المسيح في القرآن ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 


بعد أن طفنا في رياض حديث القرآن عن حياة عيسى - عليه السلام - من ولادته إلى بعثته، نأتي هنا على قضايا أخرى هي في حقيقتها نقدٌ لما عليه النصارى من الآراء الباطلة، ولعل من أهمِّ تلك القضايا ما يتعلق بحقيقة المسيح وهل هو ابن الله أم لا؟ وهل حقيقة المسيح لاهوتية أم ناسوتية؟ وما هو الحق فيما حصل للمسيح في أخريات حياته هل رفع إلى السماء أم صلب على الخشبة؟، تلك هي أهم قضايا الخلاف بين الأمتين النصرانية والإسلامية، ونحاول أن نبين في هذا المقال - من خلال العرض القرآني - الحق القاطع في ذلك، على أن نرجئ الكلام في نقد أقوال النصارى من واقع كتابهم في مقالات لاحقة.



المسيح والرفع المبارك

لم يسلم عيسى - عليه السلام - من أذى اليهود الذين بُعث لهدايتهم، حتى بلغ بهم أن شكوه إلى الرومان ليقتلوه، وهنا تتفق اليهودية والنصرانية على أعظم فرية، ألا وهي القول بصلب المسيح - عليه السلام -، ولكلا الطائفتين تفسيرهما لحادثة الصلب، غير أن القرآن الكريم ينسف دعواهما معاً، ويثبت حقيقة كانت غائبة عن الكثيرين وهي أن عيسى - عليه السلام - لم يصلب وإنما رفعه الله إليه، بعد أن ألقى الله شبهه على واحد - قيل من أعدائه، وقيل من أتباعه - حيث قام الرومان بصلبه.



يقول الله في بيان وتجلية هذه الحقيقة: {وَقَولِهِم إِنَّا قَتَلنَا المَسِيحَ عِيسَى ابنَ مَريَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم وَإِنَّ الَّذِينَ اختَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ, مِنهُ مَا لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ, إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء: 157-158) وقال أيضاً: {إِذ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرجِعُكُم فَأَحكُمُ بَينَكُم فِيمَا كُنتُم فِيهِ تَختَلِفُونَ}(آل عمران: 55)



بيان كفر النصارى في اعتقادهم ألوهية المسيح

لقد أوضح القرآن الكريم مبلغ الضلال والغي الذي وصل إليه النصارى حين اعتقدوا ألوهية المسيح - عليه السلام - الذي أرسله الله - تعالى - داعياً إلى وحدانيته جلا وعلا، فقد تحول في أذهان هؤلاء الجهلاء إلى إله يُعبد من دون الله، لذلك وبموجب هذه العقيدة الشركية فقد صرح القرآن الكريم بكفرهم، فقال - سبحانه -: {لَقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابنُ مَريَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسرائيلَ اعبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم إِنَّهُ مَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن أَنصَارٍ,}(المائدة: 72)



وعظ النصارى بترك الغلو

بعد أن أبان الله حقيقة عيسى - عليه السلام - وأنه رسول من عند الله - عز وجل - بعثه لهداية الخلق لطريق الحق، وعظ - سبحانه - النصارى في غلوهم فيه، وأمرهم بالانتهاء عن أقوالهم الباطلة، ودعاهم إلى القول بما أخبر به من أن عيسى - عليه السلام - عبد الله ورسوله، فقال - سبحانه -: {يَا أَهلَ الكِتَابِ لا تَغلُوا فِي دِينِكُم وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَريَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيراً لَكُم إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ - سبحانه - أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}(النساء: 171)



المسيح ينفي ما ادعته النصارى فيه

يقول الله - جل جلاله - في ذلك: {وَإِذ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابنَ مَريَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَينِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَن أَقُولَ مَا لَيسَ لِي بِحَقٍّ, إِن كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمتَهُ تَعلَمُ مَا فِي نَفسِي وَلا أَعلَمُ مَا فِي نَفسِكَ إِنَّكَ أَنتَ علاّم الغُيُوبِ}(المائدة: 116)، ففي الآية ينفي عيسى - عليه السلام - عن نفسه ما زعمته النصارى فيه من القول بألوهيته وأمه من دون الله - جل وعلا -، وفي هذا النفي أعظم الحجة على ضلال النصارى، لعلهم يرجعون عن ضلالهم وغيهم.



عيسى والنزول آخر الزمان

وهذا حديث آخر عن عيسى - عليه السلام -، يخبر فيه رب العزة والجلال عن علامة من علامات الساعة العظام وهي نزول عيسى - عليه السلام - من السماء لينهي بخروجه وانضمامه إلى المسلمين وتمسكه بشريعتهم، حالة من الجدال بين الأمم الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلامية، قال - تعالى -مبينا هذه الحقيقة: {وَإِنَّهُ لَعِلمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُستَقِيمٌ} (الزخرف: 61) قال ابن عباس في تفسير المراد بالآية: هو نزول عيسى - عليه السلام -، وقال أيضاً: {وَإِن مِن أَهلِ الكِتَابِ إلا لَيُؤمِنَنَّ بِهِ قَبلَ مَوتِهِ وَيَومَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيهِم شَهِيداً}(النساء: 159) ومعنى الآية على أحد الأقوال - كما يقول الإمام الطبري - أن من أهل الكتاب من سيؤمن بعيسى وأنه عبد الله ورسوله قبل أن يموت وذلك عند نزوله آخر الزمان لقتال الدجال، وقد أوضحت السنة النبوية تفاصيل هذا النزول، وتكلمنا عنه في مقال سابق بما يغني عن إعادته.



وبهذه الأسلوب الرائع الذي حدَّث به القرآن عن شخصية عيسى - عليه السلام - تتشكل في ذهن كل مسلم صورة واضحة المعالم، صورة - على روعتها - سهلة في فهمها واستيعابها، ويمكن تلخيصها بكلمات يسيرة، فعيسى - عليه السلام - وإن كانت ولادته معجزة من أمٍّ, بلا أبٍ,، إلا أنه كسائر الرسل فيما سوى ذلك، فهو بشر أرسله الله - عز وجل - داعية إلى بني إسرائيل، وأنزل عليه الإنجيل، وأيده بالآيات والمعجزات ليكون دليلا وبيانا على صدق نبوته، وحجة على من خالف وعاند وكفر، {ذَلِكَ عِيسَى ابنُ مَريَمَ قَولَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمتَرُونَ}(مريم: 34).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply