المبتدع لا تُقبل له توبة، حتى يُظهر توبته


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



ويُعلن الرجوع من مقالته



الابتداع في الدين شره جسيم، وخطره عظيم، وضرره بليغ، وآثاره متعدية، ولهذا فإن البدعة أشأم من المعصية، حيث تصعب التوبة منها والإقلاع عنها في الدنيا، ويكثر وزرها ويثقل حملها في الآخرة، ولهذا جاء في الأثر:\"ويل لمن مات وبقيت بدعته بعده، وطوبى لمن مات وماتت بدعته بعده\".



من أجل ذلك فقد زيد في شروط توبة المبتدع شرط رابع، وهو أن يظهر توبته، ويعلن رجعته، ويشهد على فعلته، أو مقالته، أو عقيدته التي تاب منها، بينما يحرم فعل ذلك على من تاب من معصية، قال - تعالى -:\"إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا\".



ذكِر لأبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل من أهل العلم كانت له زلة، وأنه تاب من زلته، فقال:\"لا يقبل الله ذلك منه حتى يظهر التوبة والرجوع عن مقالته، وليعلن أنه قال: كيت وكيت، وأنه تاب إلى الله - تعالى - من مقالته ورجع عنها، وإذا ظهر ذلك منه حينئذ تقبلº ثم تلا أبو عبد الله[2]:\"إلا الذين تابوا..\"الآية.



وكان العلماء في الماضي يهجرون من صدرت منه مقالة بدعية ويحملونه حملاً على التراجع منها، ولا يقبلون له توبة إلا إذا أعلنها وأشهد عليها، وهذا الصنيع من أوجب الواجبات على ولاة الأمر من العلماء والحكام، وفي تركهم لذلك خذلان وامتهان وانتقاص للدين وأهله.



نماذج لمن أعلن توبته، وأظهر رجعته عن بدعته أمام الناس، وأشهد على ذلك:

1. أبو الحسن الأشعري.

من أوضح النماذج وأجلاها ما فعله الإمامُ أبو الحسن الأشعري - رحمه الله -عندما عزم على التوبة من بدعة الاعتزال، وقد كان معتقداً له لمدة أربعين سنة.



دخل المسجد وصعد المنبر وقال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو الحسن الأشعري، لقد تخليتُ عن عقيدة الاعتزال كما تخليت عن هذا الثوبº وخلع ثوباً كان عليه.



وكذلك فعل ذلك عندما تخلى عن مذهب الأشاعرة الذي ينسب إليه، وقد تخلى عنه، وكتب كتباً منها كتاب\"الإبانة في أصول الديانة\"، وبيَّن فيه أنه على عقيدة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وأنه تخلى عن العقيدة الأشعرية التي هي خليط بين السنة والكلام.



2. أبو الفداء علي بن عقيل البغدادي.

قال ابن رجب الحنبلي: (.. أن أصحابنا ـ الحنابلة ـ كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده على ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف[4] عن السنة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات - رحمه الله -.



ففي سنة إحدى وستين ـ بعد الأربعمائة ـ اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحم على الحلاج وغير ذلك، ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه فاختفى، ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا، ولم يحضر الشريف أبو جعفر لأنه كان عاتباً على ولاة الأمر بسبب إنكار منكرº فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه، وكتب بخطه:



يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله - تعالى - من مذهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحٌّم على أسلافهم، والتكثر بأخلاقهم، وما كنتُ علقته ووجد بخطي من مذاهبهم وضلالتهم فأنا تائب إلى الله - تعالى - من كتابته، ولا تحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.



وإني علقت مسألة الليل في جملة ذلك، وإن قوماً قالوا: هو أجساد سودº وقلت: الصحيح ما سمعته من الشيخ أبو علي، وأنه قال: هو عدم ولا يسمى جسماً ولا شيئاً أصلاً، واعتقدت أنا ذلك، وأنا تائب إلى الله - تعالى - منهمº واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الدين والزهد والكرامات، ونصرتُ ذلك في جزء عملته، وأنا تائب إلى الله - تعالى - منه، وأنه قتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك وأخطأ هو، ومع ذلك فإني أستغفر الله - تعالى - وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة والمبتدعة وغير ذلك، والترحٌّم عليهم، فإن ذلك كله حرام، ولا يحل لمسلم فعله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:\"من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام\".

وقد كان الشريف أبو جعفر ومن كان معه من الشيوخ والأتباع سادتي وإخواني ـ حرسهم الله - تعالى - مصيبين في الإنكار عليّ، لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله - تعالى - منهم، وأتحقق أني كنت مخطئاً غير مصيب.



ومتى حفظ علي ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار، فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك، وأشهدتُ الله وملائكته وأولي العلم على ذلك غير مجبر، ولا مكره، وباطني وظاهري ـ يعلم الله - تعالى - في ذلك سواء،\"ومن عاد فينتقم الله منه واللهُ عزيز ذو انتقام\".



وكُتِب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة.



وكانت كتابته قبل حضوره الديوان بيوم، فلما حضر شهد عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء).



3. عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:

قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: (يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع عنه، وقال: أول ما أفارق ـ غير شاك ـ أفارق ما يقول المرجئون).



4. عبد الله بن الحسن العنبري:

قال عنه الشاطبي: (كان من ثقات أهل الحديث، ومن كبار العلماء العارفين بالسنة، إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكي عنه.. حتى كفره القاضي أبو بكر وغيره.

ثم قال: قال ابن أبي خيثمة: أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال: كان عبد الله بن الحسن بن الحسين العنبري البصري اتهم بأمر عظيم، وروي عنه كلام ردي.



قال بعض المتأخرين: هذا الذي ذكره ابن أبي شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لما تبين له الصواب، وقال: إذاً أرجع وأنا من الأصاغر، ولأن أكون ذنباً في الحق، أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل.



فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العالم، وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحقº لأنه بحسب ظاهر حاله فيما نقل عنه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه، ولم يتبع عقله، ولا صادم الشرع بنظره، فهو أقرب من مخالفة الهوى ـ ومن ذلك الطريق والله أعلم ـ وفق إلى الرجوع إلى الحق).



أرجو أن تقارن أخي الكريم بين حالنا في هذا العصر الذي كثرت فيه البلايا، وعظمت فيه الرزايا، وانقلبت فيه الموازين، واختلت فيه المفاهيم، حيث أصبحت السنة فيه بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وفسِح فيه للرويبضاء، وضيِّق فيه على العلماء، وبين حال سلفنا الصالح، حيث كان الدين معظماً في قلوبهم، والغيرة متقدة في ضمائرهم، ومن ثم بين الزلات التي حوسب عليها هؤلاء العلماء الفضـلاء ورجعـوا عنها رجـوع الأكـابر النبلاء، وبين الكفريات التي نطق بها زنادقة الأدباء، أمثال سلمان رشدي، ونسرين، ونصر أبي زيد، والبغدادي، ومن لف لفهم لا بارك الله فيهم، وما سوَّد به الورَّاقون ـ الصحفيون ـ الصحف والمجلات والكتب من البدع والضلالات، ولا يزالون ينشرون ذلك عبر وسائل الاتصال المختلفة، المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة، حيث لا رقيب، ولا هاجر، ولا محاسب، ولا معاتب، وصدق من قال:\"من أمن العقوبة أساء الأدب\"، ما كان لهؤلاء السفهاء الجراء أن يقدموا على ما أقدموا عليه لولا أمنهم العقوبة، إنها والله ردة باردة وكفر صريح لا يصلح معه إلا القتل والتنكيل، ولله در العلامة ابن العربي المالكي عندما وصف كفر غلاة الشيعة بأنه\"كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، فأما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه\".

كم من زنديق سبَّ ربنا وشتمه؟ وكم من مرتد انتقص نبياً من الأنبياء؟ وكم من سفيه تطاول على الصحابة الفضلاء؟ وكم من ورَّاق انتقص العلماء؟ ولا يزالون سادرين في غيهم لعدم وجود من يردعهم:\"إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن\"، فقتل المرتدين والزنادقة من أوجب واجبات ولاة الأمر، لأن في ذلك حماية للدين، وزجراً للمستهترين، ونكاية للكافرين، وعظة للمتربصين.



قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فإنه لو لم يقتل المرتد لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص، ويمنعهم من الخروج منه).



وواجب العلماء أن يذكّروا الأمراء بذلك، وأن يحضوهم عليه، وعلى غيره، وإلا فلا تحل لهم مداخلتهم، وقبل ذلك عليهم أن يبينوا ضلال المضلين، وبدع المبتدعين، وأن يحذروا العامة والخاصة منهم، وأن يردوا على هؤلاء السفهاء رداً قوياً لا مداهنة فيه ولا تقية، فمن العيب أن يتجرأ السفهاء ويتوارى ويخجل العلماء، ورحم الله إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل القائل: \"إذا سكت الجاهل لجهله، وأمسك العالم تقية، فمتى تقوم لله حجة؟\".



فالمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والعالم الجريء في الحق أحب إلى الله من العالم الضعيف ومتكلف التأويل، والحاكم الذي يغار لدينه أكثر من ملكه وسلطانه أحب إلى الله من الذي يكون همه الأول والأخير المحافظة على كرسيه ولو كان ذلك على حساب دينه.



وإليك مثالاً واحداً يوضح الفرق بين العلماء الجراء وبين متكلفي التأويل والباحثين عن الأعذار المداهنين للمجتمع، حيث لم ينصروا الدين، ولم يكسروا السفهاء المعاندين، بل خذلوا إخوانهم وشمتوا عليهم أعداءهم.



قال القاضي عياض - رحمه الله - في الشفا بتعريف حقوق المصطفى: (قد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عَجَب، وكان خرج يوماً فأخذه المطر، فقال:\"بدأ الخرَّاز يرش جلوده\"، وكان بعض الفقهاء بقرطبة، أبو زيد، وعبد الأعلى بن وهب، وأبان بن عيسى، قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ موسى بن زياد، فقال ابن حبيب: دمه في عنقي، أيشتم رباً عبدناه ثم لا ننتصر له؟ إنا إذاً لعبيد سوء وما نحن له بعابدين! وبكى، ورفع المجلس إلى الأمير بها عبد الرحمن بن الحكم الأموي، وكانت عَجَب عمة هذا المطلوب من حظاياه، وأعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه، وأمر بقتله، فقتل وصلب بحضرة الفقيهَين ابن حبيب وأصبغ، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القضية، ووبخ بقية الفقهاء وسبهم).



جزى الله هذا الأمير وهذين العالمين عن الإسلام خير الجزاء، وكثر الله من أمثالهم، ورحمهم الله وأمثالهم، (وكل من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين).



والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله صادق الوعد الأمين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply