المقاصد الأصلية والتبعية للزواج في الإسلام (1-2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مقدمة في: حُكم الزواج بالنسبة لآحاد الأفراد وجماعاتهم.

للأحكام والتكاليف التي جاءت بها الشريعة الإسلامية مقاصد وغايات. وتنقسم هذه المقاصد إلى نوعينº مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، وهذه الأخيرة تنقسم إلى قسمين أيضاº مقاصد أصلية، ومقاصد تبعية، وهي وإن كانت نفسها مقاصد إلا أنها تعد وسائل تحقق مقاصد الشارع بنوعيها: القريبة أي (الكليات الخمس)، أو العالية (مطلق المصلحة والمفسدة)[2]. ومثل أي عقد في الشريعة، فإن للزواج مقاصد أصلية وأخرى تبعية، وفي الوقت نفسه هو الوسيلة الوحيدة التي تحقق إيجاد النسل والذرية بالطريق المشروع.

والمقصود بالمقاصد الأصلية: تلك الغايات والحِكم التي شرعت لأجلها الأحكام أصالة، فهي \"لا حظّ فيها للمكلف لأنها تختص بقيام مصالح عامة مطلقة، دون تقييدها بزمن معين أو محدد\"[3]، فالأصلية ما أراده- تبارك وتعالى -من تشريعه للأحكام في المحافظة على مقصود الشرع، و\"مقصود الشرع من الخلق خمسةº وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم\"[4]. فالمحافظة على مقاصد الشريعة الخمس هي محافظة على المقاصد الأصلية لأحكام الشريعة جملة وتفصيلاً.

فالزواج له مقصد أصلي ومقاصد تبعية، فهو مشروع للتناسل إيجاداً واستدامة، بإيجاد النسل والذرية بالطريق الشرعي، غير المشكوك في نسبه، واستدامته بتعهد هذا النسل ضمن مؤسسة الزواج الشرعية، المتماسكة القواعد.

فهذا القصد الأصلي، هو الذي ألزم المسلم بحفظه في نفسه اعتقاداً وعملاً، بالرغبة والحث، والرهبة والأمر، بما يعرف بحفظ المقاصد الأصلية الضرورية العينية، \"رضي(المسلم) بذلك أم لم يرض..بل إذا فرط في إحدى الضروريات فإنه يحجر عليه، ويكره على حفظها، ويعاقب على تضييعها في الدنيا والآخرة، فمن هنا صار مسلوب الحظ، محكوما عليه في نفسه\"[5].

فالزواج وإن كان في أصله مشروعا بالكتاب في قوله - تعالى -: [وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم] (النور: 32)، وقوله - تعالى -أيضاً: [فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع](النساء: 3)، وبالسنة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج.. ) [6]º إلا أن صيغ الأمر في الآيتين (وأنكحوا) و(فانكحوا) التي جاءت بصيغة الأمر المعروفة \"افعل\"، وفي الحديث (فليتزوج) وهي صيغة المضارع المقترن بلام الأمر، هي صيغ مترددة بين الوجوب والإباحة والندب[7].

فالنكاح بموجب الاختلاف في صيغة الأمر فيه صار أصوليا مختلفا في حكمه فقهيا. فمال الحنابلة والحنفية والمالكية إلى أن صيغة الأمر تقتضي الندب لوجود قرينة تدفع معنى الوجوب، واختُلِفَ بعد ذلك في القرينة، فذهب الحنابلة والمالكية إلى أن القرينة هي \"ما طاب\" في الآية، \"فالواجب لا يقف على الاستطابة، فيدل على أن المراد بالأمر الندب\"[8]، وهذا مذهب الحنابلة والمالكية[9]، أما حجة الحنفية فهي كون المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بيّن الفرائض والواجبات ولم يذكر من جملتها النكاح[10].

وأما الشافعية فإنهم ذهبوا إلى القول بأنه \"مستحب لمحتاج إليه يجد أُهبَتَهُ[11] فإن فقدها استحب تركه.. وإلا فلا، لكن العبادة أفضل\"[12]، أي أن النكاح في حالة الاعتدال (عدم الاحتياج) مباح، فتركه والتفرغ للعبادة أفضل، أخذا بمفهوم المخالفة، كما هو مشهور عن الشافعي. وبتفصيل أكثر، يذهب النووي إلى أن \"الأمر في هذا الحديث بالنكاح لمن استطاعه وتاقت إليه نفسه وهذا مجمع عليه، لكنه عندنا وعند العلماء كافة أمر ندب لا إيجاب… أما الأفضل من النكاح وتركه فقال أصحابنا الناس فيه أربعة أقسام… وقسم يجد المؤن ولا تتوق فمذهب الشافعي وجمهور أصحابنا أن ترك النكاح لهذا والتخلي للعبادة أفضل\"[13]. ولأن عقد النكاح يتطلب توفر أركان وشروط محددة، فإذا وجدت ولم يوجد لها موانع تنفيها، فالزواج يصير مندوبا في حق القادر عليه. فهنا يزجر على تركه، ويُحمل على الزواج تحقيقا للمقصد الأصلي وهو التناسلº وهو المقصد القريب، ناهيك عما يحققه من مقصد كلي وهو عمارة الأرض بذريته الصالحة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) [14].

هذه المباهاة التي تتحقق بالجانب الكمي والنوعيº في تكثير أتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ومباهاته للرسل - عليهم السلام - بعدد المسلمين المتبعين لرسالة الإسلام وتعاليمها ومباهاته بنوعية هؤلاء الأتباع الذين استطاعوا حمل رسالته، وتحقيق الخلافة في أرض الله - تعالى -بالعمارة والعبادة. حيث لم يقصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحديث المباهاة بالعدد والكم فقط، وإنما المقصود مع تكثيره صلاحه واستقامته وتربيته وتنشئتهº ليكون صالحا مصلحا في أمته وقرة عين لوالديه[15]. وهو ما يتأكد في حديث آخر يحذر فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مغبة الكثرة ونسيان النوعية، وهو الحديث المعروف بحديث \"غثاء السيل\": (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل)[16].

فالزواج عموما، ومن خلال ما تبيّن تعتريه الأحكام الخمسة في حق المكلفين بالنظر إلى المآل الذي يؤدي إليه العزوف عنه نهائيا.

فهو مرة واجب، وأخرى مندوب، وثالثة مباح، ورابعة مكروه، وخامسة حرام، وهو أمر ينطبق على آحاد الأفراد وبالنظر إلى حالهم، من ناحية الرغبة فيه، والقدرة عليه، حيث يبقى حكمه العام الندب في حال الاعتدال على رأي عامة الفقهاء خلافا للشافعية.

أما إذا نظرنا إلى المسألة من جانب آخر، فإن الأحكام الخمسة تعمل مع بعضها البعض في دائرة تكاملية، وهذا من خلال النظر المقاصدي، وباعتبار قاعدة \"الكلّية والجزئية\"º \"فإذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل\"[17].

فالنكاح إذا نظرنا إليه من جهة الجزئي فهو مندوب على رأي عامة الفقهاءº أي إذا أراد المكلف أن يتزوج فله ذلك إذا تحققت كل أركان وشروط عقد النكاح، وأما إذا رأى في نفسه أن لا داعية تدعوه لذلك، فالأمر يرجع إليه كذلكº وهذا بالنظر إلى آحاد الأفراد، أي أنها مسألة تخص كل فرد في المجتمع على حدة، فالترك في بعض الأوقات لبعض الأفراد لا تأثير له في انعدام النوع الإنساني.

أما إذا اتفق وتمالأ عموم الأفراد على عدم الزواج وركنوا إلى التبتل، فهذه مسألة أخرى، نتائجها تكون وخيمة في اختلال النمو السكاني للمجتمعات، فيتضاءل النسل بحيث تكثر الوفيات وتقل نسبة المواليد، وهكذا يختل مقصد النسل، وينعدم بانقطاع النوع الإنساني، فيرتفع بذلك أصل التكليف.

ولهذا \"فالنكاح واجب على الكفاية لا على التعيين، فلا يأثم بتركه إذا قام به البعض، وأما لو لم يقم به أحد أثم الكلº لأنه سبب للنسل، والعالم مفتقر إليه، فثبت أثر الوجوب في الجملة… فما وجب النكاح من حيث إنه حق للعبد، بل من حيث أنه سبب لبقاء النسلº لأن الله حكم ببقاء العالم ولا بقاء لهم إلا به\"[18]، وهذا نظر بحسب \"الكليّة\"º \" فالنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع، من تكثير النسل، وإبقاء النوع الإنساني\"[19]

لأن الكلي ما اعتبر كليا إلا باعتبار جزئياته، فالعلماء لم يعتبروا كلية النسل مقصدا وكليةً من كليات الشريعة الخمس إلا عند استقرائهم وتتبعهم لجزئياتها المرتبطة بهاº من حث الشارع الحكيم على النكاح وطلب الولد، وغيرها من الجزئيات التي ستظهر من خلال استقراء مجموع الآيات والأحاديث الدالة على حفظ مقصود الشارع من النسل. وأن النكاح هو الوسيلة إلى هذا المقصد.

أما المقاصد التبعية: فهي التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها يحصل له \"مقتضى ما جُبِلَ عليه من نيل الشهوات، والاستمتاع بالمباحات، وسدِّ الخلاّت، وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت بأن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواعٍ, من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره\"[20].

ومن هنا لم تَخلُ مقاصد الزواج من وجود مقاصد تبعية عُدَّت مقاصد خادمة للمقصد الأصلي التناسل ومكملة له، وفي الوقت نفسه تحصل بها الفائدة للمكلف نفسه، ومن ذلك أن الزواج نفسه يعد مطلبا فطرياً، وسنةً تسير عليها جميع الكائنات الحية بما فيها الإنسان، فهو خاصية من الخصائص الطبيعية التي ترتبط بالجنس الحيواني كله، فالإنسان ينـزع للاتصال بالنوع الآخر من جنسه ليشبع مطالبه النفسية والروحية، بطلب السكينة والتآنس والطمأنينة والاستمتاع بمحاسن النساء إضافة إلى \"الإمتاع الجنسي بالإشباع العفيف إلى الجنس عند الرجل والمرأة\"[21]، كما أن \"التعاوض وآداب المعاشرة من الفطرة لأنهما اقتضاهما التعاون على البقاء\"[22] وغيرها.

 

المقصد الأصلي للزواج: التناسل وطلب الولد.

طلب الولد مطلب فطري جبل عليه الإنسان منذ الأزل في أن يكون له ذرية وحفدة، \"ففي جبلة الإنسان حب الامتداد، واستمرار الأثر من خلال عقبه، والنفرة من الانفراد وانقطاع النسل والولد\"[23]. فالذرية تمثل قرة العين للإنسان، قال - تعالى -: ] والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً[(الفرقان: 74) حيث يشبع الزوجان حاجاتهما النفسية والجسمية في صفتي الأمومة والأبوة، مما ينمي عندهما وينضج شخصيتهما، بحيث يكتمل البناء الأسري فتتوسع دائرة الزواج من فردين اثنين إلى مؤسسة جماعية، ومن هنا تكون بداية الحياة الاجتماعية، فلا ينقطع النوع الإنساني، وتبنى المجتمعات، ليتحقق \"التعاون على مهام الحياة، وتحقيق الخلافة في الأرض\"[24].

فالميل والنـزوع الغريزي في الإنسان لطلب الولد، مما لا يمكن إنكاره، وهو الذي لم تستنكره الشريعة الإسلامية، حيث وصفت ذلك في قوله - تعالى -: [المال والبنون زينة الحياة الدنيا](الكهف: 46)، ولم تقف شريعة الله-تعالى-عند موافقتها الطبيعة البشرية في حب الولد، بل زادته تشريفاً وتنويها، إذ اعتبرته أساساً لتحقيق وظيفة الاستخلاف واستمرارها، ولذا يمكن القول إن \"غاية الزواج في الإسلام عبادة الله وتعمير الأرض\"[25].

فلم يكن المقصود من التناسل والتوالد، هذه العملية لذاتها، إذ الحيوانات وباقي الكائنات الحية تتناسل أيضاً، وتناسلها كان لمجرد قضاء الشهوة الغريزية، أما تناسل الإنسان، فهو غير مقصود لذاته، بل مقصود لغيره، وهو الحفاظ على عملية الاستخلاف، والقيام بعمارة الأرض.

فالزواج، هذه المؤسسة الصغيرة والخطيرة في الوقت نفسه، ذات الشراكة الثنائية، تؤدي لا محالة إلى توسيع شبكة العلاقات الاجتماعية بالأواصر المتفرعة عنها، كآصرة النسب، وآصرة المصاهرة، وآصرة الرضاع، وغيرها. مما يوسع هذه المؤسسة ذات الأفراد المعينين إلى مؤسسة المجتمع ومؤسسة الأمة، ذلك أن\" قرابات الرحم وأواصر الصهر والأنساب هي في الحقيقة مؤسسات بدائية[26] طبيعية للتمدن الإنساني\"[27]. وبتوسيع دائرة العائلة الواحدة إلى دوائر متعددة تتكون مؤسسة المجتمع والأمة. حيث سيقوم أفراد هذه المؤسسة بالإنتاج العملي، وممارسة ألوان النشاط العمراني، \"فيحتاج المجتمع الإنساني لبقائه، والتمدن الإنساني لاطراده، وارتقائه كل سنة إلى ملايين من الأزواج يتقدمون للقيام بهذه الخدمة وتبعاتها راضين مختارين، فيتعاقدون بينهم النكاح ويؤسسون المزيد من الأسر\"[28].

ولتحقيق هذا الغرض المتمثل في إنشاء أسر متعددة متباينة تسهم في عملية العمارة والتمدن، أجاز الإسلام الزواج بين الرجال من المسلمين من النساء من أهل الكتاب، وحرّم ذلك على النساء المسلمات، وأبيح الزواج بين الأبيض والأسود، وبين الشرقي والغربي، وهو عمل أجازه الإسلام ودعا إليه بقوله - تعالى -: [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم](الحجرات: 13)، داعيا بذلك إلى \"تحقيق الوحدة بين الجنس البشري\"[29]، وتوسيع شبكة العلاقات الاجتماعية، وهو من شأنه أن يدعم القيام بعملية الاستخلاف.

ولذلك نجد ابن خلدون يعلل الحكمة من الزواج بالتعمير، \"وذلك أن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم\"[30]، كما يقول أيضاً: \"نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخريبها مع أن الهدم أيسر من البناء بكثير.. فإذا وجدنا بناء تضعف قوتنا البشرية عن هدمه مع سهولة الهدم علمنا أن القدرة التي أسسته مفرطة القوة\"[31]

وإذا كان حديث ابن خلدون عن التكاثر العددي الذي أنتج قوة بشرية مما يمكن أن يسهم في العمران، فإن التكاثر العددي إذا ما أضيف إليه التكاثر النوعي، فإن الاضطلاع والقيام بوظيفته من شأنه أن يتيسر ويدوم. ومن هنا جاء دعاء الصالحين في قوله - تعالى -: [والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً] (الفرقان: 74)، فالمولى- تبارك وتعالى -لم ينكر على المؤمنين هذا الدعاء، \"فإنهم يُعنون بانتشار الإسلام وتكثير أتباعه. فيدعون الله أن يرزقهم أزواجاً وذريات تقرٌّ بها أعينهم، فالأزواج يُطِعنهم بإتباع الإسلام وشرائعه، والذريات إذا نشئوا مؤمنين، وقد جمع ذلك لهم في صفة (قرة أعين)، فإنها جامعة للكمال في الدين واستقامة الأحوال في الحياة \"[32].

ومما يؤكد على مسايرة الإنسان لفطرته وغريزته في حب النسل والذرية هو دعاء الأنبياء - عليهم السلام - بالذرية كما جاء في القرآن الكريمº حيث جاء عن زكريا - عليه السلام - في قوله - تعالى -:[هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء](آل عمران: 38). فسيدنا زكريا - عليه السلام - يدعو ربه أن يهبه ولدا، بالرغم من السن الذي وصله، \"على أنه كان آيساً من الولد بسبب شيخوخة زوجته. فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد\"[33].

والأمر غير مرتبط بالمقصد القريب في الدعوة للحصول على الولد فقط، بل أن للمقصد العالي وجودا في دعاء الأنبياء، في تحقيق مقصد الاستخلاف والوراثة في الأرض.

كما نجد آية أخرى تبين لنا مغزى طلب سيدنا زكريا - عليه السلام- الذرية،هذه الآية هي قول الله- تبارك وتعالى-: [يرثني ويرث من آل يعقوب](مريم: 6)º \"أي أن يكون دعاءً لإرث النبوة وإرث المناهج وإرث القيم\"[34].

فكان الزواج سنة كونية عمل بها الأنبياء والمرسلون، وأكد عليها القرآن الكريم بتشريعه أحكامها، وضوابطهاº ودعوته إليها لتحقيق مطلب التناسل، إتباعا لقاعدة الانتقال بالوازع الجبلي إلى الوازع الديني[35]، ليكون للإنسان نصيب في الثواب حتى وهو يأتي المطلب الفطري، منّة ونعمة من العلي القدير لعباده إن هم أدوا حق العبادة، \"فالزواج الشرعي من الأعمال التعبدية التي يثاب عليها الرجل والمرأة فبه يكتمل دينهما\"[36].

وجاءت الآيات حاثة داعية إلى النكاح بطريقة غير مباشرة، بِعَدِّ الزواج سنة بني آدم، وسنة الأنبياء-عليهم السلام-. قال - تعالى -: [ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية](الرعد: 38). هذه الآية جاء في تفسيرها قول القرطبي: \"هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهى عن التبتل، وهو ترك النكاح، وهذه سنة المرسلين كما نصت عليه الآية\"[37]. ويقول- تبارك وتعالى –أيضا [والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما](الفرقان: 74). فحب الولد أمر فطري لم ينكره المولى- تبارك وتعالى -على عباده، فنعمة الولد منّة وهبة منه تبارك وتعالىº فلا حرج أن يدعو المسلم ربه أن يرزقه البنين، وأن يمن عليه بالذرية الصالحة، ذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرّت عينه بأهله وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة معاونون له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه على الملاحظة، فذلك حينئذ قرة العين وسكون النفس[38].

والآيات عديدة في الحث على النكاحº من مثل قوله - تعالى -: [وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم](النور: 32)، وقوله - تعالى -: [فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ](النساء: 3)، وقوله - تعالى -أيضا: [فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ](البقرة: 187).

يقول الإمام الرازي في تفسير آية البقرة هذه: \"وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد بالمباشرةº أي لا تباشروا الشهوة وحدها، ولكن ابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل\"[39]. فهل هذا يعني أن طلب الشهوة لا يصح؟ ذلك ما سيتضح لاحقا من أنه مطلب تبعي، وأن الإمام الرازي هنا يؤكد على المقصد الأصلي فقط.

ويذكر صاحب تفسير المنار أن الشيخ محمد عبده فسر هذه الآية بقوله: \"واطلبوا بمباشرتهن ما قدره لجنسكم في نظام الفطرة من جعل المباشرة سببا للنسل، أو عسى أن يكون كتبه لكل منكم\"[40]، ولذلك يرى رشيد رضا أن \"إتيان النساء بالزواج الشرعي من الجهة التي يبتغى بها النسل من أعظم العبادات\"[41].

وجاء أيضا في سورة البقرة]نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم[(البقرة 223)، قال الرازي: \"حرث لكم أي مزرع ومنبت للولد، وهذا على سبيل التشبيه، فكان المعنى نساؤكم ذوات حرث لكم فيهن تحرثون للولد\"[42]، وقال القرطبي: \"حرث: تشبيه، لأنهن مزرع الذريةº ولأن الحكمة في خلق الأزواج بثّ النسل\"[43].

فلم تنكر الشريعة هذا المطلب الفطري، فهي كعادتها تأتي لتؤكد على ما جبل عليه الإنسان، فتساير الطبيعة الإنسانية، ولكن لم تقف عند هذا الحد، بل جاءت لتهذب وتيسر كذلك. فشرعت شريعة الإسلام الزواج، وسنت له الأحكام، ودعت إليه، وجعلت منه السبيل المشروع والطبيعي لتحقيق هذا المطلب، إتباعا لقاعدة الانتقال بالوازع الجبلي إلى الوازع الديني، ليكون للإنسان نصيب في الثواب. وهو ما يؤكده قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ]وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر. قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر. فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر[[44].

وحثّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الزواج أيضا، مؤكدا أن هذا المطلب فطري، ولا يخالف أحكام الشرع، بل هو من سنته - صلى الله عليه وسلم - وسنة الأنبياء أجمعين - عليهم السلام -، حيث قال: ]أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply