أبرار .. شهر آذار !


بسم الله الرحمن الرحيم

 

كلما اقترب شهر آذار (مارس) من كل عام ترى المحلات والدكاكين ممتلئة بالهدايا المجهزة للأمهاتº إذ إن عيدهن قد أوشك على الاقتراب، وبدأ الإعلام في نشر ما يتعلق من مواد عن الاحتفاء بعيد الأم، وقد يصل الأمر في كثير من البلاد العربية والإسلامية إلى نشر تعميم على الأئمة والخطباء في وزارات الأوقاف للحديث في خطبهم ودروسهم عن الأم وبرّها تأكيداً لما هو سارٍ, في ديار الإسلام من تسرّب عادات وافدة إلى المسلمين وبلورتها بل وإلباسها لباساً شرعياً بتأويلات للنصوص الدينية لتخدم البدعة المستوردة.



عابدون لا مبتدعون

إن المسلم لا يسعه بحال أن يشرّع لنفسه أو يسنّ لحياته ما لم يأت به دينه، ولم ترد به سنة نبيه - عليه الصلاة والسلام -، فإذا كان الإسلام قد شرع لنا عيدين نفرح فيهما، ونصل أرحامنا، وننفس فيهما، عن أنفسنا ونمسح ما علق بالنفوس من أكدار الحياة بعد أن صمنا رمضان فأفطرنا بعيد الفطر، وبعد الحج فرحنا وتنسكنا بالأضحى، قال - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ, وَلا مُؤمِنَةٍ, إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب: 36].وكذا قال - عز وجل -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا)[الحشر: من الآية7]º فما للهوى من سبيل، وليست البدعة أياً كان شكلها، ومهما كان تغليفها براقاً ومقبولةعند الناس، فإن ذلك لا يحوّلها إلى سنة متبعة، ولو كثر أتباعها بحال، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو ردّ» أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة.

وإن ديننا المشحون قرآناً وسنة بالوصية بالوالدين وخصوصا الأم، ليربأـ بأتباعه ـ أن يجعلوا من يوم واحد في شهر واحد من العام عيداً للأمº إذ إن عطاءها لا يُوفى، وبذلها لا يُكافأ، وإن برّها ممتد في حياتها وبعد وفاتها فهل يوفّي يوم في آذار حق الأم عند الأبرار؟!



برّها موصول

ليس البر بالأمومة وقدرها ومنزلتها التي لا تضارعها منزلة في الشرع الحنيف، كتسمية الفاتحة بـ\"أم القرآن\"، وكتسمية مكة بـ\"أم القرى\"º وما أروع وأبدع تعبير الكتاب الكريم عن حال أم موسى ـ - عليه السلام - ـ حين ألقت رضيعها في اليم فقال - عز وجل -: (وَأَصبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً) [القصص: من الآية10]º فإن حب الأم ولدها يملأ جوانحها حتى لا يكاد يسمح لشعور آخر بأن يزاحم هذا الحبº لذا فقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأم ليس يوماً في شهر في عامº بل بحسن الصحبة، ودوام الإحسان فهو حقها بلا منازعº فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: \"أمك\" قال: ثم من؟ قال: \"أمك\" قال: \"ثم من\"؟ قال \"أمك\"، قال: ثم من؟ قال: \"أبوك\".

كما أن الإسلام جعل رعاية الوالدين ضرباً من ضروب الجهاد يُقدّم أحياناً على الهجرة وملاقاة الأعداء والاقتراب من الشهادة بما في ذلك من أجر ومثوبةº ففي صحيح مسلم: أقبل رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، قال: \"فهل من والديك أحد حي؟ \" قال: نعم، بل كلاهما حي، قال: \"فتبتغي الأجر من الله؟ \"قال: نعم، قال: \"فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما\".

وفي رواية أخرى لأبي داود والنسائي قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبويّ يبكيان، فقال: \"ارجع إليهما فأضحكهما كم أبكيتهما\".



دار المسنين.. الإبعاد المقنع!!

إذا أردنا أن نقيس مدى تقصير المجتمع بحق الوالدينº فعلينا أن نتابع ما يُسمى بدور المسنين فإن تزايدها في مجتمعاتنا العربية والمسلمة إنما يدل على خلل في البناء الأسري والاجتماعي، ويشير إلى شروخ في علاقات الأسر ومدى تماسكها وترابطهاº وفي مقدمة ذلك العلاقة بالوالدين، فليس بعيداً عن فهم المسلمين ما يدل عليه قول الله - تعالى -في معرض الوصية بالوالدين: (إِمَّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِلاهُمَا)[الإسراء: من الآية23]، فكلمة \"عندك\" هنا إنما تشير إلى ما يجب على الأبناء نحو آبائهم خصوصاً في مرحلة الكبر، ولزوم أن يكونوا \"عندهم\" أي تحت نظرهم، وفي بؤرة رعايتهم والاهتمام بهم، وهذا لا يتحقق بحال مهما تعلل بعضهم بما تقدمه دور رعاية المسنين من خدمات لنزلائها الكبارº فالوالدان لا يحتاجان خدمات المشرفين بل يسعدون ببرّ الأبناء.. ثمرات الحياة وحبّات العمر الذي أوشك على الأفول، فهل نعيد للبيوت ما كانت تنعم به قبل أن يضعف الإيمان، وتتبدل القيم، ونفتح مجتمعاتنا لغزوات شرسة من قيم غريبة عملت على تفكيك الأسر، فهدمت مفهوم رعاية الوالدين في الكبر لتبني على حساب ذلك دوراً للمسنين وهي محاولة مقنعة للتخلي عن المسؤولية الشرعية والاجتماعية نحو الوالدين لن يعوضهما عنها صناعة الأعياد ولا بناء الدور.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply