مجالات السياسة الشرعية وتطبيقاتها (5)


بسم الله الرحمن الرحيم

 المقالة الثانية:

مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث المسائل والأحكام

جاء في الحلقة الماضية إيراد تطبيق تقعيدي وصفي، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحت مسائله في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها، وذلك ببيان فقه السياسة الشرعية المنبثق من أصل علاقة الدولة الإسلامية بغير المسلمين وأنَّ الأساس المقصدي الذي تقوم عليه حقيقة العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها على أساس مقصدي، وهو تبليغ رسالة الإسلام لغير المسلمين (الدعـوة)، والتعامل معهم وفق ما تمليه الأحكام الإسلامية، التي تراعي بخاصيتها ظروف متغيرات الزمان والمكان والحال، وفق قواعد تفسيرية غاية في الدقة وهذه تتمة ذاك التطبيق (1):

توقفنا في الحلقة الماضية عند الاحتمال الثالث من القسم الثاني المتعلق بالدول والكيانات التي ليس بينها وبين الدولة الإسلامية معاهداتº إذ فيه أن هذه الدول لها أحوال، وهي:

 

الجهاد المشروع من أجل نشر الحرية في اختيار توحيد الله أو ما يعرف في الفقه الإسلامي بـ (جهاد الطلب) أو (جهاد الدعوة) وغايته إتاحة الحرية الإنسانيةº لحماية حق الإنسان في اختيار أن يكون الله - عز وجل - هو إلهه، فينضم باختياره إلى الأمة الإسلامية، أو أن يبقى على دينه، ويتخلص من الحكم الاستبدادي الظالم،

 إمَّا أن تعلن الحرب على الدولة الإسلاميةº وتم الحديث عنه.

وإمَّا أن لا تعلن تلك الدول والكيانات الحرب على الدولة الإسلاميةº وهنا يراعى الفقه السياسي الشرعي بالنظر إلى الدولة الإسلامية ويضعها في أحوال قد توجد في زمن دون غيره أو مكان دون غيره:

فإمَّا أن تكون الدولة الإسلامية في حال قوة وتمكّنº وهنا تسلك الدولة الإسلامية والأمةُ الطرقَ السلمية أولاً، للتأثير على هذا النظام وهذا الكيان - مع إشعاره بطريق ثالثة تُفرِض عليه إن لم يقبل الطرق السلمية - من خلال عرض الخيارين التاليين عليه، وهما:

1) التحول إلى المنهج الإسلامي عقيدة وشريعةº ويتم بذلك الحصول على جميع مزايا النظام الإسلامي، ومنها المزايا: السياسية، والعسكرية، والقضائية، والاقتصادية.

 

2) القَبول بالحكم الإسلامي، والانضواء تحت رعاية الدولة الإسلاميةº مع بقاء من شاء من الرعايا على الديانة التي هم عليها أفرادا كانوا أو جماعاتº ويتم بذلك لهؤلاء الحصول على جميع مزايا النظام الإسلامي الخاصة بالرعايا غير المسلمين، والتي سبق الإشارة إليها.

 

فإن لم يقبل هذا الكيان بذلك، فإنّ الدولة الإسلامية تسلك طريق فرض العدل المفقود والحرية المسلوبةº للتأثير على هذا النظام من خلال خيار الدولة الإسلامية الثالث، وهو:

 

3) اللجوء إلى الجهاد المشروع من أجل نشر الحرية في اختيار توحيد الله أو ما يعرف في الفقه الإسلامي بـ (جهاد الطلب) أو (جهاد الدعوة) وغايته إتاحة الحرية الإنسانيةº لحماية حق الإنسان في اختيار أن يكون الله - عز وجل - هو إلهه، فينضم باختياره إلى الأمة الإسلامية، أو أن يبقى على دينه، ويتخلص من الحكم الاستبدادي الظالم، ويتمتع بالحكم الإسلامي العادل مقابل الضريبة الرمزية التي هي (الجزية) التي هي أقل من الزكاة التي يؤتيها المسلم.

 

والجهاد الإسلامي يتميز عن غيره من أنواع القتال بأنَّه: يتصف بالمثالية الواقعيةº لما يشتمل عليه نظامه من ضمانات إنسانية راقيةº فلا عنصرية ولا عرقية ولا إبادة. وتمنح السياسةُ الشرعية الدولةَ الإسلامية مرونة في تسمية الجزية، فيجوز أن تفرض باسم آخر كـ (الضريبة) في مقابل الزكاة. ويمكن أن يطلق عليها مسمى الزكاة لو اقتضت الحال ذلك، وله أصل من عمل الخلفاء الراشدين ليس هذا محل تفصيله.

 

والجهاد الإسلامي يتميز عن غيره من أنواع القتال بأنَّه: يتصف بالمثالية الواقعيةº لما يشتمل عليه نظامه من ضمانات إنسانية راقيةº فلا عنصرية ولا عرقية ولا إبادة. وتمنح السياسةُ الشرعية الدولةَ الإسلامية مرونة في تسمية الجزية، فيجوز أن تفرض باسم آخر كـ (الضريبة) في مقابل الزكاة.

 

ففي حال قـوة الدولـة الإسلامية قد تبدأ هي بالقتال، ولا تقبل المسالمة ولا المهادنة، حتى يُزال الكيان الظالم الجائر، الذي يقف في وجه إبلاغ الرسالة، ويمنع النّاس من التعرف عليها و اتباعهاº وفي هذا إعمال للآيات الواردة في ذلك، والتي اتفق العلماء على الأخذ بها وتطبيقها عند تحقق ظروفها.

ولكنّ هذا الخيار ليس حتماً في حال قوة الدولة الإسلاميةº فقد تكون المهادنة والمسالمة لفترة من الزمن تحقق مكاسب عظيمة تفوق مكاسب الحرب والقتالº كما حدث في صلح الحديبية (2)º ومن ثمَّ يشرع للقيادة الإسلامية مهادنة العدو حتى مع القوّة.

وإمَّا أن تكون الدولة الإسلامية في حال ضعفº وهنا يجب عليها سلوك الطرق السلمية الممكنة، للدعوة إلى الله وإبلاغ الرسالة الخاتمة والدين الحقº وسلوك جميع السبل السلمية الممكنة التي تسلكها الدولة الإسلامية في تقوية إيمان المسلمين في الداخل بشتى صور الدعوة وتهذيب السلوك وتقوية الإيمان وحمايته من أهل الباطل، وفي الخارج بتقوية إيمان الأقليات الإسلامية ودعوتها للصراط المستقيم، وإعانتها في تطبيق الإسلام على الوجه الصحيح، وحل إشكالاتها الدعوية والفقهية، والسعي في إقناع غير المسلمين من رعايا الدول المسلمة باعتناق الدين الحق، كما هو الشأن في حال الدولة المعاهدة من خلال المشاريع الدعوية المباشرة أو الموجودة على أرض الواقع بجهود المسلمين فيها أو من خلال دعم الأقليات وحثها على نشر رسالة الإسلام التي تنتمي إليه، ونحو ذلك مما هو واقع ومعمول به اليوم في صور كثيرة تحتاج مزيدا من الدعم والتواصل.

 

وفي هذه الحال تقتضي المصلحة الشرعية - في الغالب - عقد معاهدة مع الدول والكيانات الأخرى التي ليس بينها وبينها عهدº فيشرع لها حينئذ المسالمة والصلح - بالمعنى الشرعي الذي يعني الهدنة المؤقتة أو المطلقة، وليس المعنى القانوني الذي يعني الصلح الدائم لكف شرها أو تحييدها والانتفاع بما يمكن الانتفاع به من العلاقات ضمن هذا العهدº وتكتفي في سياستها العسكرية بالرد على من يبدؤها بالقتال، مع العمل على تقوية الجيش الإسلامي وإعداد المقاتلين في الأمة، ونصر المستضعفين ونشر الدين بالوسائل المشروعة قدر المستطاع، وهذا يعني أنّ جهاد الطلب (نشر الحرية) قد يتأخر مدّة الإعداد للقوة الطالبة، ولكن جهاد الدفع (ردّ الغزاة وطرد المحتل) لا يسقط في هذه الحال ولا يؤخّرº لأنَّه فرض عين، ولا تصح معه المهادنة (3).

 

ومما يندرج تحت ذلك: حال الضرورة، وذلك أنَّ الضرورة قد توجد مع قوة الدولة الإسلامية وظهورها على غيرهاº فقد تمر بضائقة مالية وحالة تزيد الحرب فيها الحال سوءا، ومع توافر الجند وكثرة العتاد قد يحصل انشغال بحروب المصالح، كمقاتلة مرتدين، أو بغاة، أو دفع كيد الطابور الخامس، أو نحو ذلك مما لا يسمح بخروج الجند إلى ما وراء الثغور، لتحقيق أهداف الدولة الإسلامية في نشر الحق والعدل، وإزالة الكيانات التي تتبنى الظلم والجور، وتقف في وجه الحرية والعدلº فهنا قد تهادن الدولة الإسلامية تلك الكيانات، بمال يدفع إليها وتتقوّى به، أو بغير مال، أو بمال تدفعه هي دفعاً لما هو أشدّ ضرورة وأعظم ضرراًº كلّ ذلك حسب ما تقتضيه الضرورة الشرعية التي يجب أن يقرِّرها أولو الأمر من العلماء والولاةº على النحو الذي يقرِّره الفقهاء في بيان مشروعية الهدنة، وبيان مناط تلك المشروعية.

 

الأساس المقصدي الذي تقوم عليه حقيقة العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها على أساس مقصدي، وهو تبليغ رسالة الإسلام لغير المسلمين (الدعـوة)، والتعامل معهم وفق ما تمليه الأحكام الإسلامية، التي تراعي بخاصيتها ظروف متغيرات الزمان والمكان والحال، وفق قواعد تفسيرية غاية في الدقة

 

وهكذا تبقى قاعدة: ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما إذا لم يتيسر السلامة منهما جميعاً (4)º وتحصيل أعلا المصلحتين ولو بتفويت الدنيا منهما إذا لم يتيسر تحصيلهما جميعاً (5).

 

وإذا قرأنا الأحكام الإسلامية في هذه المسألة قراءة متكاملة كما هي في أذهان الفقهاء الكبار، فإنا سنجد تسبيبا كافيا في فهم ما قد يظنه بعض الناس تناقضا منهم. وذلك أنَّ أحكام الإسلام التطبيقية تتصف بخصائص عظيمة منها: الواقعية الشرعية. وفي هذا التقعيد الفقهي و التطبيق السياسي الشرعي الوصفي، ما عليك إلا أن تنزّله على ما يوافقه مما تفوه به علماء الشريعة الربانيون المعاصرون من أحكام وفتاوى بشأنه، لتظهر الخلفية السياسية الشرعية لتلك الأحكام والفتاوى في البلاد على اختلافها، وهكذا كل ما تفرع عن هذه الأحكام من مسائل جليلة ودقيقة. ولا أظنك بحاجة إلى أن أعرض فتاوى علماء بعينهم الآن، وإن رأيت ذلك فإني فاعل ذلك في حلقات قادمة إن شاء الله - تعالى -.

 

وثمة تفاصيل تحت هذا التطبيق تتفرع عن مسائل مندرجة عنه أو عن مسائل من مجالات سياسية أخرى، سيأتي الحديث عنها في حينه إن شاء الله - تعالى -.

وفي الحلقة القادمة إن شاء الله - تعالى -سيكون الحديث عن صور أخرى من صور الضرب الأول من النوع الثاني.

-----------

(1) تحسن قراءة الحلقة الماضية (21) ولو من بداية الحديث عن القسم الثاني.

(2) ينظر: مسائل من فقه الكتاب والسنة، لعمر الأشقر: 261، 262.

(3) ينظر: المعيار المعرب، للونشريسي: 2/207 - 209.

(4) ينظر: المنثور في القواعد، للزركشي: 1/348 وما بعدهاº والأشباه والنظائر، لابن نجيم: 98.

(5)ينظر: المنثور في القواعد، للزركشي: 1/345º وقواعد الأحكام في مصالح الأنام [في عدة مواضع، منها]: 96-97º ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للشيخ عبد العزيز بن باز: 5/293. وقد بين هذه القاعدة وأكثر التمثيل لها العز ابن عبد السلام - رحمه الله - في: قواعد الأحكام.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply