الخطاب الإسلامي .. مقاربة منهجية


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

لقد تعددت طرق التناول في الخطاب الإسلامي لدي كثير من المتحدثين الإسلاميين بين مغلق لأبواب الاجتهاد والبحث، ومنفتح انفتاحا غير مقنن، والحقيقة فإن تناول الخطاب الإسلامي الوسطي المعتدل الذي يؤكد على الثوابت الأصيلة وفي ذات الوقت لا يهمل متطلبات الواقع صار قضية حتمية النقاش والبيان وصار لازما على الأمة أن تصاغ لها المحددات الأساسية للخطاب الإسلامي الصائب بلا ميل أو شطط.

والخطاب الديني هو البيان الذي يوجه باسم الإسلام إلى الناس مسلمين وغير مسلمين لدعوتهم إلى الإسلام أو تعليمه لهم أو تربيتهم عليه عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، فكرا وسلوكا، لشرح موقف الإسلام من قضايا الحياة والإنسان والعالم فرديا أو اجتماعيا روحيا أو ماديا نظرية أو عملية

 

- توصيف المشكلة:

ليس في الإسلام أي نوع من نقص أو خلل بل لقد أتم الله الدين وأكمل علينا نعمته \" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا\"، ولكن النقص والخلل إنما يأتي من نوع تناول أو تعامل مع ذلك المنهج الرباني المتكامل.. فالمشكلة هنا هي مشكلة من يتعامل مع النص الشرعي ومن يتفهم الواقع الحقيقي ومن يسقط الدليل على الحادثة، وقد تكون المشكلة هي تعطيل التناول الاجتهادي ذاته في بعض الأـحيان أو جمود الطرق البحثية في الوصول إلى التصور الصائب..

والخطاب الديني هو البيان الذي يوجه باسم الإسلام إلى الناس مسلمين وغير مسلمين لدعوتهم إلى الإسلام أو تعليمه لهم أو تربيتهم عليه عقيدة وشريعة

 

- في كل عصر مجتهدوه:

ولقد حفل التاريخ الفقهي الإسلامي بعصور المجتهدين الذين أثروا الفكر الإسلامي وقعدوا القواعد المنهجية المتكاملة المتعاضدة وبينوا الثوابت واجتهدوا في المتغيرات بحسب القواعد المسموح بها، ولا يكاد عصر من العصور يخلو من مجتهدين أكفاء

ففي القرن الثامن الهجري ظهرت مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية التجديدية باجتهاداتها التي خالفت فيها بعض المألوف والمأثور في مسائل مختلفة..

وفي القرن نفسهº كان في المغرب الأندلسي: الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي صاحب (الموافقات).

وفي القرن التاسع ظهر في مصر الإمام السيوطي الذي كتب رسالته القيمة في الرد على من قيد الاجتهاد (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) وأثبت في كتابه هذا من وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد من العلماء، ومن خالفوا مذاهبهم في عدد من المسائل، وإن لم يعلنوا أنهم مجتهدون: وقال السيوطي: إن الناس يدعون اجتهادا واحدا، وأنا أدعي اجتهادات ثلاثة: اجتهاد في اللغة، واجتهاد في الحديث، واجتهاد في الفقه.

وفي القرن الثاني عشر ظهر في الهند ولي الدين الدهلوي ليجلي علوم الحديث، ويخفف من التعصب للمذهب الحنفي، وصنف جملة كتب في هذا الاتجاه، أهمها كتابه الفريد (حجة الله البالغة) في أسرار الحديث الشريعة.

وفي نفس العصر ظهر علامة اليمن محمد بن إسماعيل الأمير الشهير بـ (الصنعاني) صاحب (سبل السلام) وغيره

وفي القرن الثالث عشر ظهر علامة اليمن محمد ابن علي الشوكاني الذي ملأ الدنيا علما في الأصول والفروع، وترك وراءه آثار علمية تجديدية، تشير إليه، وتدل عليه، مثل: (نيل الأوطار) و (السيل الجرار) و(الدراري المضيئة) و (وإرشاد الفحول) في علم الأصول، و(فتح القدير) الجامع بين الرواية والدراية في التفسير، وغيرها. وكلها تنحو منحى الاجتهاد.

 

- من أين جاء الخلل؟

لقد جاء الخلل في تناول قواعد الخطاب الإسلامي عندما تصدى لتوصيفه طائفة مالت إلى أفكار خاصة بعضها اقترب إلى حد كبير من العلمانية وإن كان بعضهم قد اشتغل بوظائف التدريس الشرعي أو التعليم في بعض الجامعات في البلاد الإسلامية، وقد مال هؤلاء بالكلية ميلا نحو تهميش التناول في الخطاب الإسلامي ولم يتوقفوا عند ثوابته بل تعدوا عليها عبر باب الاجتهاد المزعوم بحسب رؤيتهم وكان مراد معظمهم من ذلك مسايرة العصر والانفتاح على الغرب وغيره، بل قد اتهم بعضهم بالرغبة في إذابة الروح القدسية للمشروع الإسلامي

فالمشكلة هنا هي مشكلة من يتعامل مع النص الشرعي ومن يتفهم الواقع الحقيقي ومن يسقط الدليل على الحادثة, ومن هؤلاء محمد أركون في بحثه نقد العقل الإسلامي، ولؤي صافي في كتابه تجديد الخطاب بإعمال العقل، وعبد المجيد الصغير في كتابه المعرفة والسلطة وإشكالية التأسيس الأصولي، وعبد الجواد ياسين في مؤلفه نقد العقل الفقهي السلفي، وطه عبد الرحمن في كتابه فلسفة الدين أو خطاب القول الإنشائي، وهشام جعيط في بحثه إشكالية العلاقة بين الإسلام والحداثة، وصاحب كتاب تأويل التراث في التوظيف الأيديولوجي، وأبو يعرب المرزوقي في كتابه النهضة المستحيلة، ولقد انحرف كثير من هؤلاء عن المسلك الصائب في تناول الثوابت الشرعية بوجهة نظر فلسفية لا نتفق معهم فيها، بل آل الحال ببعضهم إلى الشطط البالغ.

 

مقاربة منهجية:

وقد حاولت أن أعقد مقاربة منهجية بين نوعين من التناول التنظيري للخطاب الإسلامي لباحثين مهمين أحدهما هو تناول الدكتور يوسف القرضاوي الذي تناوله خلال كتابه (خطابنا الإسلامي في عصر العولمة) الذي قد أثار جدلا بين بعض الأوساط الإسلامية، والثاني هو تناول الدكتور عبد الوهاب المسيري الأكاديمي ومستشار المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن وصاحب موسوعة اليهودية الشهيرة.

ونحاول من خلال هذه المقاربة الوصول إلى تصور عام لموضوع البحث.. وأحب أن أشير هنا إلى أننا إذ نتناول هذه المقاربة لا يعني ذلك أننا نتفق اتفاقا كاملا مع أحد الرؤيتين المعروضتين، ولكننا لنا بعض الوقفات الهامة سنحاول بيانها أثناء العرض وبعده.

 

* * أولا: مدخل للرؤية:

يرى الدكتور القرضاوي أنه يجب الترحيب بتجديد الخطاب الديني، كما يجب أن يحذر من الأهداف الخبيثة من وراء بعض الدعوات إلى تغيير الخطاب، يقول في بداية بحثه: أننا نرحب بتجديد الخطاب الديني.. فكرة وأسلوبا، والمسلم ينشد الأحسن دائما ولكننا نحذر من خطورة التنادي المستمر بتغيير الخطاب الديني الإسلامي في هذا الوقت خاصة ولاسيما من أقلام مشبوه.. لا تبالى برضا الله أو سخطه ولكن يعنيها كل العناية أن يرضى السيد الأمريكي عنها.

أما مدخل الدكتور عبد الوهاب المسيري لبحثه فهو أن تجديد الخطاب الديني أمر مهم للغاية وأنه يعتمد على الاجتهاد وأنه متعدد وليس واحديا، يقول في بحثه: يميل بعضنا إلى تصوير الخطاب الإسلامي باعتباره خطابًا واحديًا، أي ذا بُعد واحد... والدين الإسلامي هو ولا شك عقيدة التوحيد، والخطاب الإسلامي إنما هو اجتهادات المسلمين داخل الزمان والمكان. ومن ثم فهو أيضًا- متعدد وكثير، وتاريخ المسلمين هو تعبير عن هذه الكثرة والتعددية.

 

ولقد حفل التاريخ الفقهي الإسلامي بعصور المجتهدين الذين أثروا الفكر الإسلامي وقعدوا القواعد المنهجية المتكاملة المتعاضدة وبينوا الثوابت واجتهدوا في المتغيرات

 

ثانيا: خطر التغيير

يقول القرضاوي: إن التغيير في هذا الوقت محفوف بخطرين الأول خطر الإذعان للضغوط المدججة بالسلاح والمال والثاني خطر تمكين الأفكار اللادينية لتروج فكرها المستورد تحت عنوان التجديد والتطوير وإنما هو التبديد والتخريب ولاشك أن حذر القرضاوي في مكانه إذ تحاول أقلام متكاثرة مأجورة في بعض الأحيان وموتورة في أحيان أخرى أن تدخل في الحوار حول مستقبل الخطاب الديني بتلك الإرادة الخبيثة التي تحدث عنها.

- هل يتغير الخطاب الديني من عصر إلى آخر؟

إن الدين في أصوله و كلياته العقائدية والتعبدية والأخلاقية والشرعية لا يتغير ولكن الذي قد يتجدد هو أسلوب تعليمه والدعوة إليه لا محتوى هذا التعليم.

يقول القرضاوي في ذلك: إذا كان المحققون من أئمة الدين وفقهائة قد قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال والفتوى تتعلق بأحكام الشرع فإن تغير الدعوى والخطاب أحق وأولى فما يقال للمسلمين غير ما يقال لغير المسلمين وما يقال للمسلم الحديث عهد بالإسلام غير ما يقال للمسلم الغير حديث عهد بالإسلام.... وما يقال للناس في قرية من قرى الخليج أو صعيد مصر أو ريف باكستان غير ما يقال للناس عبر قنوات الفضاء ويشاهده ويسمعه العالم، لا شك أن هناك أقدارا مشتركة تقال للجميع ويخاطب بها الجميع ولكن يبقى هنا خصوصية لكل فئة توجب على العالم والداعية أن يوجه لها خطابا خاصا يجيب عن تساؤلاتها ويحل مشكلاتها ويرد على شبهاتها..... يقول: وأقوى دليل على تغير الخطاب بتغير موجباته وتغير ملابساته هو القرآن ذاته فموضوعات القرآن المكي تختلف عن موضوعات القرآن المدني وأسلوبهما يختلف ومن الأدلة على تطوير الخطاب ما رواه أبو داوود والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة – رضي الله عنه- : (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها)... ولكن ما معنى التجديد المطلوب إن التجديد المطلوب لا يمس الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان من العقائد والعبادات وأصول الفضائل والرذائل والأحكام القطعية في ثبوتها ودلالاتها.... لا يمس الجديد هذه الثوابت إلا من جهة أسلوب عرضها أما غير الثوابت فهي التي يدخلها الاجتهاد والتجديد وهي معترك لإفهام أهل العلم الأصلاء ففيها مجال للاجتهاد الجزئي والكلي والاجتهاد المقيد والاجتهاد المطلق والاجتهاد الانتقائي والاجتهاد الإنشائي

أما المسيري فيرى أن هناك نوعين من الخطاب قد مرا بالساحة الإسلامية المعاصرة، خطاب قديم وخطاب حديث، وهو هنا يقسم النوعين طبقا لتعاملهما مع الحضارة الغربية:

يقول المسيري: هناك خطاب إسلامي ظهر مع دخول الاستعمار العالم الإسلامي، وحاول أن يقدم استجابة إسلامية لظاهرتي التحديث والاستعمار، وقد ظل هو الخطاب المهيمن حتى منتصف الستينيات، وهو ما نشير إليه بالخطاب الإسلامي القديم، وظهر خطاب آخر كان هامشيًا، ولكن معالمه بدأت تتضح تدريجيًا في منتصف الستينيات، وهو ما نشير إليه بالخطاب الإسلامي الجديد. ونقطة الاختلاف بين الخطابين هي الموقف من الحداثة الغربية.

فرؤية القرضاوي إذن تقوم على إمكانية تحديث الخطاب الديني من عصر إلى آخر بغير المساس بثوابته، أما رؤية المسيري فهي ارتباط هذا الخطاب بالحضارة الغربية.

وقد يرى الكثيرون نوعا من القصور في تصنيف المسيري للخطاب الديني حيث إنه من المعروف أن الخطاب الديني ظل محتفظا بكينونته لفترات طويلة وكان يحفظه للأمة علماؤها وأئمتها، نعم قد نتفق معه في كون البعض قد تأثر بالتماس بالحضارة الغربية كالشيخ محمد عبده وغيره إلا أنهم أيضا كما لاقوا بعض المستجيبين لهم من محبي التقليد للغرب - قد ووجهوا برفض واسع على مستوى النخبة المثقفة والمتعلمة من الأزاهرة والعلماء.

ويقسم المسيري الخطاب الإسلامي من حيث القائمين به إلى ثلاثة أصناف:

الخطاب الجماهيري الشعبي وهو خطاب القاعدة العريضة من الجماهير الإسلامية التي شعرت بفطرتها أن عمليات التحديث والعلمنة والعولمة لم يكن فيها خير ولا صلاح لها، هذه الجماهير تحاول التمسك والتشبث بالإسلام (فهي تعرفه جيدًا) إلى أن يأتي الله بالفرجº فهي تتحرك بموروثها الإسلامي، وتستغيث في الوقت نفسه من خلال هبَّات تلقائية غاضبة ضد أشكال التغريب المتطرف والغزو الاستعماري تارة، وتارة أخرى من خلال \"فعل الخير\" الفردي (إعطاء الصدقات) والاجتماعي (تأسيس مساجد ومستشفيات ومدارس وموائد الرحمن…إلخ).

والخطاب السياسي وهو خطاب بعض أعضاء الطبقة المتوسطة من المهنيين والأكاديميين وطلبة الجامعات والتجار ممن شعروا أيضًا- بالحاجة إلى عمل إسلامي يحمي هذه الأمة. وقد رأوا أن العمل السياسي هو السبيل إلى هذا، فقاموا بتنظيم أنفسهم على هيئة تنظيمات سياسية لا تلجأ للعنف،

والخطاب الفكري وهو الخطاب الذي يتعامل أساسًا مع الجانب التنظيري الفكري داخل الحركة الإسلامية.

يقول الدكتور المسيري: وهذا التقسيم لا يعني انفصال مستويات الخطاب الثلاثةº فالخطاب الجماهيري والسياسي متداخلان، وقل الشيء نفسه عن الخطابين السياسي والفكري، ورغم انفصال الخطاب الجماهيري عن الخطاب الفكري إلا أن تداخلاً يحدث بينهما من خلال الخطاب السياسي وهكذا..

 

ثالثا: سمات الخطاب الإسلامي:

* * رؤية الدكتور المسيري لسمات الخطاب الإسلامي:

الموقف من الحداثة الغربية هو نقطة الانطلاق الأساسية التي تتفرع عنها كل السمات الأخرى عند الدكتور عبد الوهاب المسيري، و التي يمكن أن نوجزها فيما يلي: (أنه يراه ليس اعتذاريا ومع هذا لا يرفض حملتة الغرب بشكل قاطع ولا يصورونه باعتباره مصدرًا لكل الشرور، ما يرفضه الخطاب الإسلامي في واقع الأمر هو المركزية والعالمية التي يضفيها الغرب على نفسه.

كما يرفض الخطاب الإسلامي الإمبريالية الغربية وعمليات النهب والقمع التي قام بها في الماضي والتي تأخذ أشكالاً جديدة في الحاضر لا تقل ضراوة عن سابقتها، وهو يرفض الجوانب السلبية في الحداثة الغربية ويدرك أزمتها تمام الإدراك.

وهو خطاب جذري توليدي استكشافي فهو يبدأ من نقد جذري للحضارة الغربية الحديثة، ويحاول اكتشاف معالم المنظومة الغربية الحديثة باختصار شديد: الخطاب الجديد انطلاقًا من أرضية إسلامية- يفتح باب الاجتهاد بالنسبة للمنظومة الغربية والموروث الثقافي الإسلامي.

وهو خطاب يصدر عن رؤية معرفية شاملة ويتسم بأنه بالضرورة خطاب شامل، فهو على المستوى الجماهيري يطرح شعار (الإسلام هو الحل)، ولكن على المستوى الفلسفي يطرح شعار (الإسلام هو رؤية للكون)، وهو يتعامل مع كل من اليومي والمباشر والسياسي والكلي والنهائيº أي أن الخطاب الإسلامي الجديد يصدر عن رؤية معرفية شاملة يولد منها منظومات فرعية مختلفة: أخلاقية وسياسية واقتصادية وجمالية، فهو منظومة إسلامية شاملة تفكر في المعمار والزواج والاقتصاد وبناء المدن والقانون وفي كيفية التحلي والتفكير، وفي توليد مقولات تحليلية مستقلة، ولذا فالخطاب الإسلامي الجديد لا يقدم خطابًا للمسلمين فحسب وإنما لكل الناس، حلاً لمشاكل العالم الحديث، تمامًا مثلما كان الخطاب الإسلامي أيام الرسول - عليه الصلاة والسلام -

وهو خطاب قادر على الاستفادة من الحضارة الغربية، فمقولات مثل: العدل الطبقي، وضرورة التوزيع العادل للثروة، وقضية المرأة، وأثر البيئة على تشكيل شخصية الإنسان: هي قضايا كانت مطروحة داخل المنظومة الإسلامية، ولكن حساسية الخطاب الجديد وإدراكه المتعمق لها ازداد من خلال احتكاكه بالحداثة الغربية.

كما أن حملة الخطاب لا مانع عندهم من الاستفادة بهذه الحداثة في اكتشاف آليات الحلول أو حتى الحلول ذاتها، طالما أنها لا تتناقض مع النموذج الإسلامي.، وهو كذلك خطاب يحرص على أسلمة المعرفة الإنسانية:

إذ يدرك الخطاب الإسلامي أن العلوم الإنسانية ليست علومًا دقيقة عالمية محايدة (كما يدعي البعض)، وأنها تحتوي على تحيّزات إنسانية عديدة تختلف بشكل جوهري عن العلوم الطبيعية.

ولذا فالخطاب الإسلامي يحاول أن يؤسس علومًا إنسانية لا تستبعد الإنسان، ومن ثم فهي مختلفة في منطلقاتها وطموحاتها ومعاييرها عن العلوم الطبيعية، ولا نزعم أنها محايدة منفصلة عن القيمة، بل تعبّر عن المنظومة القيمية الإسلامية (وهذه هي إسلامية المعرفة).

وهو كذلك خطاب يميز بين إنجازات الغرب وبين رؤيته القيمية، فمثلاً: في حالة انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيمة في الغرب يحاول الخطاب الإسلامي الاستفادة من العلم والتكنولوجيا وكل ثمرات الحضارة الغربية النافعة دون أن يتبنى رؤيتها للكون والقيم، بحيث يمكن مزاوجة الرؤية العلمية الحيادية والمنظومة القيمية الإسلامية.

وهو خطاب يعمل على تأسيس رؤية إسلامية مستقلة في التنمية، فهو مدرك تمامًا لمشكلة البيئة ولعل من أهم القضايا التي تشغل الخطاب الجديد هي نظرية التنمية، فالخطاب الجديد يرى أن نظريات التنمية الإسلامية لا بد أن تكون مختلفة جذريًا عن نظريات التنمية الغربية التي تروج لها المنظمات التي يقال لها دولية، والتي أثبتت فشلها في الممارسة، والتي أدت إلى الأزمة البيئية.

و الخطاب الإسلامي يدرك القضية الفلسفية الأساسية في العالم الحديث، وهي قضية النسبية المعرفية التي تؤدي إلى العدمية، وهو يطرح في مقابلها ما أسماه (النسبية الإسلامية)

ويؤمن كذلك بالحركة والتدافع كأساس للحياة: وأن العالم ليس في حالة جمود وإنما هو في حالة حركة، والتدافع ليس بالضرورة الصراع، حتى إن أخذ هذا الشكل أحيانًا، وثمة إيمان -أيضًا- بفكرة التداول، و قبول التعايش مع الآخر واكتشاف الرقعة المشتركة معه، ومن هنا ظهر فقه الأقليات الحديث، سواء الأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية أو الأقليات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة، وهذا الفقه يصدر عن مفاهيم العدل والمساواة في الإسلام. في إطار الأحكام الشرعية المقبولة.

وهو خطاب قادر على الرؤية المتكاملة للشريعة وإنزالها على الواقع المعاصر:: فالخطاب الإسلامي في المجتمعات الإسلامية التقليدية هو الشريعة. فالشريعة لا تزال هي الخطاب الإسلامي القديم والجديد، ولكن الخطاب الجديد يحاول أن يحل ما خفي من هذا المصطلح، بحيث يمكن استخلاص الحكمة الكامنة فيه وإنزالها إلى الواقع المعاصر، ومثل هذا الاجتهاد سيساعدنا على زيادة المقدرة التوليدية للمنظومة الفقهية، كما سيساعد المسلمين على ترسيخ أقدامهم على أرضيتهم العقائدية.

وهو خطاب قادر على صياغة نموذج معرفي إسلامي والاحتكام إليه: هذا النموذج يأخذ شكل هرم على قمته شهادة أن لا إله إلا الله، تليها القيم الأساسية، ثم تأتي بعد ذلك الأحكام الجزئية المختلفة، ومن ثم يمكن توسيع نطاق الاجتهاد دون خوف كبير من الزللº إذ أن الاجتهاد سيتم في إطار النموذج المعرفي الهرمي الذي تم استخلاصه (عبر الاجتهادات المستمرة) من القرآن والسنة، وهذا النموذج سيكون هو وحده المعيار الذي يتم من خلاله إصدار الأحكام)

- هذا هو اختصار تقريبي لرؤية الدكتور المسيري لسمات الخطاب الإسلامي الحديث

* * ولنا مع تلك الرؤية عدة وقفات مختصرة هي:

1- أنه قد صاغ تلك الرؤية للخطاب الإسلامي بصورة تنظيرية هي أقرب للفلسفية وهي تحتاج إلى حد كبير إلى تطبيق مفرداتها واقعيا قبل القبول

2- أن تلك الرؤية افتقرت إلى تحديد الثوابت والمتغيرات في الخطاب الإسلامي وربما يعزى ذلك لعدم تخصص الدكتور المسيري في شئون الشريعة الإسلامية بصورة أكاديمية

3- أنها لم تحل الإشكالية بين الثوابت والمتغيرات في ممارسة السياسة الشرعية بصورة مقننة مقبولة

4- أنها استخدمت مصطلحات فضفاضة كالنسبية الإسلامية وفكرة التناوب وغيرها مما يلزمه تحديد دقيق لئلا يساء فهمه ومن ثم تطبيقه ويمنع التداخل في المفاهيم

5- تواجه رؤية المسيري بانتقاد حاد من قبل العلماء الشرعيين الذين يريدون منهجا واضحا في الاستمساك بالثوابت ويقبلون التحديث على مستوى الوسائل والأساليب وهي الرؤية الأمثل التي يميل إليها الكثيرون وهي مفتقرة في عرض الدكتور المسيري حتى الآن

 

* * رؤية الدكتور القرضاوي لسمات الخطاب الإسلامي:

تعتمد رؤية القرضاوى للخطاب الدينى على مفهوم الوسطية التي جعلها المحور الأساسي لسمات الخطاب الإسلامي من وجهة نظره فهو يقول: إن خصائص هذا الخطاب: انه، (يؤمن بالله ولا يكفر بالإنسان فهو يحرص على العقيدة وأيضا يراعي فطرة الإنسان وغرائزه ويعمل على تصريفها في الحلال ويشرع الاستمتاع بالزينة والطيبات في غير إسراف ولا اعتداء ويرعى كرامة الإنسان حيا وميتا ويرعى حرمة دمه وماله وعرضه ويحرم الظلم والتفرقة العنصرية بين الناس على أي أساس غير التقوى.

كذلك فإن هذا الخطاب يؤمن بالوحي ولا يغيب العقل، فالإسلام يحترم العقل لأننا به نفهم خطاب الله ورسوله وبه نعرف الكون والحياة

كذلك فهو خطاب يدعو إلى الروحانية ولا يهمل المادية، ذلك أن الإنسان كائن مزدوج فالجانب الروحي يشمل الإيمان والعبادة والتقوى وفعل الخيرات والجانب المادي يشمل عمارة الدنيا بالمباح والتمتع بالمال المباح والاستمتاع بالطيبات

وهو خطاب يعني بالعبادات الشعائرية ولا يغفل القيم الأخلاقية، فمنظومة الأخلاق الإسلامية منظومة شاملة كاملة والإسلام لا يقبل الفلسفة القائلة أن الغاية تبرر الوسيلة ومثل المسلمين في أخلاقهم هو نبيهم - صلى الله عليه وسلم -

وهو خطاب يدعو إلى الاعتزاز بالعقيدة كما يدعو إلى التسامح والحب فالمسلم لا يساوم على دينه ولا يتهاون فيه بحال ولا يبيعه بمثل الدنيا وما فيها ويصبر عليه حتى يلقى ربه، وهو يدعو إلى التسامح مع المخالفين ويدعوهم إلى الإسلام ويبذل وسعه في الدعوة إلى الإسلام

وهو خطاب يغري بالمثال ولا يتجاهل الواقع فالإسلام ينشد الفرد المثالي ولكنه يعترف بقدرة الإنسان وضعفه وإمكانية وقوعه في الخطأ

وهو خطاب يدعو إلى الجد ولا ينسى الترويح، فالمسلم لابد له في أحيان أن يستريح إذا تعب ويسعد إذا مل وهو خطاب يحرص على المعاصرة ويتمسك بالأصالة فلا يتقوقع على الماضي وحده ولا يعيش في الكتب القديمة وحدها ولكن الحياة تتطور فهو ابن زمانه ومكانه وبيئته وهذا التجديد لا يعني التنكر للقديم وهذه المرونة لا تعني التنكر للثوابت ولكن هناك ثباتا للأهداف وتطورا للوسائل

وهو خطاب يتبنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوى، وهو يرجح التيسير على التعسير في الفقه لأن الشريعة مبناها على اليسر ولأن الناس في عصرنا أحوج ما يكونوا إلى اليسر، وهو خطاب ينصف المرآة ولا يجور على الرجل ويثبت حقوق الأكثرية ولا يجور على الأقلية.. )

** تلك أهم السمات التي ذكرها الدكتور القرضاوي في بحثه حول الخطاب الإسلامي، ولنا عليها بعض الوقفات:

1- هناك اتفاق على الأسس العامة والعناوين الكبيرة التي ذكرها الشيخ القرضاوي إلا أن جدلا واسعا ينشأ عند الاسترسال في التطبيق وفي قراءة النماذج التي قدمها، من مثال ما ذكره في بحثه من استبدال كلمة \" الكفار \" بكلمة غير المسلمين، واستبدال لفظة أهل الذمة بلفظة المواطنين واستنكاره على من يدعو على اليهود وغيرها مما قد خالفه فيها كثير من العلماء.

2- أن رفع لواء التيسير واليسر في الشريعة والديانة أمر مهم وعصري مناسب إلا أن دعوى التيسير في الخطاب الإسلامي قد التصقت باختيارات فقهية قد تكون مرجوحة عند جماهير العلماء في أحيان كثيرة

3- أن الدعوة إلى الوحدة والتعاون أمر محمود ولاشك إلا أن هناك خلافا بين الشيخ وبين كثير من العلماء في ما يتعلق بالتقارب والتسامح مع بعض المذاهب التي يراها كثيرون أنها هدامة وطائفية كالطائفة الشيعية الإنثى عشرية الجعفرية التي تسب الصحابة رضوان الله عليهم.

 

رابعا: الخطاب الإسلامي والاجتهاد:

وفي نهاية هذا العرض نحاول الوقوف على مفهوم الاجتهاد في الخطاب الإسلامي في عصرنا من خلال رؤية العلماء:

فمن خصائص خطابنا الإسلامي في عصرنا هذا: أنه ينادى بالاجتهاد في فهم الشريعة: جزئيا وكليا، انتقائيا وإنشائيا، بوصفه طريقا شرعه الإسلام لاستنباط الأحكام من النصوص، ومما لا نص فيه، ولا يقيم حربا بين نصوص الشريعة ومقاصدها، بل يفهم النصوص الجزئية في إطار المقاصد الكلية.

ما يهمنا أن يفتح باب الاجتهاد لأهله في محله، فلا يدخل هذا الباب إلا من كان أهلا له، ومن يملك الشروط التي اتفق عليها العلماء للمجتهدين، الخطر يكمن، حين يدخل الاجتهاد من ليس أهله، أو يكون الاجتهاد في غير محله.

إن الدخلاء على العلم الشرعي هم الذين يفسدون حيث يزعمون أنهم يصلحون، ويهدمون من حيث يعلنون أنهم يشيدون.

ويجب أن نذكر أن الاجتهاد كما عرفه الأصليون. هو استفراغ الفقيه وسعه في نيل الأحكام الشرعية بطريق الاستنباط، فلا اجتهاد إلا بعد بذل أقصى الجهد في تتبع الأدلة، والبحث عنها في مظانها، وبيان منزلتها من القوة والضعف، والموازنة بينها إذا تعارضت، بالاستفادة مما وضعه أهل الأصول من قواعد التعادل والترجيح.

كما يجب أن نذكر أن مجال الاجتهاد هو الأحكام الظنية الدليل، أما ما كان دليله قطعيا فلا سبيل إلى الاجتهاد فيه، فلا يجوز إذن فتح باب الاجتهاد في حكم ثبت بدلالة القرآن القاطعة، مثل فرضية الصوم على الأمة، أو تحريم الخمر، أو لحم الخنزير، أو أكل الربا، أو القصاص من القاتل المتعمد، أو توريث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين.. ونحو ذلك من أحكام القرآن والسنة اليقينية، التي اجتمعت عليها الأمة، وأصبحت معلومة من الدين بالضرورة، وصارت في عماد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة.

كما ينبغي أن نحذر من الوقوع تحت ضغط الواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة فليس معنى الاجتهاد أن نحاول تبرير هذا الواقع على ما به، وجر النصوص لتأييده، وافتعال الفتاوى لإضفاء الشرعية على وجوده، إن الواجب أن يخضع الواقع للشرع، لا أن يخضع الشرع للواقع، لأن الشرع يمثل كلمة الله، وكلمة الله هي العليا.

كما ينبغي في القضايا الجديدة الكبيرة ألا نكتفي بالاجتهاد الفردي، وان ننتقل من الاجتهاد الفردي إلى الاجتهاد الجماعي، الذي يتشاور فيه أهل العلم في القضايا المطروحة، وخصوصا فيما يكون له طابع العموم، ويهم جمهور الناس.

فرأي ا لجماعة اقرب إلى الصواب من رأى الفرد، هذا الاجتهاد الجماعي يتمثل في صورة مجمعات علمية إسلامية عالمية تضم العلماء

 

------------------------------------------------

أهم المراجع:

1- بحث منشور للأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري بعنوان (معالم الخطاب الإسلامي الجديد)

2- كتاب (خطابنا الإسلامي في عصر العولمة) للدكتور القرضاوي

3- كتاب (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) الدكتور القرضاوي

4- مذكرة أصول الفقه للشنقيطي

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply