شهر رمضان .. واحة للمتقين .. وموسم للجهاد في سبيل الله


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

"عمل القلوب أهم من عمل الجوارح، وتقوى الله هي الهدف الأسمى، والغاية العظمى من الصيام".

تواجه الشعوب الإسلامية اليوم مؤامرات، وأخطارا تهدد كيانها ووجودها، ومستقبلها، تواجه عدوانا وظلما لم تعد تخفي على أحد وتلتقي جميع أطماع المعتدين على هدف واحد، هو القضاء على هذه الأمة ومقدساتها وإسلامها، وتقف الشعوب أمام هذا الطوفان حائرة مضطربة، لأنه يحال بينها وبين حريتها وحركتها، وأداء الواجبات التي فرضها الله عليها، ومع أن الخطر يتزايد، والصهيونية تضرب في كل جزء من فلسطين، وتدمر كل شئ، وما يحدث في أفغانستان ويدور في العراق من قتل ونهب وعدوان أمريكي لم يعد يخفى على أحد رغم هذا وغيره، فما زال حكام العرب والمسلمين يلوذون بالصمت، ولو أنهم قدروا الأمور التقدير الصحيح لوحدوا صفوفهم، وتقاربوا وتفاهموا، وتعاونوا لأن إسلامهم ومكانتهم وتاريخهم، وموقعهم على خريطة العالم يفرض عليهم ذلك، والحق- تبارك وتعالى -فرض عليهم أن يكونوا أمة واحدة.

إن المسئولية اليوم على حكام العرب والمسلمين خطيرة، وما يحدث في بلاد الإسلام نكسة للبشرية كلها، وحرمان للشعوب من أبسط حقوقها، يجب أن يتدارك قبل فوات الأوان.

 

ذكرى العاشر:

ويأتي علينا شهر رمضان، شهر الانتصارات على مدار التاريخ، وفيه ذكرى العبور العظيم في العاشر من رمضان، وهي معركة الجهاد والنصر، وهي صورة مشرفة صادقة للجندي المسلم، الذي هتف "الله أكبر" وحافظ على الصلاة والصيام وقراءة القرآن وقيام الليل، فاستطاع أن يدافع عن كرامة أمته، واستطاع أن يثبت وجوده، لقد أقبل الجنود على الجهاد والعبور صادقين، فوهبهم الله النصر على عدوهم، كانت قلوب الصائمين موصولة برب الأرض والسماء، ضارعة إلى خالقها تهتف باسمه -سبحانه-، قد أيقنت أن الله يدافع عن الذين آمنوا، فنصروا الله فنصرهم الله.. وهذا النصر الذي حدث في الماضي القريب يمكن أن يحدث اليوم وغداً بشرط أن نعود إلى الله، وأن نلتقي تحت راية الإسلام، وما ذلك على الله بعزيز {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم}(محمد: 7).

 

الانتفاضة المباركة:

ويهل علينا شهر رمضان ويتحمل أبطال فلسطين العزل تكاليف الجهاد، والسير في الطريق المليء بالأشواك وواجهوا دبابات اليهود، وصواريخ اليهود وحقدهم، بصدورهم العارية، لقد استمدوا قوتهم من عقيدة الأمة ومن وجدانها وتاريخها، ومهما كان الحصار المضروب حولهم والضغوط الواقعة عليهم، فهم الأعلون، وأصحاب الحق، وهم الأبرار الأوفياء فحافظوا على حق أمتكم في الحياة والنصر بإذن الله قريب.

ولا نقول لهم إلا ما قاله الحق-تبارك وتعالى-: {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابتِغَاء القَومِ إِن تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُم يَألَمُونَ كَمَا تَألَمونَ وَتَرجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}(النساء: 104).

لقد سارعتم للحفاظ على أمتكم ولم تبخلوا عليها بأعز ما تملكون فسيروا على بركة الله، فأنتم في مواطن الجهاد، وهو أشرف وأعظم ميدان، والحق -سبحانه– يقول: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحفاً فَلاَ تُوَلٌّوهُمُ الأَدبَارَ}(الأنفال: 15) {وَمَن يُوَلِّهِم يَومَئِذٍ, دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ, أَو مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ, فَقَد بَاء بِغَضَبٍ, مِّنَ اللّهِ وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ}(الأنفال: 16)

 

من ثمار الصيام التقوى:

لقد جعل الحق -سبحانه وتعالى- من ثمار الصوم التقوى، وهى قاعدة تقوم في القلب المؤمن، ولا تتكون من فراغ، وإنما وضع الحق -سبحانه- من أجل الوصول إليها نظام العبادات، فالصلاة والزكاة والصيام والحج.. وذكر الله وتلاوة القرآن، وصلاة التراويح وغض البصر، وأكل الحلال، كلها روافد تمد القلب المؤمن بالزاد، وهنا تبرز الغاية من الصوم، إنها التقوى، وهذا صريح القرآن {كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ}(البقرة: من الآية 183).

فهنا تستيقظ التقوى في القلوب، وهى تؤدى فريضة الصيام، طاعة لله، وحبا في رضاه، والتقوى هي الحارس الأمين لهذه القلوب من أن تفسد الصوم بالمعصية، وهي العاصم من كل سوء، والواقي من كل فتنة، وقد بين لنا القرآن الكريم، فضل التقوى ومنزلتها، وصدق الإيمان والعمل الصالح فقال: {لَّيسَ البِرَّ أَن تُوَلٌّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلَـكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلآئِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ البَأسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ}(البقرة: 177).

في أية واحدة يجمع القرآن بين هذه الجوانب، من أصول للاعتقاد، وتكاليف المال والنفس، ثم يكون الختام وصف من اتصفوا بهذه الصفات بأنهم {أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ}.

 

عهد الله ورسوله:

والمؤمنون الصائمون الصادقون عرفوا أنهم على عهد مع ربهم، ورضوا بالأجر والثواب على وفائهم، راضين بالبيع الرابح، الذي يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- عنه "أنفس هو خالقها، وأموال هو رازقها ثم يعطينا عليها الجنة، نعمت الصفقة الرابحة" قال هذا حين نزل قوله -تعالى-: {إِنَّ اللّهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}(التوبة: من الآية 111).

لقد مضوا في الطريق منذ هداهم الله إليك، وعرفوه وأدركوا غايته، مضوا صفا متواصيا بالبر والتقوى، متعاونا على الخير، صفا صابرا محتسباً إيماناً ورضا، وسعياً وعميلا، فما أعظم هذا العمل، والمطلوب أن يزداد وينمو، وفي الحديث "بلغوا عنى ولو آية" وفي الحديث أيضاً "رحم الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع " إنه العهد مع الله، العهد المستمر في جميع الأحوال، العهد الماضي الذي لا يبدله المؤمنون، بل يعظمونه، ويعظمون الوفاء به، وفي الحديث "يا على لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير من الدنيا وما فيها، أو خير لك من حمر النعم".

 

مفاتيح الأمة العقيدة والإيمان:

العاملون للإسلام يؤمنون بأن مفتاح أمة الإسلام هو الإيمان بالله، صانع المعجزات، ومذلل العقبات، هو المحرك لهذه الأمة، حين تمده الروافد التي تغذيه من عبادة ومجاهدة للنفس وعمل وسائر الطاعات، تدب في القلوب الحياة، ويهيئ الله -عز وجل- للبصيرة النافذة وعيا دقيقاً، وإرادة قوية وخلقاً فاضلاً، ويسارع المؤمن بشوق عظيم إلى الجهاد وإلى العمل النافع.

نعم هذه الأمة صنعت وتصنع التاريخ، وتأتى بالأعاجيب حين تدفع إلى الأمام باسم الله، فإذا كنا نريد أن تعود الحقائق الكبرى لهذا الدين فعلينا أن نسلك هذا الطريق، إن أمة الإسلام اليوم على مفترق طرق، فإن أرادت أن تصل الحاضر بالماضي العظيم، وأن تواجه التحديات المحيكة بها، فلابد لها من هذا الطريق، طريق التوحيد، طريق العقيدة والإيمان، إنه كلمة الله أكبر، وصيحة وااسلاماه؟ ومن قبل ذلك الإعداد والتربية الرشيدة على منهج الإسلام، فهذا هو المخرج الوحيد لأمة الإسلام، ونؤكد أن فلسطين لن يخرج منها اليهود إلا بالإسلام، وأن العراق لا تتحرر من الأمريكان إلا بالعودة لهذه الرسالة، وأن جميع المسلمين على الأرض لن يشعروا بالأمان والأمن والاستقرار إلا في ظل هذا الدين، وفي رحاب شريعة الإسلام، مصدر العزة والحياة، هذه الأمة، حين يقودها الإيمان، وتجتمع تحت راية القرآن، ومنهج التوحيد، تأتى إن شاء الله بالعجب العجاب وبالمعجزات وتاريخنا شاهد على صدق ما نقول.

 

يقول الإمام البنا:

"ولقد قدم رمضان هذا للناس نبيا وكتاباً، قامت عليهما أعظم نهضة إنسانية عرفها الوجود، وتمت بها أعظم رسالة رأتها الدنيا، فكان النبي محمدا -صلى الله عليه وسلم-، وكان الكتاب هو القرآن الكريم، وكانت الرسالة إنشاء جيل وإحياء أمة، وإقامة دولة، مهمتها في الوجود أن تتوحد تحت لواء المبادئ العليا، والمثل السامية، والفضائل الإنسانية الخالدة، وأن تخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، الله الذي له ما في السماوات والأرض، ومضى النبي -صلى الله عليه وسلم- قدما يبلغ رسالته ويتلوها على الناس كافة، ودانت الجزيرة وانتهى سلطان الكسروية، وتقلص ظل القيصرية، ورفرف لواء المبادئ القرآنية الجديدة، على ملك شامخ من حدود الصين إلى الدار البيضاء ومن فرنسا إلى مجاهل أفريقيا ودخل الناس في دين الله أفواجا".

 

فريضة إسلامية:

وفي رمضان شهر القرآن دستور السماء الخالد، الذي يهدى للتي هي أقوم، تبرز فريضة إسلامية على جميع المسلمين والمسلمات، وعلى الدعاة بوجه خاص أن ينصروها، ولابد من استيعابها، والإيمان بضرورتها والعمل بها، فهذا القرآن كتاب الله -تعالى-، وهذه سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يفرضان على كل مسلم ومسلمة أن يقيموا دين الله، وأن يدخلوا في السلم كافة، وأن يتحاكموا إلى شريعة ربهم، لكن المسلمين للأسف أدركتهم غفلة عن رسالتهم فاستعلى عليهم أعداؤهم في كل مكان، وقادوهم إلى طريق الضياع، وفرضوا عليهم أهواءهم وضلالاتهم، وأسقطوا الإسلام في نفوس المسلمين وفي واقع حياتهم، وهذا الدين العظيم لم يسقط في سباق مع المناهج الأرضية، وإنما تآمر عليه الأعداء، وفرط فيه الأبناء، ولذلك كان فرضا محتماً، وضرورة إيمانية على كل مسلم ومسلمة إذا أراد النجاة أن يجاهد نفسه وأهله والناس أجمعين، من أجل إعادة هذا الدين، لتكون كلمة الله هي العليا في حياة الأمة، فلابد أن يعمل المسلمون لهذا الدين ليعيشوا في ظل شريعة الله وليستنقذوا أنفسهم من كبائر الإثم، وذل التقصير، وهى كبائر إن لم يتداركوا الخروج منها تقودهم إلى سخط الله، وغضبه وعذابه.

ومن هنا كان تجمع المؤمنين والمؤمنات في صف واحد، لإقامة هذا الدين فريضة إسلامية، وليس مجرد اجتهاد فقهي، أو أخذا بفضائل الأعمال، يقول الحق -سبحانه- {وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَـئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ}(آل عمران: 104) ويقول -سبحانه- :{وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا}(البقرة: من الآية 143).

في رمضان يجب أن تصوم القلوب عن الآثام، والنفوس عن المعاصي، والأيدي عن الأذى، يقول الحسن البصري -رضي الله عنه-: "إن الله جعل رمضان مضمارا لخلقه، يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر المبطلون".

اللهم وفقنا جميعاً لنخرج من شهرنا بثواب الصابرين، وأجر الطائعين العابدين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply