سنة شميطاه والأعاجيب الصهيونية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



تتسم العقلية الصهيونية الإسرائيلية بأن درجة عبادتها لذاتها وتمركزها على هذه الذات لم يسبق لهما مثيل في العصر الحديث. فعبادة الذات الجماعية (القبلية أو القومية) هي إحدى سمات عقل الإنسان في مرحلة انتقاله من الطبيعة والفطرة إلى التاريخ والحضارة. وقد أبقى العقل الصهيوني على نمط التفكير البدائي واستمر في هذه الطريقة على رغم كل ما حدث من تقلبات وتبدلات وتحولات.



ولعل مناسبة سنة شميطاه، وهي مناسبة قومية/دينية تحتفل بها \"إسرائيل\" آخر سبتمبر من كل عام، تُعتبر نموذجاً جلياً لهذا التفكير البدائي. فهي مناسبة دينية لا يعرفها كثير من يهود الدياسبورا (المنفى) لارتباط شعائرها بالأرض المقدسة، فقد جاء في سفر اللاويين أن الرب يأمر شعبه أن يزرع الأرض المقدسة ست سنوات على أن يريحها في السنة السابعة (وكلمة شميطاه العبرية تعني إراحة الأرض). وكل ما ينمو على الأرض في هذا العام السابع يصبح ملكاً مشاعاً للجميع يحرم الاتجار فيه، كما تصبح كل الديون وكأنها قد وُفيت ودُفعت (الديون اليهودية فقط بطبيعة الحال).



ولما كان التفكير البدائي تفكيراً ذاتياً، فمن الطبيعي أن يكون متسقاً هندسياً مع نفسه تمام الاتساق (بغض النظر عن تحديات الواقع والتاريخ)، فإذا كان الأسبوع يتكون من ستة أيام عمل ويوم راحة، فالأرض تصبح مثل الإنسان تعمل هي الأخرى ستة سنين وتستريح أو تُراح السنة السابعة (ولذلك يُطلق على سنة شميطاه اسم السنة السبتية أو سنة الراحة). ثم يتسع الاتساق الهندسي ليشمل دورات زمنية أوسع فتكون كل سبع دورات وحدة أكبر (مكونة من 49 عاماً) يعقبها الاحتفال في السنة الخمسين بالسنة اليوبيلية أو سنة اليوبيل (نسبة إلى يوفل أو النفير). والسنة الخمسون هي سنة شميطاه مفتخرة إن صح التعبير، إذ كان من المفروض أن يُحرر فيها كل العبيد (اليهود فقط بالطبع) وأن تُعاد الأراضي المرهونة والمشتراة لأصحابها الأصليين (فالقانون اليهودي القديم لا يعترف بحق الملكية عن طريق الإرث مما يشير إلى الجذور القبلية والمحافظة لهذا القانون).



ولا شك أن الدافع وراء الاحتفال بسنة شميطاه دافع ديني/قومي، فهو من ناحية تنفيذ لكلمة الرب وتعبير عن الإيمان بأن الأرض هي ملكه وحده يهبها لمن يشاء، وهو من ناحية أخرى تأكيد للرابطة العميقة التي تربط اليهودي بالأرض المقدسة. كما أنه ينطوي على إسقاط لحق أي إنسان في امتلاك هذه الأرض حتى ولو كان فلسطينياً عاش فيها مئات السنين. ولأن الخالق في الوجدان اليهودي الصهيوني يصطبغ بصبغة قومية يهودية، فإن ملكيته للأرض هي في الواقع تأكيد لملكية اليهود الأزلية لها. وهكذا يصبح الدافع الديني الروحي هو ذاته الدافع القومي، بل إن الدافع الديني ما هو إلا وسيلة لإضفاء طابع أزلي مقدس على أوهام اليهود القومية.



وتأخذ سنة شميطاه في الاتساع إلى أن تشمل الزمان كله فتظل إلى سبت التاريخ أي نهايته حين تستريح الأرض كلها ويأتي الماشيح ليقود شعبه بأسره لأرض الميعاد، وهكذا تظل الدائرة في الاتساع إلى أن تبتلع كل الزمان والمكان.



ولكن الاتساق الهندسي الذاتي البسيط يتعارض دائماً مع جدل التاريخ المركب. وكانت أول مشكلة واجهها اليهود القدامى أن نسقهم الهندسي على رغم روعته وصفائه سينتج عنه أن سنة اليوبيل تسبقها سنة شميطاه أي أن الأرض ستُراح لمدة عامين متتاليين مما قد يسبب مجاعة للمؤمنين والأتقياء، ولذلك أفتى بعض علماء اليهود بأن طقوس سنة اليوبيل لا تتحقق إلا بعودة جميع اليهود من الشتات، أما بالنسبة ليهود الشتات (وهم الغالبية العظمى لليهود عبر التاريخ) فقد أفتى علماؤهم أن أحد أسباب نفيهم في كل بقاع الأرض هو عدم إقامة شعائر سنة شميطاه، وهكذا أراح اليهود أنفسهم من عناء المأزق الديني الهندسي المستحيل الذي أوقعوا أنفسهم فيه.



ولكن الإسرائيليين، الذين يدعون أنهم حملة مشعل اليهودية في العصر الحديث، يعيشون على الأرض المقدسة بشخوصهم، ولذلك لا يمكن الخروج من المأزق الهندسي بنفس السهولة واليسر. ومن ثم، أصدر بعض الحاخامات، ومن بينهم الحاخام الصهيوني إسحق كوك، فتوى في أوائل هذا القرن مفادها أن على القاطنين في أرض الميعاد أن يبيعوها (بشكل دوري) لبعض أفراد الجوييم (الأغيار) وبذلك تصبح الأرض غير يهودية، وبناءً عليه يمكن للشعب المقدس أن يقوم بزراعتها وحصدها والاتجار فيها والمضاربة عليها والإتيان بكل المحرمات التي تقلق مضجع المؤمنين تحت الظروف العادية قبل أن يتم هذا البيع الصوري المقدس. ولكن ثمة فريقًا من المؤمنين يرفض هذه الحلول التوفيقية التلفيقية، ولهذا السبب يسخرون العلم في خدمة رؤيتهم الحرفية، فيبذلون كثيراً من المحاولات لزراعة الخضار في الماء، وأنت إن زرعت الخضار في الماء فأنت بالتالي لا تزرعه في اليابس وهكذا يحل الاتساق الهندسي السائل العصري محل الاتساق الهندسي الصلب القديم.



ولكن ليس كل الأتقياء الإسرائيليين على هذه الدرجة من الخبث والتحايل العلميين، فبعضهم لا تزال به بقية من الصلابة القديمة، كما هو الحال مع اليهود الأرثوذكس في موشاف (مزرعة جماعية) كوميميوث في جنوب فلسطين المحتلة أسسها بعض المحاربين القدامى عام 1949، إذ يحاول سكان هذا الموشاف تطبيق تعاليم التوراة بحذافيرها، فماذا تفعل إذن هذه النخبة الصالحة في سنة شميطاه؟ الأمر بسيط للغاية·· إنهم يأتون بالمعجزات مثل تلك التي كانت تحدث في سالف الزمان، فقد جاء في سفر اللاويين أن الإله سيبارك المحصول في العام السادس فتنتج الأرض غلة تكفي لثلاث سنين فتزرعون السنة الثامنة وتأكلون من الغلة العتيقة إلى السنة التاسعة. وبناءً عليه، لاحظ علماء الموشاف المشار إليه أن محصول القمح ومحصول الموالح في العام السادس في \"إسرائيل\" (19711972) زادت بنسبة 100% أحياناً.



وقد فسر الأشرار الذين يسيطرون على وزارة الزراعة الإسرائيلية هذه الظاهرة على أنها ناتجة عن تحسين الوسائل المختلفة للزراعة، ولكن الموشافيين الأرثوذكس كانوا على يقين من أن الزيادة في المحصول القومي هي دعوة ربانية للشعب الإسرائيلي ككل لأن يقيم الشعائر الدينية الخاصة بشميطاه. أما المحاصيل الزراعية للموشاف الأرثوذكس ذاته فقد حققت زيادة تبلغ 300% تماماً كما جاء في العهد القديم. هذا وقد زار مزرعتهم ممثلون للوكالة اليهودية ليتحققوا من هذه الظاهرة ولكنهم لم يجدوا أي سبب طبيعي لهذه الزيادة العجائبية. وتتوالى المعجزات التي يعجز القلم الضعيف الكليل عن حصرها: فهناك معجزة الشجرة المحتضرة التي عادت لها الحياة في سنة شميطاه، وهناك أيضاً البذور المتعفنة التي أصبحت صالحة بعد شرائها لاستخدامها في سنة شميطاه، وهناك كذلك واقعة الآفات الزراعية التي هاجمت كل الحقول الإسرائيلية اللادينية ولكنها لم تهاجم موشاف كوميميوث التقي في سنة شميطاه! وعلى رغم إيمان الموشافيين الأتقياء بالمعجزات، فهم يقومون من جانبهم بمساعدة العناية الإلهية من خلال نشاطات مختلفة مثل تخزين الحبوب والزراعة في أوقات غير مناسبة وذلك حتى يمكنهم إقامة شعائر شميطاه.



ومع أن التخزين والتحايل على الدورة الطبيعية للأرض والمناخ يسببان خسائر مادية فادحة (على رغم كل المعجزات آنفة الذكر)، فإن الأتقياء يعلمون تمام العلم أن إخوانهم في الدياسبورا الذين لا يمكنهم المشاركة في إقامة الشعائر الدينية بشكل مباشر، سيساهمون في هذا العمل المجيد عن طريق التبرعات المالية. ولهذا السبب، كوَّن يهود أميركا النشطون صندوق شميطاه لجمع التبرعات حتى يساهموا في شد أزر المؤمنين الذين يؤدون الفريضة التي ستعجل بعودة الماشيح. وهكذا، يرتبط السبت الأسبوعي بالسنة السبتية (بسبت التاريخ) وبعودة الشعب اليهودي إلى أرض الميعاد ليقبع داخل الحدود الآمنة أبد الدهر.



وهذه هي الخطة الصهيونية لحل جميع المشكلات اليهودية الحديثة: يُغرس الإسرائيلي في الشرق العربي الأوسط فيجلس في خنادق أرض الميعاد تحت خوذته المعدنية وخلف حائط الجيتو الجديد يطلق الرصاص على العرب ويحاول زراعة الخضار في الماء، أما يهود الدياسبورا فيجلسون في بابل الأميركية أمام التليفزيون يبتلعون منتجات الحضارة الرأسمالية ويكتبون شيكات يتناسب حجمها تناسباً طردياً مع مدى تآكل ضميرهم اليهودي المندمج، وكلما زاد الاندماج زاد المبلغ.



والله أعلم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply