الصور التي ينقض فيها الحاكم النكاح بين الزوجين


بسم الله الرحمن الرحيم

 

التمهيد:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد قمت بجمع الصور التي ينقض الحاكم فيها النكاح بين الزوجين ويفرق بينهما، والمشتتة في بطون كتب الفقه الإسلامي، ليسهل الاطلاع عليها، عارضاً فيها أقوال العلماء مع الأدلة والمناقشة، محاولاً الترجيح فيما بينها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

وجمعت هذه الصور في مقدمة وفصلين:

المقدمة: عرّفت فيها النكاح لغة واصطلاحاً.

الفصل الأول: الصور المختلف فيها بين الفقهاء.

الفصل الثاني: الصور التي لم ترد إلا في مذهب واحد.

أسأل الله - عز وجل - أن ينفع بها كل مطلع عليها، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب.

 

المقدمة: تعريف النكاح لغة واصطلاحاً:

النكاح في اللغة: الضم والجمع، منه: تناكحت الأشجار إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض.

وفي الاصطلاح: عقد يفيد حِل استمتاع كل من الزوجين بالآخر قصداً.

ويطلق النكاح في لغة العرب على: الوطء والعقد جميعاً، إلا أن يكون اللفظ ظاهراً في أحدهما، فيصرف إليه دون الآخر، كقوله: نكح فلان فلانة، أو بنت فلان، أو أخته، فيصرف إلى العقدº لأنه هو المراد هنا. وقولهم: نكح فلان زوجته، فيصرف إلى الوطءº لأن قرينة الزوجية دالة عليه.

 

الفصل الأول: وفيه ثلاث عشرة مسألة:

المسألة الأولى: عدم حضور الشهود عند النكاح:

اختلف العلماء في حضور الشهود عند النكاح، هل هو شرط الصحة، أو يصح بدونهم؟ للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: لا ينعقد النكاح إلا بحضور الشهود[1].

وحجتهم على ذلك حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل))[2].

المذهب الثاني: وبه قال الزهري ومالك: ينعقد النكاح بدون حضور الشهود، ولكن يجب الإشهاد قبل الدخول، فإن دخل بدون إشهاد طلق عليه الحاكم طلقة بائنةº لصحة النكاح، لكون الإشهاد شرط وجوب وليس شرط صحة[3].

المذهب الثالث: يصح عقد النكاح بدون حضور الشهود مطلقاً.

روي هذا المذهب عن: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير[4]، والحسن بن علي[5]، وبعض التابعين[6]، وأبي ثور، وابن المنذر[7].

وحجة هؤلاء: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تزوج جارية، ولم يعرف الصحابة زواجه بها إلا عندما حجبها[8]º فدل ذلك على صحة عقد النكاح بدون حضور الشهود، إذ لو كان واجباً لفعله - صلى الله عليه وسلم - عند زواجه بهذه الجارية[9].

وأجيب: بأن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير ولي وشهود من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وليس ذلك تشريعاً لجميع الأمة، فلا يلحق به غيره في ذلك[10].

 

المسألة الثانية: تزويج الوليين المرأة:

إذا كان للمرأة وليان، فأذنت لكل منهما أن يزوجها من يرضاه لها، فعقد كل منهما لرجل، فأي الوليين يكون نكاحه صحيحاً وتكون المرأة زوجة له؟ للعلماء في ذلك مذهبان:

المذهب الأول: وبه قال جمهور العلماء: أنه إن عرف من عقد له على المرأة أولاً فهي له، وهو الأحق بها، سواء دخل بها الثاني أم لا[11].

وحجتهم على ذلك: أن هذا مروي عن علي[12] بن أبي طالب[13]، ولأن الزوج الثاني تزوج امرأة قد أصبحت في عصمة رجل آخر، فكان زواجه بها باطلاً، كما لو علم أن لها زوجاً[14].

المذهب الثاني: إن عرف الزوج الأول ولم يدخل بها الثاني فهي للأول، وإن دخل بها الثاني فهي له.

وهذا مذهب عطاء[15]، ومالك[16][17].

وحجة هؤلاء: أن هذا قول عمر[18] بن الخطاب[19].

وأجيب: بأن عمر قد خالفه علي، ولا يقدم قول صحابي على آخر دون دليل، فسقط الاستدلال به حينئذ[20].

الراجح:

الذي يبدو أن قول الجمهور هو الأولىº لأن نكاح الثاني على المرأة قد صادف امرأة قد أصبحت متزوجة، فعقده عليها باطل، كما لو علم أنها متزوجة، ودخوله بها لا يغير حقيقة الأمر، كما لو دخل بها وهو يعلم أنه قد عقد عليها غيره قبله، والله أعلم.

ويجب لها المهر على الثاني بدخوله عليهاº لاستمتاعه بها في قول: قتادة[21]، والشافعي[22]، وأحمد[23]، وابن المنذر[24][25].

فإن جهل من عقد له على المرأة أولاً فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: أن النكاح باطل. وبه قال أبو حنيفة[26][27] والشافعي[28]، وابن المنذر[29].

وحجة هؤلاء: أن وقوع العقدين معاً لا يمكن تصحيحهما، ولأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فتعينت جهة البطلان فيهما.

المذهب الثاني: يفسخ الحاكم نكاحهما جميعاً، ثم تتزوج المرأة من شاءت منهما أو من غيرهما. وبه قال مالك[30]، وأحمد[31].

وحجة هؤلاء: أنه تعذر إمضاء العقد الصحيح منهما للجهالة بالأول منهما، وليس لكونه باطلاً في حد ذاته، فوجب إزالة الضرر بالفسخ والتفريق[32] من قبل الحاكمº لأن رفع الضرر موكول إليه.

ونتيجة هذين المذهبين هي: إبطال هذا النكاح، واختيار المرأة في التزوج بأي منهما أو من غيرهما، غير أن لكل من المذهبين وجهة نظر في إبطاله.

المذهب الثالث: أن المرأة تخير بينهما، فأيهما اختارت فهو زوجها.

روي هذا المذهب عن: شريح[33]، وحماد بن أبي سليمان[34]، وعمر بن عبد العزيز[35][36]، ولم أجد من ذكر لهذا المذهب حجة.

 

المسألة الثالثة: إذا تزوج الكافر إحدى محارمه وأسلموا:

أنكحة الكفار صحيحة يقرون عليها إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا، إذا كانت المرأة ممن يجوز ابتداء نكاحها في الحال، بأن لم تكن إحدى المحارم ولا معتدة للغير، ولا ينظر صفة عقدهم وكيفيته، ولا يعتبر له شروط أنكحة المسلمين من الولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول. ودليل صحة أنكحة الكفار قوله - تعالى -: {وَامرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ}[37]، وقوله - تعالى -: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امرَأَةَ فِرعَونَ}[38]º حيث أضاف - سبحانه - النساء إلى أزواجهن، وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولدت من نكاح لا من سفاح[39]))[40]. وهذا عند جمهور العلماء[41].

وعند المالكية وآخرين: إذا استوفت شروط نكاح المسلمين حكم لها بالصحة، وإلا كانت فاسدة، ولكنهم يقرون عليها إذا أسلموا ترغيباً لهم في الإسلام[42]. فإذا تزوج الكافر إحدى محارمه وأسلما أو ترافعا إلينا وهما على كفرهما، فرق القاضي بينهما عند جميع العلماءº لأنه لا يجوز ابتداء هذا النكاح في الإسلام، فكذلك بقاؤه. فإن تزوج الكافر معتدة لغيره وأسلما قبل انقضاء العدة، فرق القاضي بينهما أيضاً عند الجمهورº لأنه لا يجوز نكاح المعتدة بالغير بالإجماعº لكونها مشغولة بعدة غيره[43].

وذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم التفريقº لأن إثبات حرمة نكاح المعتدة للغير للشرع غير ممكن شرعاًº لأن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، وإثبات الحرمة حقاً للزوج غير ممكنة أيضاًº لأن الزوج لا يعتقد حرمة ذلك[44].

 

المسألة الرابعة: إسلام أحد الزوجين قبل صاحبه:

اتفق جميع العلماء على أن الزوجين المشركين إذا أسلما دام النكاح بينهما. وكذلك إذا أسلم الزوج ولم تسلم الزوجة، وكانت يهودية أو نصرانية، سواء في الصورتين بعد الدخول بالزوجة أو قبلهº لأن في الأولى لم يحصل بينهما اختلاف في الدين، وفي الثانية لأنه يجوز للمسلم نكاح الكتابية في الإسلام، فبقاؤه أولى من ابتدائه[45]. فإن أسلم الزوج وكانت الزوجة غير كتابية، أو أسلمت هي ولم يسلم هو، سواء كان كتابياً أو غيره، فإن لم يكن قد دخل بها الزوج حصلت بينهما الفرقة مباشرة عند الجمهور[46].

وحجتهم على ذلك: قياس غير المدخول بها هنا على غير المدخول بها في الطلاق، فإن غير المدخول بها إذا طلقت لم تجب عليها العدة، فكذلك هنا[47]، ولأنه إن كان هو المسلم فليس له إمساك كافرةº لقوله - تعالى -: {وَلاَ تُمسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ}[48].

وإن كانت هي المسلمة فلا يجوز إبقاؤها على نكاح مشرك[49]، وإن كانت مدخولاً بها فأي الزوجين أسلم قبل انتهاء عدة المرأة من يوم إسلام أحدهما دام النكاح بينهما، فإن لم يسلم المتخلف منهما إلا بعد انتهاء العدة تبين أن الفرقة وقعت من وقت اختلاف الدين بينهما[50].

وحجتهم على ذلك: حديث ابن عباس[51]: كان المشركون على منزلتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه...الحديث[52].

وذهب المالكية إلى أنها إذا أسلمت قبله وكانت غير مدخول بها بانت منه مباشرةº لأنه لا عدة عليها، وإن كانت مدخولاً بها وأسلم الزوج في عدتها دام النكاح بين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply