أزمة الهدر الفقهي


بسم الله الرحمن الرحيم 

طوال تاريخ التراث لم يواجه الفقه الإسلامي تحدياً كالذي يواجهه اليوم أمام أسواق المال، وأعمال المصارف، وأنماط التمويل، ومشتقات الائتمان، وأنظمة النقد، وصيغ الاستثمار ونحوها من أشكال الحداثة الاقتصادية المعقدة، ولقد شاع بين كثير من الباحثين المعاصرين استعمال مصطلح (النوازل) في التعبير عن هذه المتغيرات.

وفي تقديري أن إسقاط مصطلح النوازل على هذه الحالة الجديدة يعتبر توظيفاً غير دقيق، ذلك أنه لا يعكس حجم وطبيعة هذه المعطيات الجديدةº فالأفق الدلالي لمصطلح النوازل يوحي بمجرد وقائع حادثة تقفز بين فينة وأخرى على هوامش الكتلة الفقهية الفروعية الراسخة والمستقرة، كما هو المعهود في تاريخ التراث الإسلامي المديد، أما في واقع اليوم فالشأن قد اختلف تماماً، ذلك أننا لسنا أمام مجموعة فروع حادثة تزور طاولة الفقيه غباً بقدر ما إننا أمام منظومة اقتصادية جديدة ذات منتجات متدفقة، وتبدلات متسارعة، وتحولات محمومة، وعلاقات مركبة بحيث أصبح الجديد هو الأصل والتقليدي هو الاستثناء.

ومهما شعر المتابع بتعقيد الصورة الاقتصادية المعاصرة في مقابل أزمة (الهدر الفقهي) في البرامج التقليدية للعلوم الشرعية، فإنه لا يمكن أن يتجاهل جهود بعض الرواد من الفقهاء المعاصرين الذين أصروا على خوض غمار هذه المعطيات الجديدة، والاجتهاد في محاولة تقديم أدق تصور شرعي يحقق المراد الإلهي، عبر المشاركة الجادة والمتواصلة في ندوات المصرفية الإسلامية، والمجامع الفقهية، واللجان الشرعية لأعمال المصارف، والمجلات العلمية المتخصصة، والأطروحات الفقهية، والرسائل الأكاديمية المتميزة، وغيرها من القنوات المعنية بالمشكلات الفعلية في حياة المجتمع المسلم، فإلى أولئك وحدهم يعود الفضل الأساسي بعد الله- في تنمية فقه المعاملات المالية، والدأب على تطويره.

ومهما تطارحنا من نقد حول واقع فقه المعاملات المالية المعاصرة فإن ذلك ينبغي ألاّ ينسينا واجبات الوفاء لأولئك الآباء المؤسسين الذين ضحّوا براحتهم الشخصية، وقاوموا كثيراً من ارتباطاتهم الاجتماعية وضغوطات الحياة المادية من أجل أن يقدموا للمجتمع المسلم منظوراً يبني إمكانياته الاقتصادية والاستثمارية في ظل الاطمئنان الشرعي.

ومع ذلك كله لا تزال في طريق علم (فقه المعاملات المالية) الكثير من الخطوات والمهام الضرورية لاستكمال مسيرة التنمية الفقهية، فبادئ ذي بدء لقد حان الوقت لكي يقرر هذا الفرع الفقهي أن يستقل عن الشجرة الفقهية العامة، كما استقل من قبله علم الفرائض، وعلم القضاء، وعلم السياسة الشرعية وغيرها من الفروع التي احتفلت باستقلالها المبكر في تاريخ الفقه الإسلامي، احتراماً لخصوصيتها وحاجتها للمعالجة المتخصصة.

فقد أصبحت خصوصية فقه المعاملات المالية النابعة من تعقد علاقاته بالعلوم الأخرى كالاقتصاد والمحاسبة والقانون التجاري والإدارة وغيرها من العلوم ذات الصلة أكبر من أن تحتملها فصول معدودة في مدونة الفقه الإسلامي، ويستحيل على الفقيه المعاصر أن يكون مبدعاً في فقه المعاملات المالية طالما أن دراسته لهذا الفرع لا تزال تقتصر على بضع محطات متواضعة في رحلته الفقهية الشاسعة والمنهكة والممتدة من (باب المياه) إلى (باب الإقرار).

لقد أزف الوقت إن لم يكن قد تأخر كثيراً- لكي يصبح فقه المعاملات المالية تخصصاً مستقلاً يُزوَّد المتدرب فيه بكامل التقنيات المعرفية التي يحتاجها من العلوم الإنسانية الحديثة، وبشكل خاص المفاهيم الأساسية في الاقتصاد والمحاسبة والقانون التجاري والإدارة، بالإضافة إلى الكليات الفقهية والقواعد الأصولية والمبادئ المقاصدية، وتاريخ التشريع ذات المساس المباشر بهذا العلم، بحيث تصبح هذه الوحدة الفقهية مجهزة بكامل المعدات العلمية اللازمة بشكل منظم.

كم هو مؤلم أن تكون كثير من كليات الشريعة والتي من المفترض أن يكون تخصصها الدقيق هو الفقه الإسلامي لا تزود طلابها بمنهج مستقل للمعاملات المالية المعاصرة، فيصطدم الطالب غير المؤهل بنظم الحياة الاقتصادية المعقدة غير قادر على الربط بين النماذج التراثية التي تعلمها والصيغ الحديثة التي يواجهها إلاّ من خلال جهود شخصية خارج البرنامج الرسمي، كثيراً ما تكون متعثرة وغير منظمة.

وإذا اتفقنا أن أزمة الهدر الفقهي لا تعود إلى عامل واحد بل ترتبط بشبكة من العوامل الاجتماعية والسياسية والمعرفية، فإنه لا شك أن من أهم المشكلات التي ساهمت في تكريس أزمة الهدر الفقهي مشكلة (تكلف المغايرة) النابعة من القلق غير الطبيعي من توافق بعض الأحكام الشرعية مع صيغ الاقتصاد الغربيº فبدلاً من تركيز الجهد الفقهي في تحليل الخيارات الشرعية الممكنة والمتاحة في ضوء واقعنا ونسيجنا الفقهي الخاص، ينجرف كثير من الباحثين في تصوير الفقه الإسلامي للبرهنة على وجود (اقتصاد إسلامي) والواقع أنه ليس من معايير الحقائق الشرعية تناقضها مع الخبرة البشرية، بل على العكس من ذلك فإن من القرائن الدالة على رجحان الاجتهاد الفقهي تأييده واعتضاده بنتائج الخبرة البشرية.

ومن جانب آخر فإن عدم قدرة الفقهاء المعاصرين على إنشاء قاعدة بيانات فقهية كان أحد أهم مصادر الهدر الفقهيº إذ افتقد البحث الفقهي القنوات الخاصة التي تضمن تدفق النتائج الفقهية إلى أوعية منظمة بما يمكنها من تحقيق عنصر التراكم، وانعكاساً لهذا الغياب تستمر أزمة تكرار الجهود والدوران في حلقة مفرغة بما يحرم فقه المعاملات المالية من أحد أهم شروط نمو المعرفة.

كما يعاني الفقيه اليوم من غياب الإمكانيات التي تتيح له التعرف على الدراسات السابقة على الإشكالية محل اهتمامه، وكم هو محزن حين يبذل الفقيه جهداً في استيعاب الدراسات الفقهية في الموضوع محل اهتمامه ثم يتفاجأ بأنها جميعاً أعادت بحث الموضوع من خط البداية الأول، ولم يحاول أحد منها أن يواصل شوط البحث من حيث توقف الآخرون. يا ترى كيف سيكون حال الخبرة الفقهية لو أُتيح لنتائج الباحث الأول أن يناقشها، ويعمقها الباحث الثاني، وهكذا دواليك؟

كما أن من أهم مصادر أزمة الهدر الفقهي استنفاد جهود المجامع المتخصصة في دراسة التطبيقات الجزئية الصغيرة عبر التعسف في تعليب المعاملات المستجدة داخل الأوعية الفقهية التقليدية، وقسرها على تقمّص أشكال العقود التراثية فتخرج كثير من البحوث بصورة كسيحة تشي بحجم التكلف الهش، في مقابل إهمال بناء (منظومة القواعد المرجعية) الحاكمة لهذا العلم.

إن المجامع المتخصصة بحاجة أكثر من أي وقت مضى- إلى أن تبلور للشريحة المستهدفة من مصرفيين ومستثمرين ونحوهم دليل إجراءات منظم، لا ينجرف في ملاحقة الجزئيات وخلافياتها، بل يكرس بشكل أساسي لتنظيم (معايير المعاملات الشرعية) بحيث يحتوي هذا الدليل القياسي على أسس مفاتيح البطلان وقواعد تنظيم الحقوق والالتزامات والمبادئ الأساسية للآثار العقدية، وبمعنى آخر الإجابة عن الأسئلة الثلاثة التالية: ما موانع صحة المعاملة؟ وما هي حقوقك؟ وما هي واجباتك؟ دون إغراق في تفصيلات الخلاف الفقهي بحيث يتمكن الفرد غير المتخصص من استيعاب القواعد الفقهية العامة التي تمنحه الاطمئنان الشرعي في إدارة استثماراته الشخصية ومشاريعه الخاصة، ويكون اعتماد هذا الدليل من المجامع المتخصصة مادة متاحة لبرامج التدريب الشرعي.

ويعود جزء من الهشاشة الفقهية في بعض المعالجات الفقهية المعاصرة المطروحة اليوم في القنوات الفضائية والمجلات الالكترونية إلى إشكالية معرفية في قلب منهج الاستدلال الفقهي، حيث يفتي كثير من المتصدّرين للفتيا في المسائل المعروضة عليهم بناء على مفاهيم إجمالية مطورة استقرت في أذهانهم حول القواعد العامة للمعاملات، كقاعدة الربا أو قاعدة الغرر أو قاعدة الضمان ونحوها، وهذه المفاهيم الإجمالية مأخوذة من الفهم المدرسي المباشر للنصوص الشرعية العامة دون استيعاب تحليلي لتصرفات الشارع التطبيقية في التعامل مع هذه القواعد العامة، ودون استخلاص لكافة القرائن العملية من مجمل السياق التشريعي في عصر النبوة، كما يقول الإمام ابن تيمية: \"ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح، أفسد كثيراً من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه\" [مجموع الفتاوى لابن تيمية 29/51].

ولنضرب على ذلك مثلاً: فحين يأتي النص العام بالنهي عن الميسر، وأنه قد (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر) والغرر هو مجهول الحال أو المآل، فإن كثيراً من المتعاطين لفقه المعاملات اليوم كلما رأى مخاطرة في عقد مستجد ناشئة من جهالة الحال أو المآل هجم عليها بإسقاط النصوص العامة في حظر الغرر والميسر.

بيد أن دراسة التعامل النبوي التطبيقي مع عنصر الجهالة والمخاطرة يكشف أن هذا الفهم المجمل لمفهوم الغرر يتعارض مع مراد الشارع، فلم يرد الشارع بحال أن يحسم كل أنواع الغرر والجهالة بهذا الإطلاق الموهوم، فسيرته العلمية والتطبيقية تكشفت عن تشريع أربعة مستويات مختلفة من الغررº إذ أجاز الشارع الغرر في غير عقود المعاوضات كما في هبة المجهول، وأجاز الشارع الغرر اليسير كما في بيع أساسات الدار، وأجاز الشارع الغرر التبعي كما في بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها مضمومة إلى الأصل، وأجاز الشارع الغرر المحتاج إليه كما في بيع المغيبات.

وتكمن خطورة هذا المنهج المعتمد على عمومات النصوص دون استيعاب لتصرفات الشارع التطبيقية في أنه يندرج تحت آفة من آفات أحبار اليهود التي نهى الله فقهاء المسلمين عن سلوكها، وهي آفة (تبعيض الكتاب) عبر أخذ بعض نصوصه وترك بعضها الآخر كما قال - تعالى -في سورة البقرة \"أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض\".

وعلى صعيد آخر..يخطئ كثيراً أولئك المثقفون المأخوذون بالسياقات الفكرية والفلسفية ممن يستهترون بعلم الفقه الإسلامي، وأن الأمر لا يحتاج كل هذه الجهود على أساس أن الدين واضح ميسر لا يحتمل كل هذا التعقيد الذي يحدث، وفي تقديري أن هناك خلطاً لمصدر التعقيد نشأ بسبب الفهم المجمل الذي يعوزه التفصيل لمكونات الإجابة الفقهية، فالواقع أن أية إجابة فقهية هي مزيج من عنصرين أساسيين هما: قاعدة وواقعة، فأما القواعد الشرعية فهي ميسرة بينة محكمة بمقتضى النص القطعي (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) وأما الوقائع فهي تزداد تعقيداً مع التطور المذهل في الحياة الإنسانية، وهذا يعني أن فقه المعاملات المالية ليس علماً شائكاً بسبب وعورة قواعد الوحي الإلهي حاشا وكلا- ولكن بسبب حجم وطبيعة المعطيات والوقائع الاستثمارية الحديثة، فالتعقيد في الوقائع لا في القواعد.

وفي إطار محاولات الفقهاء الرواد في التواصل مع العلوم الحديثة ذات الصلة بفقه المعاملات المالية بخصوص تصوير العقود والوقائع المستجدة وتوضيح صيغ علاقاتها المؤثرة على الحكم الشرعي يلاحظ المتابع موقفاً مترعاً بالمفارقة في تحديد وزن العلوم الحديثة التي يمكن الاستفادة منها في هذا المجال.

فقد تم في هذا السياق بناء تواصل إيجابي معقول مع الاقتصاد الحديث، وتبادل للخبرات مع رجالات الاقتصاد من خلال استكتابهم في المجامع الفقهية، والاستناد إلى نتائجهم العلمية، وترجمة دراساتهم الأجنبية في تنام مستمر وملحوظ لمرجعية الاقتصاديين في الوعي الفقهي المعاصر، في مقابل القطيعة والنفور المذهل مع خبراء التشريعات التجارية والمالية الحديثة، على الرغم من أن خبراء التشريع من شُرّاح القانون ونحوهم في المجتمعات المتقدمة هم الوجه الحقيقي المقابل للفقهاء في المجتمع المسلم، بما يعني أن إمكانية استفادة الفقيه في تصوير العقود والمعاملات المعاصرة من خبراء القانون التجاري الحديث أكبر بكثير من إمكانية الاستفادة من خبراء الاقتصاد الحديث بسبب وحدة الوظيفة والهموم المشتركة بين علمي الفقه والقانون، في مقابل التفاوت الواسع بين وظيفة الفقه ووظيفة الاقتصاد، فوظيفة علم القانون دراسة تنظيم العلاقات الحقوقية بين أفراد المجتمع، أما وظيفة علم الاقتصاد فهي دراسة سلوك الإنسان في إدارة الموارد النادرة لإشباع حاجاته.

ولنضرب على ذلك مثلاً: فحين يدرس علم الاقتصاد موضوع (العمليات البنكية) من خلال مادة النقود والبنوك فإنه يدرسها بهدف تحقيق أكبر معدل تنافسي للعائد بصفتها أحد موارد التمويل وتوزيع الائتمان، أما علم القانون فحين يدرس هذه (العمليات البنكية) من خلال مادة القانون التجاري فليس معنياً بالبحث عن أنجع الوسائل لتعظيم الربح، ولكنه معني بدراسة الالتزامات والآثار الحقوقية الناشئة عن هذه العمليات عبر تحليل عناصر العقود والعلاقات بين العاقدين.

ويبرز أثر هذا الاختلاف جلياً في سائر الموضوعات المدروسة في العمليات البنكية بين العلمين، فمثلاً يدرس علم الاقتصاد عقد (الخزانة الحديدية) باعتباره أحد آليات تحقيق الأمان للعميل بما يستقطب المزيد من الأصول، بينما في دراسة فقهاء القانون لهذا العقد يذهب الجهد الأساسي لمناقشة تكييف هذا العقد: هل هو عقد وديعة باعتبار عنصر الحفظ؟ أم هو عقد إيجار باعتبار شراء المنفعة؟ أم هو عقد قرض باعتبار حرية التصرف؟

ويتضح للفقيه أن المدخل الذي يتناول علم القانون موضوعاته من خلاله أقرب إلى علم الفقه وأشبه ببينته المعرفية من المدخل الذي يسلكه علم الاقتصاد، بسبب تركيز علم القانون وإبرازه لذات العناصر والعلاقات التي يستهدفها علم الفقه، ولذا فهو أجدى وأكثر عائدة في تصوير العقود والوقائع المستجدة.

فالمفترض في فقهاء المعاملات المالية المعاصرة اليوم أن يتجاوزوا تلك الحساسيات التاريخية مع علم القانون، والتي نشأت في ظل مناخ من التوترات السياسية أججتها حالة الاحتجاج الشعبي ضد القسر الإمبريالي في تغريب التشريعات.

بمعنى أنه يجب على الفقهاء المعاصرين أن يعيدوا علم القانون إلى صورته الطبيعية المتوازنة من حيث كونه علماً وضعياً فيه ما يخدم الفقه الإسلامي، وفيه ما يتعارض معه، فما الذي يجعل علم الاقتصاد الوضعي ذا الصبغة الرأسمالية والمنشأ الغربي يجوز التواصل النقدي معه والتفاعل الإيجابي مع المختصين فيه، بينما يحرم هذا التواصل النقدي والتفاعل الإيجابي مع علم القانون الحديث؟ فواقع الأمر أن كلا هذين العلمين من حيث التصور الشرعي الطبيعي يقفان في ذات الخانة، وهي خانة (العلوم الوضعية) المرتبطة بالخبرة البشرية، والخاضعة للفحص الشرعي، فيؤخذ منها ويرد طبقاً للقاعدة العامة في الموقف من العلوم الوضعية، أي بحسب التوافق والتعارض مع أصول الشريعة.

وفي هذا السياق يجب أن نعترف وبمرارة أن علم (الاقتصاد الإسلامي) ابتعد كثيراً عن وظيفته الحقيقية، فبدلاً من أن يكون رجل الاقتصاد الإسلامي مشغولاً بالإبداع في دراسة وتحليل وتفسير ومعالجة علاقات الناتج القومي والإنفاق الحكومي، والسياسات النقدية، ومعدلات التضخم، واستراتيجيات إدارة الطلب، وقيود التجارة الدولية، واختناقات الائتمان الإسلامي، والحلول التمويلية، وسائر عناصر الظاهرة الاقتصادية في ظل الإطار الإسلامي، تحوّل كثير من الاقتصاديين الإسلاميين عن المشاركة الفعلية في جوهر علم الاقتصاد، وانشغلوا بدور فقهي يختلف تماماً عن دورهم الأساسي، وهو التصدر لـ (فتاوى المعاملات) مع تقديم خلاصات اقتصادية يسيرة على هامش فتاواهم يتم اختصارها من المصادر المدرسية الغربية.

وما لم يتم تدارك الأمر وفرز الحدود الفاصلة بين العلوم الإسلامية والتفريق الواضح بين الدور الاقتصادي والفقهي والقانوني فإن المجتمع المسلم سيظل يعاني من علاقة التبعية بالإبداع الاقتصادي الغربي، ومن أخطر انعكاسات هذه الصيغة من صيغ العلاقة الثقافية بالآخر تسلل الشلل الفكري إلى إمكانيات الإنتاج، والإصابة بعقم الإبداع، نتيجة الاعتماد على جاهزية المنتجات الغربية، وترسيخ عاهات الإنقماع النفسي في قلب الثقافة الاجتماعية.

وعلى أية حال فإن استقلال الإبداع لا يعني التوتر مع منتجات الحداثة الاقتصادية المعاصرة، ولا يعني أن يكون الفقيه مهجوساً بحمل النصوص والتعسف في تصويرها كنقيض للاقتصاد الغربي، ذلك أن القيام بأمانة البيان للناس وحمل رسالة الفقه الإسلامي النبيلة ليس مرتبطاً بمخالفة خبرات الإنسان، بل مرتبط بشكل أساس بتقديم أدق منظور فقهي يستوعب مراد الشارع ومقاصده العامة التي يحبها الله ويرضاها ويتغياها في أحكامهº كالعدل، والقيام بالقسط، ورعاية المصالح، ورفع الحرج، وإزالة الضرر، واعتبار العرف، وإظهار الدين ونحوها من الغايات الإلهية الشريفة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply