النبي - صلى الله عليه وسلم - العباس بن عبد المطلب بدعائه.



القسم الثاني: التوسل بذواتهم: فهذا ليس بشرعي بل هو من البدع من وجه ونوع من الشرك من وجه آخر فهو البدع لأنه لم يكن معروفا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهو من الشرك لأن كل من اعتقد في أمر من الأمور أنه سبب ولم يكن سببا شرعيا فإنه قد أتى نوعا من أنواع الشرك.

وعلى هذا لا يجوز التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل أن يقول أسألك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا على تقدير أنه يتوسل إلى الله - تعالى -بالإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبته فإن ذلك من دين الله الذي ينتفع به العبد وأما ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - فليست وسيلة ينتفع بها العبد وكذلك على القول الراجح لا يجوز التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن جاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ينتفع به النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه ولا ينتفع به غيره وإذا كان الإنسان يتوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتقاد أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - جاها عند الله فليقل اللهم إني إسألك أن تشفع في نبيك محمدا - صلى الله عليه وسلم - وما أشبه ذلك من الكلمات التي يدعو بها الله - عز وجل -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply