المؤسسات المصرفية الإسلامية بين التحديات والطموحات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تحقيق: تمام أحمد ـ د·عماد الدين عثمان

 

أشارت دراسة اقتصادية نشرت أخيراً إلى أنَّ هناك نحو 300 مؤسسة مالية تمارس نشاطها طبقاً للشريعة الإسلامية وبحجم أموال يصل إلى 200 مليار دولار موزعة على أكثر من 50 بلداً في العالم، الأمر الذي جعل منها علامة كبيرة في النظام المصرفي العالمي مع أن عمرها لا يتجاوز ثلاثة عقود··· حول التحديات التي تواجهها هذه المؤسسات والطموحات التي تسعى لتحقيقها، ومدى حاجتها لمرجعية للفتوى في المجال الاقتصادي كان هذا التحقيق مع عدد من المختصين والمهتمين بهذا الأمر···

 

حول الضغوط التي تمارس على المؤسسات المالية الإسلامية وكيف يمكن مواجهتها أجاب المشاركون بما يلي:

 

الحذر من الوقوع في الربا

د·أحمد الحجي الكردي ـ الخبير في الموسوعة الفقهية ـ الكويت:

ـ البنوك الإسلامية نبتة جديدة يافعة ويانعة في أرض موحلة شديدة التعقيد، وذلك لعموم الربا المحموم جميع المؤسسات المالية في العالم، ومن هنا كانت المعاناة الكبيرة التي تعيشها البنوك الإسلامية من قبل المؤسسات المالية الربوية لإفشالها وتفليسها، والتخلص منها وسحب البساط من تحتها للتفرد بالمسلمين وأموالهم والعبث بها، ولهذا فإن على البنوك الإسلامية أن تتذرع بالحذر الشديد من هذا الخطر، ومن خطر أشد آخر وهو خطر الانزلاق في هاوية الربا المحرم تحت ستار مقاومة ضغوط البنوك الربوية وذلك بمزيد من الثبات على مبدأ الابتعاد عن الربا مطلقاً مهما كانت المغريات والذرائع إليه·

ويقول الشيخ عز الدين التوني - يرحمه الله - الخبير في الموسوعة الفقهية في الكويت وعضو هيئة الفتوى في وزارة الأوقاف:

 

من أهم أسباب الضغوط على البنوك الإسلامية سببان هما:

أولاً: الترويج والدعاية للبنوك الربوية

كان من أثر الصحوة الإسلامية أن نشط المسلمون الحريصون على دينهم وعلى تنقية أموال المسلمين من وباء الربا أن قدمت البحوث المستفيضة في هذا المجال حتى صدرت فتاوى المجامع الفقهية ومنها فتوى المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية الذي عقد بالقاهرة 1385هـ ـ 1965م التي تؤكد أن الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين القرض الاستهلاكي والقرض الإنتاجي، كما أن الفائدة على الأموال المودعة في هذه البنوك حرام لأنها لا تقوم على أساس المضاربة الإسلامية المشروعة·

ولتلافي ذلك والعودة إلى استثمار أموال المسلمين على أساس اقتصاد إسلامي صحيح، كان من الناحية العملية إنشاء مؤسسات إسلامية مثل: <بيت التمويل الكويتي>، و<بنك فيصل الإسلامي> وغيرها في البلاد الإسلامية·

وأقبل المسلمون على إيداع أموالهم في هذه البنوك الإسلامية، مما كان له الأثر على البنوك الربوية التي قلَّ الإيداع فيها·

لهذا قامت الحملات الضارية ضد المصارف الإسلامية وتزعمت الصحف هذه الحملات وأخذوا يتصيدون بعض الأخطاء التي وقعت فيها البنوك الإسلامية ويضيفون إليها من عندهم حتى يشوهوا صورة هذا العمل الإسلامي أمام عامة الناس حتى يصدوهم عن الإيداع فيها·

وقد ساعدهم على ذلك ـ للأسف الشديد ـ بعض علماء المسلمين ممن يعتبرهم عامة الناس قادة لهم·

ثانياً: الكره لكل عمل إسلامي

كان من أثر الغزو الثقافي الغربي ـ الذي يعمل على هدم الإسلام وتقويض أركانه ـ تأثر بعض المسلمين بهذه الثقافة، وكان بلاء المسلمين من داخل أنفسهم بتبني بعضهم أفكار الغرب العلمانية التي تريد إبعاد الدين عن الحياة·

لهذا لما قامت المؤسسات الاقتصادية الإسلامية ضاقوا بها كما يضيقون بكل ما هو إسلامي، فأخذوا يكيدون لهذه المؤسسات ويلصقون بها كل نقيصة، وشاركوا في الحملة ضد هذه المؤسسات الإسلامية ونددوا بهيئات الفتوى التي تؤيد مثل هذه الأعمال·

 

الابتعاد عن الشبهات

أما مواجهة ذلك فيكون بالتالي:

1 ـ أن تحاول هذه المؤسسات تلافي ما يسيء إلى سمعتها وذلك بتصحيح معاملاتها وتنقيتها من كل ما يشوبها، مستفيدة في ذلك بكل نقد صحيح يوجه إليها·

2 ـ تطوير العلم في هذه المؤسسات حتى تساير كل جديد في هذا المجال·

3 ـ عمل الدعاية اللازمة في وسائل الإعلام موضحة فيها مميزات التعامل مع هذه المؤسسات والفرق بينها وبين البنوك الربوية·

 

فقه عملي لا نظري

أما الشيخ عبد الله نجيب سالم فيقول حول هذا الموضوع:

البنوك الإسلامية ظاهرة معاصرة لم يسبق لها في التاريخ الإسلامي مثيل من قبل وهي كما يرى المراقب المتأمل تنتشر انتشاراً سريعاً يفوق كل توقع حتى أصبح كثير من البنوك الربوية تبحث عن أسلوب تستطيع به إدخال بعض مبادئ النظام المالي الإسلامي إلى أساليبها، أو استحداث فروع إسلامية فيها وذلك في محاولة لاستقطاب أصحاب الأموال من المسلمين الملتزمين·

وترجع ظاهرة البنوك الإسلامية إلى عاملين اثنين:

أولهما: النهضة الإسلامية العارمة التي يشهدها العالم حديثاً والمتمثلة في التفات المسلمين إلى كنوز دينهم وقواعد حضارتهم ليعودوا إليها فيحفظوا بذلك كيانهم ووجودهم في عالم طغت عليه الحضارة الغربية بكل مقوماتها وخصائصها وسعت فيه بكل شراسة لابتلاعهم وتذويبهم·

وثانيهما: نجاح تجربة تلك البنوك على المستويين المحلي والدولي وانتقالها من مرحلة التجريب والاختيار إلى مرحلة التطوير والاتساع في عالم مالي معقد العلاقات سريع التغيير واسع الإمكانات·

ولكن انتشار البنوك الإسلامية الربوية لم يسلم من عقبات أو معوقات، بل وضغوط متعمدة ومقصودة تهدف إلى الحد من توسع تلك البنوك أو خنقها وإفشالها·

وهذه الضغوط التي تشهدها ظاهرة بارزة أو خفية مستترة ومباشرة أو غير مباشرة يمكن إرجاع أسبابها إلى ما يلي:

1 ـ كثير من تلك الضغوط التي تمارس ضد البنوك الإسلامية مدفوع بالحقد على الإسلام وأهله، والحقد على الإسلام ومحاربة المسلمين في مؤسساتهم وأسلوب حياتهم سمة بارزة في العصر الحديث، تتمثل في تشويه ما هو مستمد من الإسلام ومرتبط به فكراً وسلوكاً وعملاً وممارسة وذلك بإلصاق تهمة التأخر أو الجمود أو القِدم، أو صفة الرجعة أو الإرهاب أو تهديد المكتسبات الحضارية المعاصرة وهذا الحقد والافتراء هو الوجه الجديد للحقد الصليبي اليهودي على الإسلام·

وقد أشار الله - سبحانه - إلى ذلك الحقد بقوله: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)·

وبعض تلك الضغوط راجع إلى طبيعة المنافسة والصراع ومبدأ سيطرة القوي على الضعيف الذي هو صفة واضحة من صفات الحضارة المعاصرة: غربية كانت أم شرقية أوروبية أميركية أم يابانية كورية··· إلى آخر ما هناك من تكتلات وقوى اقتصادية عالمية تحاول كل منها جاهدة التفرد بالسوق المالي العالمي في مجال استقطاب الأموال أو استثمارها أو التحكم فيها مما ينعكس حتماً بالسلب على السوق المحلي الناشئ··· بما في ذلك البنوك الإسلامية·

إن البنوك الإسلامية بنوك حديثة ناشئة، وهي في معظمها بنوك صغيرة محلية أو إقليمية إذا قورنت بالبنوك الكبيرة العالمية وفي رأيي أن انفتاح التجارة العالمية وحرية حركة رؤوس الأموال بين الدول والكتل الاقتصادية قد جعل البنوك الإسلامية تقف في مواجهة عمالقة المال وفراعنته وأسياده العالميين مما يحملها مسؤوليات جسيمة خطيرة تجاه أموال المودعين والمستثمرين فيها·

إن العالم الذي نعيش فيه يتبع سياسة البقاء للأقوى··· والأقوى هنا ليس هو الأصح أو الأصوب دائماً، بل الأقوى في المفهوم المادي هو الأكثر قوة على الصمود في مواجهة التقلبات المالية والدعايات الإعلامية والإشاعات المغرضة والمضاربات التجارية·

3 ـ ومن تلك الضغوط الموجهة إلى البنوك الإسلامية ما ترجع أسبابه إلى صراعات داخل المجتمع المحلي لأن من الواضح أنه منذ بدأت تلك البنوك ونشطت واتسعت عطلت مصالح بعض القوى الاقتصادية المحلية حتى أصبح بعضها يخشى على أصل وجوده في السوق واستمراره به·

4 ـ ومن تلك الضغوط الموجهة إلى البنوك الإسلامية ما يمكن أن ترجع أسبابه إلى عدم تفهم بعض المسلمين لطبيعة أعمال البنوك الإسلامية وعدم إدراكهم لحساسية وضعها وحداثة نشأتها وكثرة المتربصين بها مما يدفعها إلى التشدد أحياناً أو الاحتياط أحياناً أخرى، أو إلى بطء إجراءات التعامل وعدم إجادتها أحياناً·

إن البنوك الإسلامية تعيش الفقه العملي لا الفقه النظري، وتحتاج إلى خبرات وكفاءات عالية لتقديم أحسن الخدمات، وما توفير ذلك بسهل، وهي مطالبة من المتعاملين معها وجلهم مضاربون شركاء بتحقيق أفضل العوائد في مواجهة أعرق بيوت المال العالمية والمحلية·

هذه أهم أسباب الضغوط التي تمارس على البنوك الإسلامية···!!

أما مواجهتها فينبغي أن تتم من خلال خطة متكاملة بعيدة المدى تدرك الواقع المرير والآمال الواسعة المعقودة على هذه البنوك ونجنبها في الوقت نفسه المحاذير والمطبات التي تقع فيها أحياناً لسبب أو لآخر·

ويمكن أن نسرد بعض النقاط التي تساعد في مواجهة تلك الضغوط وتخفف من وطأتها·

1 ـ استخدام الإعلام المركز والهادف إلى شرح مبادئ عمل البنوك الإسلامية وتوضيح ارتباطها بالعقيدة الإسلامية في عالم جعل العقائد الفاسدة أساس الحياة المادية وسخر من أجل ذلك الأبواق الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة بشكل رهيب··· فعلى البنوك الإسلامية ألا تدخر وسعاً، بل يجب عليها وجوباً مؤكداً أن تتعامل بجدية واهتمام أكبر مع وسيلة ترويج الفكرة ودعمها وإبراز محاسنها وإثارة تعاطف الجمهور معها مهما كانت تلك الفكرة صغيرة أو صحيحة أو ثانوية، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بأصل مبدأ الاقتصاد الإسلامي ومؤسساتها ورموزه·

إن الإعلام سلاح وأي سلاح واستخدامه بمهارة يحتاج إلى كفاءات إعلامية متمرسة وإمكانات مادية مفتوحة مع ديمومة واستمرار وصبر·

2 ـ البحث في الفقه الإسلامي عن حلول أصيلة مرنة لصور المعاملات جديدة متشعبة، وإذا كان الأصل في العبادات المنع حتى يرد الدليل بالحل والأمر، فإن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يرد الدليل على التحريم···· والأدلة في مجال المنع أو التحريم إن تكن نصية واضحة أو إجماعية قطعية فالأولى بنا أن نرجح الجانب الأيسر والعمل بالقول الأسهل أو الأنسب··· إننا نكون في حل من التقيد بنص في مذهب معين أو قول إمام ولو جليل، إن ظهرت لنا مصلحة في مخالفته التي لا يترتب عليها اصطدام بنصوص قرآنية أو حديثية أو إجماع للأمة قطعي·

ومما لا شك فيه أن تطبيق هذا ليس بالأمر السهل ولا هو بالمتروك لضعاف العلم والإيمان العميق أو أصحاب الشهوات المالية والتجارية، بل ينبغي أن يكون تحت إشراف طائفة من أهل العلم الراسخ والوعي النير والإيمان العميق·

3 ـ أما في المجال العالمي، فإن على البنوك الإسلامية أن تلجأ إلى التكتل فيما بينها والتضامن مع بعضها بعضاً لمواجهة ضغوط بيوت المال العالمية المتربصة ولتفتيت الخسائر الكبرى بالاشتراك في تحملها في حالات معينة ولرفع الوتيرة الإعلامية التي تروج لفكرة البنوك الإسلامية التي تحارب الربا والاستغلال وإثارة المشتري بالباطل وتعتمد على المضاربة وغيرها مما أباحه الشرع لمصلحة المجتمع·

 

مرجعية للفتوى في الاقتصاد الإسلامي

وحول مدى الحاجة إلى وجود مرجعية للفتوى في مجال الاقتصاد الإسلامي وكيف السبيل للوصول إلى هذه المرجعية قال الدكتور أحمد الحجي الكردي:

ـ أمور الاقتصاد بالغة التعقيد ولابد لوضعها على منهج إسلامي سديد من مرجعية شرعية تسددها وترشدها إلى الطريق الإسلامي القويم، وأن تكون هذه المرجعية واحدة للأسباب التالية:

أ ـ عموم الجهل بالأحكام الشرعية قطاعاً كبيراً ممن تسلقوا سلم الفتوى وأصبح لهم مكانة مرموقة في المجتمع لأسباب مختلفة، مما نتج عنه ظهور فتاوى خاطئة ومتساهلة وأوقعت المسلمين في الحرام·

ب ـ دقة هذه الأحكام وتشعبها وتعدد المذاهب الاجتهادية فيها مما قد يثير البلبلة والتشويش ويوقع المستثمرين في الارتباك والتشكك في أمر الحلال والحرام·

والطريق الأمثل للوصول إلى هذه المرجعية ما يلي:

1 ـ تفعيل دور المجامع الفقهية القائمة الآن، ونشر كل ما يصدر عنها من قرارات وتوصيات وبحوث، وهو عامل مهم في تقريب وجهات نظر العلماء واجتهاداتهم·

2 ـ إنشاء لجان للفتوى في الأقطار الإسلامية من العلماء العاملين المتخصصين المأمومنين في دينهم وأخلاقهم، وإسناد الرقابة لهم على هذه المؤسسات الاقتصادية في هذه الأقطار على أن ترجع إليها كل المؤسسات ولجانها الفقهية، ويكون القول الفصل عند الاختلاف إليها·

 

اجتهاد دقيق وكفاءة علمية

أما الشيخ عبد الله نجيب سالم فيقول:

أ ـ الفتوى والاستفتاء:

الفتوى كما يعرفها العلماء: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه، وهي فرض كفاية، إذ لابد للمسلمين ممن يبين لهم أحكام دينهم، والاستفتاء ممن لا يعلم الحكم الشرعي في المسألة الواقعة به واجب عليه، وذلك لوجوب العمل حسب حكم الشرع، قال الغزالي: العامي يجب عليه سؤال العلماء، لأن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام، وقال النووي: من نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، أي وجب عليه الاستفتاء عنها، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام·

 

ب ـ الاقتصاد الإسلامي:

الاقتصاد الإسلامي مصطلح حديث أطلق ـ في الأغلب ـ على ما يعرف لدى فقهاء المسلمين بقضايا ومسائل المعاملات المالية التي تضم البيوع والإجارة والرهن والكفالات والضمان وغيرها··· ومفهوم الاقتصاد عند علمائه هو كيفية تلبية الحاجات البشرية المتنوعة واللامحدودة بالموارد الطبيعية المحدودة وإيجاد أفضل السبل من أجل الوصول إلى رفع مستوى دخل الفرد·

وإنما نسب الاقتصاد إلى الإسلام لما هو معلوم أن الإسلام بأحكامه وتشريعاته وضوابطه وتوجيهاته قد غطى كل أنشطة الحياة الإنسانية بما فيها مجال الاقتصاد· فنظم أمور المجتمع الاقتصادية على أسس عقدية وأخلاقية وإنسانية متينة مثل التكافل والعدل وتكافؤ الفرص وحفظ الحقوق وتقديس العمل ومساواة البشر في حقوق الملكية وواجبات المال وغير ذلك من الأمور الكلية التي تعتبر قواعد في عالم اقتصاد أي مجتمع·

وفوق هذا، فقد فصَّل الإسلام كثيراً من الأحكام الخاصة بالمعاملات المالية كأحكام البيوع وما يحل منها وما يحرم، وأحكام الملكية والتملك والأسباب المشروعة فيها، وأحكام عقود المعاوضات والمبادلات وفصَّل كذلك مسائل الإنفاق والادخار، وواجبات الغني وحقوق الفقير، وأساليب القضاء على العوز والفقر المدقع، وكيفية الحد من جشع التجار وسيطرة أصحاب رؤوس الأموال الضخمة على مجريات الأمور في الحياة·

 

جـ ـ المرجعية في الفتوى:

ولما كان الاستفتاء والبحث عن الحلال ـ لفعله ـ ومعرفة الحرام ـ لاجتنابه ـ من واجبات المسلم في الحياة، حتى لا يدخل جوفه حرام ولا يختلط ماله بخبيث من الكسب·

ولما كان الاقتصاد قوام الحياة في كل عصر وقد توسعت مداخلاته في هذا الزمان على وجه الخصوص في كل جزئية من جزئيات الحياة، واعتبر التقدم فيه مقياس رقي الأمم وقوتها·

لما كان هذا وذاك، فإن من الضروري للمسلم أن يبحث عن جهة شرعية تمثل بالنسبة له المرجع المأمون والكفء لتوجيه دفة حياته في مسارها الاقتصادي·

إن وجود المرجعية في قضايا الاقتصاد الإسلامي أصبحت اليوم أشد حاجة وإلزاماً من أي وقت مضى للاعتبارات التالية:

1 ـ إن البت في حِلِّ أو حرمة كثير من المسائل الاقتصادية يحتاج إلى اجتهاد دقيق وكفاءة عالية نظراً للتغييرات التي طرأت على بعض صور العقود القديمة، ففي الوقت الحالي تعقدت كثير من المسائل البسيطة واستحدثت كثير من الصور الغريبة غير المعهودة قديماً، وبالتالي فإن الفتوى اليوم ينبغي أن تكون مناسبة للحال··· والبت في مثل هذه الأمور لا يتقنه إلا العلماء الأكفاء الراسخون·

2 ـ مما حفلت به الحياة المعاصرة تلك النظريات والأفكار المستوردة التي دخلت في دقائق الحياة محملة بالمنظور الغربي المادي أو الوثني، وقد لبست ثوباً من الدعاية والإغراء ما يجعل كثيراً من شباب الإسلام وأهله يندفع وراءها دون وعي أو إدراك لمخاطرها من جهة، وللبديل الإسلامي الأفضل من جهة أخرى··· فوجود المرجعية الإسلامية في الاقتصاد الإسلامي يكشف زيف تلك النظريات ويقدم البديل·

3 ـ إن العصر الحديث يشهد صحوة إسلامية أو نهضة إسلامية كبيرة، وهذه النهضة المعاصرة إن لم تقدم لها الحلول المناسبة لحياتها الاقتصادية أصيبت بالإحباط والارتكاس في هذا المجال، مما يعود على أصل فكرة صلاحية الشريعة لهذا الزمان وكل زمان بالنقض والهدم·

4 ـ إن العصر الحديث يشهد ظهور وولادة مؤسسات مالية ضخمة تريد أن تشق طريقها في الحياة مع التزام بالأحكام الشرعية في معاملاتها مع الأفراد أو المؤسسات الأخرى، وهذه المؤسسات والشركات الضخمة لم تعد حصراً في بلد أو إقليم بعينه، بل انتشرت في عموم بلاد المسلمين، بل وفي كثير من بلدان العالم الأخرى، وهي كما تحتاج إلى الخبرات المصرفية والتجارية والإدارية الواسعة تحتاج كذلك إلى الخبرات الشرعية المتعمقة الأصيلة، التي تخرج من حيز وإطار نقل آراء الأقدمين إلى مجال مشاركتهم في الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي على ضوء مستجدات الواقع·

5 ـ ومع توفر وتقدم وسائل الانتقال والاتصال، ووسائل الكشف والبرمجة، ووسائل الطباعة والإرسال، أصبح من المفيد جداً التركيز على الاجتهاد الجماعي لعلماء المسلمين··· وهذا الاجتهاد الجماعي يتمثل أوضح ما يتمثل في المجامع الفقهية والمؤتمرات الدورية أو الخاصة، أو في دور الإفتاء والبحث العلمي··· وهي جهات سهَّلت لها الحضارة المعاصرة أسباب الانعقاد والاجتماع في أسرع وقت مع كل التسهيلات والخدمات اللازمة، فأصبحت هذه المجامع والمؤتمرات سمة للاجتهاد المعاصر وميزة من ميزاته وباباً مهماً للوصول إلى الرأي الأصوب والأسدِّ والأوجه·

6 ـ وقد تمثلت المرجعية في الفتوى حالياً في باب الاقتصاد في الهيئات الشرعية المكلفة بالرقابة الشرعية في الشركات الإسلامية وبيوت المال الملتزمة، وهذه ولا شك خطوة جيدة وصائبة وهي تلبي الحاجة الحالية بشكل سريع وفوري، فوجود هذه اللجان أو الهيئات أو المكاتب الشرعية داخل تلك المؤسسات بشكل دائم يتيح للجهات المسئولة فيها أن تطلع على الرؤية الشرعية لأي معضلة اقتصادية فور وقوعها أو ساعة الحاجة إلى ذلك·

 

ملاحظات··· ونقاط على الحروف

ولكن الملاحظات المطروحة على عمل تلك اللجان ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، وتوضع موضع الدراسة··· ومنها:

أ ـ إن تلك اللجان الشرعية لجان معينة مختارة من قِبَلِ مسئولي الشركات والمؤسسات، وهذا ما يدفعنا إلى المطالبة بمزيد من الاحتياط في نزاهتها وحيادها، الأمر الذي يستدعي كونها فوق أصحاب القرار والتأثير في الجهات التي تعمل لديها مع إقرارنا سلفاً بأن المفترض والملاحظ والمعروف حالياً عن عموم لجان الرقابة الشرعية الحياد والاستقامة·

ب ـ إن لجان الرقابة الشرعية بصورتها الحالية هي لجان جيدة على المستوى الفقهي، ولكنها بحاجة ـ في نظري ـ إلى تطعيم بعناصر من ذوي الاختصاص الاقتصادي الذين تنحصر مهمتهم في توضيح أثر الحظر أو الإباحة على المستوى الاقتصادي والواقع العلمي، كما أن على تلك العناصر الاقتصادية بيان البدائل الاقتصادية للمحظورات الشرعية في هذا المجال، وكذلك عليها توفير الإحصاءات والبيانات الاقتصادية التي توضح بؤس الاقتصاد الحر البعيد عن المنهج الإسلامي، ومدى معاناة البشرية من اعتماده على الربا أو المنافسة أو الاحتكار·

جـ ـ إن الحاجة ماسة إلى مرجعية عليا تخضع لها اللجان المحلية الموجودة في كل مؤسسة أو شركة، وهذه المرجعية العليا تكون مهمتها الإشراف والتوجيه وتوحيد الآراء وحسم الخلاف في المسائل الشرعية، بل وتعيين اللجان الفرعية في المؤسسات الاقتصادية الإسلامية ممن تعلم فيهم الكفاءة والخبرة ديناً وتقوى·

د ـ إن اللجان الشرعية الموجودة في الشركات والمؤسسات الإسلامية كثيراً ما تحتار في اختيارها بين أقوال الفقهاء القدامى الذين اجتهدوا بأنفسهم في النصوص حتى توصلوا إلى الرأي المنسوب إليهم، وبين إعادة الاجتهاد في النصوص على ضوء مستجدات الواقع مما قد يؤدي إلى مخالفتهم في الرأي·

والملاحظ أن من السهل جداً تبني الرأي القديم والمدافعة عنه والانتساب إليه··· أما الاجتهاد الجديد وتبنيه والدفاع عنه فدونه خرط القتاد·

والمطلوب من تلك اللجان في مواقف الاختيار والترجيح التوازن والنظر إلى المصالح العامة للأمة، مع التقيد بالنصوص الأصلية من الأدلة، دون التحرج من مخالفة آراء المجتهدين فيها إذا دعت إلى ذلك حاجة واقعية أو مصلحة مؤكدة·

يقول الدكتور عبد الحميد البيلي ـ المستشار في اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ـ الكويت:

ـ ما يمكن الرجوع إليه إذا أشكل أمر من الأمور أو اقتضى الاحتكام إلى ما يمكن أن ينير المستشكل فيه ويزيده وضوحاً وتحديداً ثم حسماً لغلبة الحجة والتدليل والبرهان·

ومن هذا المنطلق، فنحن بحاجة ماسة إلى مؤسسات متخصصة في مجال الاقتصاد الإسلامي في المجالين أو على المستويين الفقهي الفكري والتطبيقي العملي تحرر مسائله وتدقها وتجليها وتؤصلها من مصادر التشريع المتعددة والمتنوعة حتى تستطيع أن تناظر ما هو موجود من مسائل الاقتصاد الوضعي ويثبت للناس صلاحيتها وفعاليتها في قيادة حياتهم الاقتصادية وأنشطتهم الاقتصادية والتجارية والمالية المختلفة وإذا جلنا بنظرنا هنا وهناك، فلن نجد إلا النذر اليسير من هذه المؤسسات التي لا تقوى على صناعة منهج اقتصادي متكامل قابل للتدريس والتطبيق والمناظرة· وذلك بالمقابل إلى ترسانة الاقتصاد الوضعي من المناهج والمدارس والدارسين، ومن ثم الخريجين الكثرين في كل عام وهكذا، فمتى يتم تدارك ذلك إذ مما لا شك فيه أن الاقتصار في الإسلام يجد أصوله في مصادر التشريع كما تتحد غاياته وأهدافه مع مقاصد الشريعة·

وهذا ما يجعلنا نتحدث عن الشق الثاني من المرجعية ألا وهو <مرجعية الفتوى> في مجال الاقتصاد الإسلامي، فإذا كان الاقتصاد الإسلامي فرع من فروع الشريعة بكمالها وجمالها فلا شك أن كثيراً من أحكامه التفصيلية تحتاج إلى بيان حكم الشرع فيها وهو ما يستوجب أن تكون هناك مرجعية للفتوى في تلك المسائل الفرعية التفصيلية ومدى توافقها أو عدم توافقها مع أحكام الشريعة الإسلامية·

وهذا يذكرني بتجربة حدثت منذ ما يقرب من تسعة عشر عاماً عندما استضافت دولة الإمارات العربية المتحدة في دبي مؤتمراً برعاية وزارة الأوقاف بمناسبة إنشاء أول هيئة عليا للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية تضم رؤساء هيئات الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية وعدداً آخر من العلماء المشهود لهم من مختلف الأقطار العربية وشرفت حينذاك بانتخابي أميناً لتلك الهيئة، وكانت هذه الهيئة تعتبر أهم جهاز في الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية كهيئة دولية رسمية معتبرة ولكن هذه الهيئة العليا توقفت أو بعبارة أصح، عـلَّقت أعمالها إلى أجل غير مسمَّى بعدما استطاعت أن تثبت وجودها وتبدأ في ممارسة مهامها ويكون لها نظام معتبر·

وما أشبه اليوم بالبارحة وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه الهيئة العليا للفتوى والزكاة الشرعية لما لوجودها من فوائد جمة وآثار طيبة على الصعيد التقني الفني الدقيق وعلى الصعيد العام وسرد هذه الفوائد تفصيلاً نتحدث عنه في لقاء لاحق بإذن الله·

 

ويقول الدكتور محمد رواس قلعه جي الأستاذ في كلية الشريعة ـ جامعة الكويت:

ـ حب المال فطرة في الإنسان، ولذلك جرى الناس وراء المال يلهثون، والاقتصاد هو المعمل المنتج للمال، وبمقدار ما يتطور الاقتصاد وينمو، بمقدار ما يفيض المال ويكثر ولذلك كان التطور في الاقتصاد أسرع من التطور في غيره، وعلى الفقه من الأحكام الشرعية ـ أن تجري وراء الاقتصاد بسرعة توازي سرعته لترشِّده وتمده بالأحكام الضابطة له لئلا ينحرف عن الحلال إلى الحرام، وهذه الأحكام يصعب أن يقوم بها شخص بمفرده، لاحتمال خطئه فيها، وذلك كان لابد من هيئة يجمع أفرادها أفذاذ العلماء الذين جمعوا من العلم الشرعي، والعلم بالاقتصاد، وفي حال عدم توفر هؤلاء، لابد من أن يكون في هذه الهيئة من هو مختص في الفقه غير منغلق عن الاقتصاد، ومن هو مختص في الاقتصاد غير منغلق عن الفقه، لتلاحق هذه الهيئة هذا التطور الاقتصادي بالأحكام المناسبة المقتبسة من الشريعة·

لقد شعرت المؤسسات المالية الإسلامية بحاجتها إلى مرجع ترجع إليه يفتيها في المعاملات التي تمارسها أو التي تريد أن تمارسها، فاتخذت كل مؤسسة منها مرجعاً سمته لجنة الرقابة الشرعية، وأعطت لهذه اللجان حق الإفتاء في المعاملات التي تعرضها عليها، ولكن وقع الاختلاف بين لجان الرقابة الشرعية التابعة لهذه المؤسسات، فأحلت لجنة الرقابة في بنك فيصل ـ مثلاً ـ بعض ما حرمته لجنة الرقابة في شركة الراجحي، وحرمت لجنة الفتوى في شركة الراجحي ما أحلته لجنة الفتوى في بيت التمويل، وهكذا، وإزاء هذا الوضع، فإني أرى تكوين لجنة عليا للفتوى في القضايا المالية والاقتصادية يلتزم الجميع بما يصدر عنها من الفتاوى، وتكون مهمة اللجان التابعة للمؤسسات مراقبة تنفيذ ما يصدر عن هذه اللجنة من الفتاوى، كما أرى العمل ـ وفي أسرع وقت ـ إلى إصدار موسوعة اقتصادية إسلامية تضم كل ما تحتاج إليه المؤسسات المالية الإسلامية من أحكام شرعية لتكون مرجعاً لهذه المؤسسات، ويصدر كل سنة ملحقاً لها يحتوي على أحكام ما يجده من المعاملات، إلى أن تعاد طباعتها، حيث تضم إليها كل هذه المستجدات· وأسأل الله - تعالى - السداد والتوفيق·

ويقول الأستاذ عز الدين التوني - رحمه الله -:

ـ الإفتاء من فروض الكفاية، يقول الله- تبارك وتعالى -: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) آل عمران: 187.

ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: <من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار< (أخرجه الترمذي 5/290)

وإذاً فلابد للمسلمين من مفتيين يبينون لهم أحكام دينهم فيما يقع لهم من مشكلات·

والمفتي مُوقِّعٌ عن الله - تعالى -كما يقول العلماء، ولا يجوز أن يتقدم للفتوى إلا من كان على إحاطة ودراية بما يفتي فيه، فالإفتاء بغير علم حرام لأنه يتضمن الكذب على الله - تعالى -ورسوله، ويتضمن إضلال الناس·

من أجل ذلك كثر النقل عن السلف إذا سئل أحدهم عما لا يعلم أن يقول: لا أدري·

وكان الإمام مالك يقول: ينبغي قبل الجواب أن يعرض المفتي نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب·

2 ـ والفتوى تشمل كل ما يتعلق بالإنسان من عبادات ومعاملات وعقوبات وأحوال شخصية وغير ذلك لكن هناك من المجالات ما هو في أشد الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي·

ذلك هو الاقتصاد، فعلم الاقتصاد من أهم العلوم، فالمعاملات المالية من بيع وشراء ورهن وإجارة وتجارة وشركات متنوعة وغير ذلك هي محور حياة الناس·

وقد جدت في هذا المجال معاملات مالية كثيرة ومتشعبة لم تكن في العصور السابقة، وبخاصة بعد انتشار الاختراعات الحديثة مثل الكمبيوتر والإنترنت ويحتاج المسلمون إلى معرفة الحكم الشرعي في هذه المعاملات·

3 ـ لذلك كان من الضروري إيجاد مرجعية للفتوى في مجال الاقتصاد الإسلامي للنظر في هذه المعاملات الحديثة ووضعها تحت القواعد الشرعية للمعاملات فما وافق هذه القواعد أُقِرَّ، وما خالف هذه القواعد وكانت حاجة الناس إليه ضرورية، أمكن إيجاد بديل يتفق مع شريعة الإسلام كإيجاد التأمين التعاوني بديلاً عن التأمين الموجود حالياً، وكالمصارف الإسلامية بديلاً عن المصارف الربوية··· وهكذا·

4 ـ ولابد أن تكون الفتوى جماعية، بمعنى أن تصدر عن جماعة من العلماء المتخصصين حتى لا تحدث بلبلة وفتنة بين المسلمين بسبب الفتاوى الفردية·

5 ـ والسبيل إلى ذلك:

أ ـ أن يوجد في كل مؤسسة إسلامية ـ سواء أكانت بنكاً تلك المؤسسة أم شركة ـ جماعة من العلماء المتخصصين في الفقه والاقتصاد تسمى هيئة الفتوى تكون مهمتها النظر في كل المعاملات التي تقوم بها المؤسسة·

هذا مع المشاركة في تطوير نظم العمل والأنشطة حتى تساير المستجدات الحديثة وفقاً للشريعة الإسلامية·

ب ـ من الضروري إيجاد هيئة عامة للفتوى على مستوى الدولة تكون مؤسسة حكومية ترعاها الدولة كبيت الزكاة مثلاً، وتضم هذه الهيئة علماء متخصصين في الفقه والاقتصاد، وتكون مرجعاً لعامة المسلمين، وترجع إليها كذلك هيئات الفتوى في البنوك والشركات للاستشارة في ما قد يختلفون فيه من مشكلات·

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply