الكفاءة في النسب بين غال وجاف


 بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال:

ما ترون هذه الأيام من كثرة الحديث عن زواج النسب، وأنه من أحد أسباب فسخ العقد، ويحق لأهل الزوجة أن يعترضوا على الزواجº لعدم تكافؤ النسب؟ وحكم القضاء في تفريقهم بحجة العادات والتقاليد؟ فما هو الحكم الشرعي في ذلك؟ وجزاكم الله كل خير.

 

الجواب:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فقد اتفق العلماء على اعتبار الكفاءة بين الزوجين في الدين، وذلك في عدم جواز إنكاح المسلمة من الكافر، واختلفوا فيما عدا ذلك، ومنه اعتبار الكفاءة في النسب:

فذهب جماهيرهم من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى اعتباره، واستدلوا لذلك بقول عمر - رضي الله تعالى عنه -: \"لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء\".

وذهب مالك إلى عدم اعتبار الكفاءة في النسب، وكان يقول: أهل الإسلام كلهم بعضهم لبعض أكفاء لقول الله - تعالى-: ((إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم))، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي, ولا لعجمي على عربي, ولا لأحمر على أسود, ولا لأسود على أحمرº إلا بالتقوى أبلغت؟) قالوا: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه أحمد من حديث أبي نضرة.

ولا أعلم دليلاً في الشريعة يجعل الكفاءة في النسب شرطاً في النكاح لا في أصل ابتدائه، ولا في صحته واستدامته، وأثر عمر - رضي الله عنه - آنف الذكر لا يثبت عنهº بل إن الأشبه بقواعدها ونصوصها عدم اعتبارهº لأن بناء مثل هذه العلاقة في الإسلام - من حيث الأصل - لا يقف على عنصر أحد الزوجين ونسبه، ولا مكانته الاجتماعية.

وكان اعتبار الكفاءة في النسب من بقايا عوائد العرب في الجاهلية والتي استمرت في الإسلام، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة).

وهذا الإرث الفقهي الذي تركه لنا جماهير أهل العلم وفقهاء الإسلام باعتبار الكفاءة في النسب ليس مبناه عندهم أن الشريعة تعتبر التفرقة بين الناس بسبب العنصر والعرق والحال الاجتماعية، وإنما لأن بعض الطبقية صارت أمراً مفروضاً يصعب تغييره برأي فقيه، أو توصية مؤتمرº حتى صارت أمراً حتمياً عند كل شعوب العالمº فما من أمة إلا ولها اعتباراتها في الطبقية الاجتماعية تضيق حيناً، وتتسع حيناً آخر، وحتى من تزوجوا مخالفين بعض هذه الأوضاع الاجتماعية لديهم اعتبارات طبقية، لو أراد أولادهم تجاوزها لم يقبلوا بهذا التجاوزº فلا يرضون لهم بالزواج من أي أحد مهما كان جنسه ولونه، ولهذا بنى الفقهاء على ذلك أحكاماً تنظم هذا الواقع المفروض، وتوازن بين المصالح والمفاسد.

وهذه بعض مفاسد تجاوز الأوضاع الاجتماعية:

أولاً: ظهور القطيعة بين الأقارب بسبب كسر هذه العادة الاجتماعية، وتكامل المرء النفسي لا يكون بالعلاقة الزوجية فقطº بل يحتاج إلى دوائر أوسع لإيجاد هذا التكامل.

ثانياً: أن في هذا نوعاً من التعسف في استعمال الحق، ويظهر ذلك في تأثر أقارب الزوجين سلباً بالتصرف المنفرد الذي اُتخذ من قبلهما بما يؤثر على حظوظهم في الزواج، وكذلك نظرة المجتمع إليهم، كما أن أولاد الزوجين سيتأثرون بهذا القرار الذي اتخذه والدهما.

وكل هذا يُعتبر عند الناس تعسفاً في استعمال الحق، وقلة مبالاة بشعور الآخرين الذين هم شركاؤه في البناء الاجتماعي.

ثالثاً: اضطراب الحياة الزوجية بسبب التفاوت الاجتماعي بين الزوجينº فعند ذهاب فورة العاطفة المصاحبة للرغبة في الزواج، وتراجع المثالية والمجاملات في فترة الزواج الأولىº سيرى الناس أن هذه النزعة ستبدأ بالظهور عند صاحب الحال الاجتماعية الأعلى، وحتى لو لم يُظهرها فسيبدأ الطرف الآخر بتفسير كل تصرف على أساسهاº مما يكون وقوداً سريع الاشتعال عند كل خلاف مهما صغُر، ولا يمكن أن تنتزع المرء من محيطه الاجتماعي مهما بلغ في تماسكه وقوته.

ومن المعلوم أن من مقاصد الزواج في الإسلام أن يُجعل بيت الزوجية سكناً يفيض مودة ورحمة وطمأنينة، وفي تجاوز هذا الأمر وضعٌ لبذرة الشقاق والخلاف قبل انطلاق مشروع الحياة الزوجية.

ثم إن الإنتاج النافع في الدين والدنيا، ودوران عجلة التنميةº لا تكون إلا في بيئة الطمأنينة في الأسرة والمجتمع، والتقارب بين حالي الزوجين يعده النفسيون مهماً فيما هو أقل من ذلكº كالثقافة ومستوى الذكاء والعمر، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر بن عبدالله - رضي الله تعالى - عنهما حين تزوج ثيباً: (فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك) رواه الشيخان عنه، فكيف بهذه المسألة التي هي أكثر حساسية، وأعظم إثارة.

والهوامش التي يتعايش فيها الناس وينتفع بعضهم من بعض واسعة سعة الأفق وامتداده، وليس لأحد اختزالها في حال اجتماعية واحدة أو اثنتينº كما أن البدائل المتاحة للزوجين ممتدة واسعة بنفس سعة حال التعايش والانتفاع، وهذا لا يعني ترسيخ هذا الأمر ولا تأييده، ولكنه واقع فرض نفسهº فينبغي أن يكون علاجه بشيء من الصبر وطول النفس.

كما أن هذا لا يعني بحال احتقار أحد لنسبه أو عنصرهº فهذا من أعظم الذنوب، وأكبر الآثام، وهو الكبر الذي لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة منه، وفسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) رواه مسلم عن ابن مسعود، وغمط الناس احتقارهم، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: (أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية) رواه الشيخان، ولا تزكو أمة يُحقَّر فيها أحد لمعان ترابية، بل هي أبعد ما تكون عن انتصارها على نفسها فضلاً عن انتصارها على أعدائها، ولا فضل لأحد في تقرير هذاº لأنه ضرورة الشريعة والعقل والفطرة.

ونؤكد أيضاً بأن هناك فرقاً بين احتقارٍ, يقوم في القلب، ويظهر على الجوارح، وبين شخص يدفع مفسدة له ولغيره عن ارتكابها مندوحة وسعة.

وفيما يتعلق بفسخ القاضي للنكاح في حال عدم كفاءة النسب فإن الأصل هو عدم فسخه، ولكن القضايا تختلف من حال إلى حالº فلا يمكن أن تُعطى حكماً واحداً.

هذا هو أوان الفراغ من الجواب، وإنما أسهبت فيه لكثرة الجدل هذه الأيام حول هذا الموضوع، وكون الناس فيه بين غال وجاف.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply