على أبواب شهر القرآن


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

يهل على المسلمين شهر رمضان المبارك وأعداء الله ورسوله يعيشون في الأرض المقدسة فسادا، ويمرحون في رحاب المسجد الأقصى، يقتلون أبناءنا وإخواننا، لا تزعجهم بيانات ولا تهديدات تصدر من هنا أو هناك، ولا يقف أمام يهود إلا الذين صاموا رمضان، واعتصموا بحبل الله واستقاموا على أمر الله، فشهر رمضان تربية وجهاد، وطريق إلى نصر الله، والنصر له قانون ثابت، بل هو نفسه هدف ثابت، وهم لا يتنزل ليعانق الناس، ولكن على الذين يريدونه: أن يجاهدوا أنفسهم لكي يصعدوا إليه، والصعود لا يكون إلا على درج الإيمان، وقانونه الثابت، قول الحق-تبارك وتعالى-: {إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم}(محمد: 7).

وطريق النصر: التجرد لله، وأن يكون الله أحب إلى المؤمنين من كل شيء وأن ترد إليه -سبحانه- الأمر في الحركات والسكنات، وفي السر والعلن، وطريق النصر: إقامة الموازين والقواعد والقيم التي أنزلها الله، وعلى أساس منهجه وشريعته، فهذا نصر الله في واقع الحياة، أما تثبيت الأقدام، فهو حفظ المؤمنين من الإعجاب بأنفسهم ومن البطر والكبر، ومن عدم التراخي والتعاون بعد النصر، وهي محنة الخير التي يثبت فيها القليل، وهي أشد من محنة البلاء.

يقول الحق -سبحانه وتعالى-: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}(الحج: 41).

إن صلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة كبرى، ودرجة عظمى، تحتاج إلى توفيق من الله -عز وجل- للثبات عليها.

يقول الحق -سبحانه-: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَنِي لاَ يُشرِكُونَ بِي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}(النور: 55)

1-              وعلى أبواب رمضان تؤكد:

أن انتصار الإيمان والحق، أمر تكفل به وعد الله وما يشك مؤمن في وعد الله وحسب المؤمنين الذين أنزل بهم الابتلاء أن يكونوا هم المختارين من الله، ليكونوا أمناء على حق الله ورسالته، ومنهجه.

جاء في الصحيح: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء".

لكن الذين يفتنونهم ويكذبون عليهم ويضعون العقبات في طريقهم، فلن يفلتوا من عقاب الله، والله -عز وجل- يملي للظالمين، فإذا أخذهم، فإن أخذه أليم شديد، وهذا وعد الله وسنته في نهاية المطاف: {أَم حَسِبَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسبِقُونَا سَاءَ مَا يَحكُمُونَ}(العنكبوت: 4) ثم يلقي في نفوس المؤمنين السكينة، ويربط على قلوبهم، فيقول -سبحانه-: {مَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآَتٍ, وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}(العنكبوت: 5).

فلتستقر هذه القلوب، التي تتطلع إلى لقاء ربها، والله -سبحانه- يسمع لها، ويعلم صدقها وتطلعها، ثم يوجه القلوب إلى احتمال تكاليف الإيمان، ومشقات الجهاد ويذكرها بأن ثمار هذه التحمل والكفاح، والصبر على تكاليف الإيمان، كلها تعود على المؤمنين أنفسهم، فالجهاد يصلح نفس المجاهد، ويرفع من شأنه ولذلك فالواجب عليه، ألا يقف وهو في الطريق، يطلب أجره من مخلوق، فثوابه، ومنزلته، وأجره هنا، أكبر من هذه الدنيا، وأعظم من هذه الحياة، والأمل المشرق والجزاء الطيب في نهاية المطاف، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

2-              النفس هي الميدان الأكبر:

يقول الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: عن المؤمن التقي وموقفه بالمرصاد من مجاهدة نفسه والتغلب عليها "إن المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله -عز وجل-، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.

إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات حيل بيني وبينك، إن المؤمن أسير الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يؤمن شيئاً حتى يلقى الله -عز وجل-، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره وجوارحه، إن هذا الحق أجهد الناس، وحال بينهم وبين شهواتهم، وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله، ورجا عاقبته".

وحتى يستطيع المؤمنون بالله أن يلتزموا بما أمنوا به، وأن يلتزموا مختارين، وأن يجتازوا العقبات النفسية، وهي هواجس من الشهوات والهوى، من أجل ذلك كانت العبادات في الإسلام، وعلى رأسها عبادة الصوم، كتجربة نفسية، يتقرب بها إلى الله - عز وجل -، من هنا وجب أن يمر بها المسلم ويستمر في أدائها من وقت لأخر.

3-              الصيام يعصم المؤمن:

ولكي يستطيع المؤمن بالله وحده، أن يواجه مشقة الحرمان، ويتغلب عليها، وحتى لا يذل بفتنة المتاع الدنيوي، وإغرائها، من أجل ذلك أيضاً كانت عبادة الصوم هي السبيل العاصم للمؤمن في الاستعلاء على عالم الشهوات، والوقوف على قدميه، في عزم وصبر وإصرار، أمام مشقة الحرمان المؤقت.

فالصوم إذن هو التجربة الإيمانية على الحرمان كقربى إلى الله، يستهدف تحقيق "القدر" على الذات، على تحديد موقف المؤمن، وعلى تعيين سبيل السلوك السوي في الحياة، وبهذه القدرة، يفي المؤمن بما يلتزم به، ويكون وفاؤه بباعث إيماني داخلي، وليس بإلزام خارجي.

إن الصوم وهو الإمساك عن المتع الحسية، وليس عن عجز في اقتنائها فهي موجودة بين يدي المؤمن، وإنما استعلى عليها تنفيذا لأمر الله وطاعة لله، عن اختيار ومشيئة ورغبة صادقة في رضوان الله ورسوله.

والصوم كعبادة أيضاً: تجربة للإنسان على تعود الحرمان، من المتع الحسية وشهوات النفس فيها، وليس عن عجز وإنما عن قدرة.

4-              الصوم صمام الأمان:

إن الإمساك لأداء فريضة الصوم، في حال قدرة المؤمن على مباشرة المتع الحسية الحلال والاستمتاع بها، يعيد المؤمن إلى طريق النجاح، والفوز في الاختيار بالنعم التي يفيض بها الله عليه خاصة التي لها بريق يخدع ويفتن {إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الأَرضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبلُوَهُم أَيٌّهُم أَحسَنُ عَمَلاً} (الكهف: 7).

ذلك هو الطريق لاجتياز الابتلاء، والفوز في الامتحان، والثبات على الحق، والمؤمن الذي يتقرب إلى الله بعبادة الصوم، وبإمساكه عن كل شيء رغم وجود هذه الأشياء بين يديه، هو ذلك الذي تمر عليه الأزمات والشدائد، دون أن تحدث أثرا سيئاً وضيقا في نفسه، ولا يهتز أو يستسلم للضغوط مهما كانت وهو نفسه الذي تدرب على الصبر، والمشقة والاحتمال، بل أصبح الاحتمال عنده قدرة وطاقة، أينما تكون الأزمة التي تم به، ولذا فالمؤمن هنا من أصحاب الهداية ومن رضي عنهم ربهم ويرحمهم برحمته، فتمرس على الصبر، بتدريب نفسه على الإمساك في الرخاء والشدة على السواء.

إن المؤمن بالله، قد يواجه الابتلاء والاختبار في الإيمان ذاته، في مدى صدقه في إيمانه، ومدى إخلاصه فيه، إنه يواجه التعرض بسبب الإيمان للإيذاء بالقول والفعل والتأمر عليه، وقد يطول الظلم الواقع عليه.

يقول الحق-تبارك وتعالى-: {لَتُبلَوُنَّ فِي أَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم وَلَتَسمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَمِنَ الَّذِينَ أَشرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الأُمُورِ}(آل عمران: 186).

إن المؤمنين سيختبرون في أموالهم بإنفاقها في الجهاد في سبل الله، وسيختبرون في أنفسهم والصمود لجهاد الأعداء، وسيختبرون بالسخرية والإهانات والتشهير وترويج الأكاذيب ضدهم، وسيختبرون في كل ذلك من أجل الإيمان ومن أجل الحق الذي يدافعون عنه، وما لم يكن صبر وتحمل، وما لم يحصنوا أنفسهم من التأثر بالدنيا، لا يكون لهم عزم، ولا تكون لهم إرادة، ولا يكون لهم تقوى، يتقون بها ما يمر بهم من ظروف شديدة، من شأنها أن تهز الإيمان وتضعفه ولا يعيد المؤمن ويؤسس فيه هذه المعاني، إلا العبادات، الصلاة، والصوم، والصبر، عن نية وقصد ورغبة وإرادة والإمساك في استعلاء على شهوات النفس ومطالبها، وفي تحد لمتع الحياة والإغراء، والبريق.، وهذا دور الصيام جامعة الإسلام الكبرى.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply