المزال الخفية للفتوى الشرعية (1 - 2)


بسم الله الرحمن الرحيم 

المقدمة:

الحمد لله أحق الحمد وأوفاه والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن الله - تعالى -أكمل لهذه الأمة الدين فشمل حلولا لمشاكل الحياة في العهد النبوي وبين طريق إصلاح كل مشكلة وحل كل معضلة تنتاب البشرية إلى يوم الدين. ولا يكون ذلك إلا بالاجتهاد الشرعي من أهله المؤهلين الذين كملت لديهم آلة الاجتهاد.

إلا أن المجتهد المفتي قد يروم الحق فلا يصل إليه، وهو بلا شك يسعى لإصابة الحق ليحظى بالأجرين، فقد ورد في حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد\"(1).

ولذا، فإن المفتي يحتاج لمعرفة سبل إصابة الحق، وأسباب الزلل في الفتوى وخصوصا المزال الخفية التي لا ينتبه لها الشخص، وقد يراها غيره، وكما في المثل الصيني: من في قمة الجبل يرى ما لا يرى من هو وسط الغابة.

وحيث أن الفتوى تعتبر من القرارات المهمة بل هي تمثل توقيعا عن رب العالمين بحكم الشرع، لذا فإن مزال اتخاذ القرارات تدخل فيها، لأنها قرار يتخذه المفتي بعد النظر والتأمل واستحضار النصوص وإعمال المقاصد الشرعية، ولذا فإن من المناسب الاستفادة من كتابات المختصين في كيفية اتخاذ القرار، وموطنها الكتب الإدارية، مع الاستنارة بأقوال أهل العلم والأمثلة الواردة في كتبهم.

ومما يزيد التأكيد بطرح مثل هذا الموضوع، كثرة حاجة الناس للفتوى، وسهولة الحصول عليها مع توسع الاتصالات وتيسرها، عبر محاور عدة، منها:

1. آلاف المواقع الحاسوبية التي يمكن أن تحصل على ما تريد من فتيا من مختصين وغير مختصين في أنحاء المعمورة.

2. كثرة البرامج المباشرة على القنوات الفضائية.

3. كثرة البرامج في الإذاعات، وبعضها على الهواء مباشرة.

4. تخصيص كثير من الصحف والمجلات ركنا للإفتاء، استجابة لطلبات الناس.

5. كثير من الوعاظ يتلقون أسئلة بعد المحاضرات، للفتيا.

6. أغلب الدول تعين مجموعة من المفتين لسد جزء من حاجة الناس في الفتيا.

7. كثير من البنوك تعين لجنة استشارية للفتيا في المسائل للبرامج التمويلية والمنتجات الإسلامية، استجابة لطلب الزبائن.

8. وجد عدد من رجال الأعمال من يعين مستشارين شرعيين للإفتاء في المعاملات المالية وتجارة الأسهم ونحوها.

9. انتشار أرقام الهواتف للمفتين، في عدة قوائم، مما يحتم على المفتي أن يجيب على عشرات وأحيانا مئات الفتاوى في اليوم الواحد.

وهذه في الحقيقة تمثل تحديا للمتخصصين في علوم الشريعة ويقوي مسؤوليتهم أمام الله - تعالى -، فمن جانب ينظر المفتي إلى عظيم أجر من يدل الناس إلى الخير ومن يعلمهم دينهم، ومن جانب ثان ينظر إلى تحريم الفتوى دون تمعن واجتهاد، ويخشى من الرقيب العتيد: \" ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد\"، وبين عينيه حديث: \" من أفتى بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على الذي أفتاه\".

ومما يكثر من تصدر من لم يصل للأهلية المطلوبة، ما تدفعه وسائل الإعلام للمفتي ليشارك في برنامج الإفتاء، مما يدخل أهل الطمع في الفتوى فيضلون ويضلون والله المستعان.

وليعلم أنني لا أقصد أحدا بعينه في كل مثال، ولكن أحببت جمع هذه المزال لينتفع بها من يطلع عليها، ومن الله أستمد العون والتوفيق.

 

التعلق بأول معلومة:

من المزال التي يقع فيها المفتي أن يتعلق بأول معلومة، وقد تكون هذه المعلومة من المستفتي أو بعد بحث الفقيه في المسألة يقع نظره على معلومة من كتاب أو سنة أو قول عالم.

ولذا فإنه بالنظر في مجمل شروط الاجتهاد للوصول للفتيا الصحيحة التي عليها أكثر الأصوليين نجد أنها ترجع إلى شرطي الولاية المذكورة في قوله - تعالى -: \" إن خير من استأجرت القوي الأمين\" فالقوة العلمية والأمانة هما مجمع الشروط. وما أحسن ما نقله الشاطبي - رحمه الله - حيث يروي - رحمه الله - أحد شيوخه عن بعض العلماء قال: لا يسمى العالم عالما بعلم ما إلا بشروط أربعة:

أحدها: أن يكون قد أحاط علما بأصول ذلك العلم على الكمال.

والثاني: أن تكون له قدرة على العبارة عن ذلك العلم،

والثالث: أن يكون عارفا بما يلزم عنه،

والرابع: أن تكون له قدرة على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم(2).

ومن كان هكذا فإن هذا الزلل يبعد أن يصدر منه لاستيعابه النصوص الواردة فيه، وكلام العلماء عنه.

 

سبل الوقاية من مزلة التعلق بأول معلومة:

أولا: حصر المعلومات المؤثرة في الفتيا وأهمها النصوص الشرعية:

ليعلم أن اشتراط العلم بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة واستحضارها قبل الفتوى شرط في جواز الفتوى وصحتها، ولو في مسألة جزئية، وهذا الشرط أهم الشروط ولم يخالف في اشتراطه أحد من العلماء(3). وذلك لأنه لا يجوز له الفتيا بالقياس مع وجود النصوص الشرعية فقد نص الشافعي - رحمه الله - في الرسالة على أنه لا يحل القياس والخبر موجود وقد قال - تعالى -: \"يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله\"(الحجرات: 1) (4).

ثانيا: نخل الأخبار وتمييزها ما يصلح للاستشهاد

يشترط أن يكون للمفتي تمييز بين الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة، حتى لا يستدل بحديث ضعيف، فقد سئل الإمام أحمد عن الرجل يكون عنده الكتب فيها الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلاف الصحابة ولا يعرف صحة الأسانيد ولا الصحيح من غيره هل يأخذ بما شاء من ذلك؟ فقال: لا، بل يسأل أهل العلم(5).

وسئل الإمام أحمد ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم بالفتيا؟ قال: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عارفا بالسنن، عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنن وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها\"، و قيل لابن المبارك - رحمه الله -: متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر بصيرا بالرأي\"(6).

وقال الخطيب البغدادي - رحمه الله -: \" من لم يعرف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد سماعه ولم يميز بين صحيحه وسقيمه فليس بعالم\"(7). وقال عبد الرحمن بن مهدي - رحمه الله -: \" لا يجوز أن يكون الرجل إماما حتى يعلم ما يصح مما لا يصح\"(8).

وقال الفتوحي: ويشترط أن يكون عالما بصحة الحديث وضعفه سندا ومتنا وأن يكون عالما بحال الرواة ولو تقليدا، كنقله ذلك من كتاب صحيح(9).

ثالثا: معرفة الناسخ والمنسوخ:

قد يجد المفتي نصا قرآنيا أو حديثا نبويا صحيحا ثابتا في المسألة المبحوثة، فيستند على النص ويفتي به، مع أنه منسوخ بنص آخر، وهو زلل وارد ولذا حرص السلف من الصحابة فمن بعدهم على تأكيد معرفة المتفقه للناسخ والمنسوخ مع التنبيه إلى أنهم يطلقون على العام الذي دخله التخصيص بأنه منسوخ.

ويعلل الطوفي - رحمه الله - اشتراط ذلك فيقول: لأن المنسوخ بطل حكمه، وصار العمل على الناسخ، فإن لم يعرف الناسخ من المنسوخ أفضى إلى إثبات المنفي ونفي المثبت، وقد اشتدت وصية السلف واهتمامهم بمعرفة الناسخ والمنسوخ حتى روي عن علي - رضي الله عنه - أنه رأى قاصًّا يقص في مسجد الكوفة وهو يخلط الأمر بالنهي والإباحة بالحظر، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، ثم قال له: أبو من أنت؟ قال: أنا أبو يحيى، قال: أنت أبو اعرفوني، ثم أخذ أذنه ففتلها، وقال: لا تقص في مسجدنا بعد(10). وقصده: لا تعظ في مكان عام مع جهلك بالناسخ والمنسوخ.

 

رابعا: معرفة الإجماع والخلاف

مما يقل في طلاب الفقه معرفة خلاف الفقهاء وأدلتهم وهذا نقص ظاهر، خصوصا اختلاف الصدر الأول من الصحابة والتابعين قال الأوزاعي - رحمه الله -: العلم ما جاء به أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فما كان غير ذلك فليس بعلم. وكذلك قال الإمام أحمد - رحمه الله -، وقال في التابعين: أنت مخير، يعني مخير في كتابته وتركه. وقد كان الزهري - رحمه الله - (ت: 124هـ) يكتب ذلك، وخالفه صالح بن كيسان - رحمه الله - (ت: 140هـ) ثم ندم على تركه كلام التابعين. قال ابن رجب - رحمه الله -: وفي زماننا يتعين كتابة كلام السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد رحم الله الجميع(11).

واشترط الإمام أحمد في المفتي أن يعرف الخلاف، فقد قال في رواية: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي، وقال في رواية أخرى: أحب أن يتعلم الرجل كل ما تكلم فيه الناس(12).

وقد قال الشاطبي في الموافقات: ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف، فعن قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه. وعن هشام بن عبيد الله الرازي - رحمه الله -: من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه. وعن عطاء - رحمه الله - قال: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه. وعن أيوب السختياني وابن عيينة - رحمهما الله -: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء، زاد أيوب: وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء، وقال مالك: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه. قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -،...إلى أن قال الشاطبي - وما أحسن ما قال-: وحاصله معرفة مواقع الخلاف لا حفظ مجرد الخلاف(13).

ونقل ابن مفلح عن أحمد قال: قال سعيد بن جبير: من علم اختلاف الناس فقد فقه. وعن قتادة قال: قال سعيد بن المسيب: ما رأيت أسأل عما يختلف فيه منك، قال: قلت: إنما يسأل من يعقل عما يختلف فيه، فأما ما لا يختلف فيه فلمَ نسأل عنه؟ وقال سعيد بن جبير: أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف(14).

ومن فوائد معرفة الخلاف: حصر الأقوال في المسألة حتى لا يقع إحداث قول مبتدع، قال السمعاني في قواطع الأدلة: \"لأن إجماعهم على قولين إجماع على تحريم ما عداهما... \" (15).

ومنها: معرفة ما ينكر باليد، قال شيخ الإسلام: \" ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ولكن يتكلم فيها بالحجج، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه \" (16).

ومن أعظم المزال، أن ينشأ المفتي على مذهب فقهي ويتعلم منه ويحفظ متنا فقهيا في ذلك المذهب، فإذا ما سئل عن مسألة فأول ما يتبادر لذهنه ما ورد في ذلك المتن الفقهي، ويغلب عليه، فلا يكاد يخرج عنه. والخروج من هذا المأزق في الاطلاع على أقوال الفقهاء الآخرين من كتبهم، والتأمل فيها وإعمال الذهن للوصول إلى الحكم الشرعي.

خامسا: معرفة القضية المبحوثة بالرجوع لأهل الاختصاص (الخبراء):

وهذا أمر مهم إذ كيف يجتهد الفقيه في مسألة اقتصادية وهو لا يدري ما الاقتصاد، وكيف يقسم الفرائض وهو لا يحسن الحساب وقد قال النووي - رحمه الله -: وهل يشترط أن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية؟ حكى أبو إسحاق وأبو منصور فيه خلافا لأصحابنا والأصح اشتراطه(17). ومثل الحساب كل علم يحتاج إلى اجتهاد كالمسائل الطبية وأصول العلاقات الدولية والاقتصاد ونحوها.

وعلى المفتي أن يطرح المسألة على الخبير دون إشعار له بميل نحو قول من الأقوال، وعليه أن يحذر من تقديم الخبير لرأيه مغلفا برأي، كأن يقول الطبيب في تأثير بخاخ الربو على الصوم: إنه كالهواء، ولا يدخل المعدة، ولا يتغذى به الجسم، والناس في حاجة إليه، وإذا لم يسمح لهم فإن حالة المريض تتفاقم... فكأن هذا الكلام من الطبيب وسيلة ضغط لاستصدار الفتوى بعدم فساد صوم من يستخدم البخاخ، وهو خطأ من مقدم المشورة، والواجب على المفتي أن ينتبه لهذا الزلل.

 

سادسا: معرفة الواقع:

قد يسأل المفتي عن مسألة من بيئة مجهولة لدى المفتي، ولا يعرف أحوالها وظروفها وأعرافها، فيفتي وهو مستحضر لحاجة المجتمع الذي يعيش فيه، مما يوقع في الزلل، ومن أمثلة ذلك أن يفتي العالم بتحريم لبس الخمار الأبيض للمرأة لأنه تشبه بالرجال، وسبب خطأ هذه الفتوى أنه استحضر حالة بلده ولم ينظر في أعراف البلد الآخر.

ومثال آخر أن يفتي العالم بتحريم خضاب الرجل بالحناء لأنه تشبه بالنساء، مع أنه في كثير من البلاد يستعمل الحناء الجميع من رجال أو نساء بلا تميز، بل ورد في الحديث النبوي الخضاب بالحناء فقد ثبت عن سلمى- خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: \" ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعا في رأسه إلا قال: \"احتجم\" ولا وجعا في رجله إلا قال: أخضبها\"(18).

وعنها أيضا - رضي الله عنها - أنها قالت: ما كان يكون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرحة ولا نكبة إلا أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أضع عليها الحناء\"(19). وفي رواية: كان لا يصيبه قرحة ولا شوكة إلا وضع عليها الحناء\"(20).

وقد يسأل المفتي عن مسألة فيها شر فيفتي بدرئه ومنعه وحسمه، ولا ينتبه للشر المترتب على فتواه والذي ينيف على الشر المدروء، وصدق عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في قوله: ليس العاقل من يعرف الخير من الشر ولكن هو الذي يعرف خير الشرين(21).

ومسائل السياسة الشرعية تحتاج إلى هذا الأصل كثيرا، ولذا فإن الواجب على المفتي أن يعرف الواقع المحيط بالمستفتي والظروف الزمانية والمكانية، وواقع المستفتي.

وهذا المعنى متقرر لدى أهل العلم، فقد قال الإمام أحمد: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولها: أن يكون له نية فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.

الثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينه.

والثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه.

الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس.

الخامسة: معرفة الناس.

قال ابن عقيل شارحا قوله: \"معرفة الناس\": فمتى لم يكن الفقيه ملاحظا لأحوال الناس عارفا لهم وضع الفتيا في غير موضعها(22).

وقال ابن القيم شارحا العبارة نفسها: هذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم فإن لم يكن فقيها فيه، فقيها في الأمر والنهي ثم يطبق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، وتصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال... بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وأعرافهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله\"(23).

وقال شيخ الإسلام: \" وبسبب ضعف الفقهاء من العلم الكافي للسياسة العادلة وقع انفصام في المجتمع الإسلامي فصار يقال: الشرع والسياسة، هذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعوه إلى السياسة، والسبب تقصير هؤلاء في معرفة السنة\"(24).

وقال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع. ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا. فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله(25).

مزلة سوء الفهم للقضية المفتى بها، أو للنصوص الواردة فيها، أو كلام العلماء:

معرفة الدلالات اللغوية وإعمالها للوصول إلى الفتوى الصحيحة شرط للمفتي، قال شيخ الإسلام: \" إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية\"(26).

وقيل للحسن البصري - رحمه الله -: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه؟ قال: \" نعم فليتعلمها، فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهها فيهلك\"، وقال: \" أهلكتهم العجمة يتأولون القرآن على غير تأويله\"(27).

وقد كان كبار الأئمة يعنون بعلوم العربية عناية فائقة، قال الشافعي - رحمه الله -: من تبحر في النحو اهتدى إلى كل العلوم. وقال أيضا: لا أسأل عن مسألة من مسائل الفقه إلا أجبت عنها من قواعد النحو(28).

وقال الشافعي أيضا: ما أردت بها يعني علوم العربية إلا الاستعانة على الفقه(29). ولهذا السبب يقول الإمام مالك- رحمه الله -: لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا(30). ورحم الله مالكا كيف لو رأى زماننا هذا!!.

والضعف في علوم العربية سبب ضلالا في فهم كثير من المتفقهة، قال ابن جني: إن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة التي خوطب الكافة بها(31).

وقال الشاطبي - رحمه الله -: وإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإذا انتهى إلى الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة، كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجةً، فمن لم يبلغ شأوه فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يكن حجة، ولا كان قوله مقبولا\"(32).

 

سبل الوقاية من مزلة سوء الفهم:

أولا: ضرورة التبحر في معرفة أصول الفقه:

وليعلم أن علم أصول الفقه هو ميزان العلوم الذي يرتب العقل وينمي التفكير، وقد اشترط جمهور الأصوليين للمجتهد أن يكون عالما بأصول الفقه، وجعله الرازي أهم العلوم للمجتهد، واستحسنه الشوكاني، وقال الجويني: وعلم الأصول أصل الباب، حتى لا يقدم مؤخرا ولا يؤخر مقدما ويستبين مراتب الأدلة والحجج(33).

ثانيا: ضرورة التبحر في العلوم العربية، وتقدم بعض النقولات في أهمية ذلك.

 

مزلة الميل غير الواعي إلى التعلق بالوضع الراهن:

نجد هذا الميل عند كثير من المتخصصين في علوم الشريعة، إذا ما طرحت وجهة نظر تخالف السائد في المجتمع، فإننا نسمع من يقول: لا تشوشوا على الناس، والناس على هذا من قديم، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين... ونحو ذلك من العبارات.

وبمثل هذه الحجج انتشرت البدع العملية، والبدع الاعتقادية، وكم حورب أهل الإصلاح بالواهيات من الحجج، ولذا تكرر في القرآن ذم المشركين المتمسكين بما عليه الآباء والأجداد، كقوله - تعالى -: \"بَل قَالُوا إِنَّا وَجَدنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ, وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مٌّهتَدُونَ\" [الزخرف: 22]. ولذا نجد في رسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب لعلماء زمانه المنشورة في المجلد الثاني من تاريخ ابن غتام تكرار لهذا المعنى، والتحذير من التعلق بالوضع الراهن وإغفال الحق المبني على النصوص لعدم عمل الناس بها.

كما أن لتطوير الأعمال أعداء، وهم رافضو التغيير، لأن في التعلق بالوضع الراهن راحة، وفي التغيير تحمل للمسؤولية، وقد تورث الندم والنقد، وكما هو معلوم فإن من لا يغير لا يخطئ كما أن من لا يعمل لا يخطئ. وقد ينجر هذا النزوع النفسي للإنسان على بعض الأمور الشرعية وخصوصا في المعاملات المالية الحديثة واستخدام التقنية الجديدة في الأمور الشرعية، ولها شواهد لا تحصى، تبين أن المفتي قد يتأثر بهذه النزعة الإنسانية المتخوفة من التغيير.

 

مزلة استجلاب الأدلة المؤيدة:

فقد يؤيد المفتي رأيه بأدلة بتحميلها ما لا تحتمل، أو لي أعناقها لتوافق فتواه، وقد يستدل بما ليس بدليل كالأحاديث الباطلة والمنامات، ونحو ذلك مما يدل على أن المفتي وضع الجواب ثم بحث عن الدليل المؤيد، مع أن الواجب أن يستحضر الأدلة ثم يستنبط الجواب والرأي الفقهي منها.

 

مزلة الصياغة:

فقد نجد أن المستفتي إذا أراد أن يؤثر على المفتي ليستصدر فتوى تناسبه فإنه يبدأ السؤال بذكر المخاطر والأضرار، بقوله مثلا: تعلمون ما في الشيء الفلاني من أضرار على النفس والدين والأخلاق، وقد انتشر بين الناس، فنأمل منكم تبيين خطره للناس وحكم استعماله، فالمستفتي حاصر المفتي بالسؤال، فقد يؤثر عليه بأخذ ما يريد من فتوى إن لم ينتبه لهذه الحيلة من المستفتي.

 

مزلة الثقة المفرطة:

وسببها عدم احترام التخصص، فقد يظن من يوجه إليه السؤال أنه محيط بكل شيء، فيسأل عن حديث، فينسفه بأن لا أصل له، مع أنه في الصحيحين، أو يسأل عن مسألة اقتصادية متخصصة

 

مزلة الحذر المفرط:

وهذه المزلة ناتجة من سوء تطبيق مبدأ: \" سد الذرائع\"، فقد ذكر العلماء شروطا لتطبيق هذا المبدأ، ومتى ما تخلفت وقع الخطأ.

----------------------------------------

(1) رواه مسلم 1716 والنسائي في الكبرى 5918 والترمذي 1236

(2) الإفادات للشاطبي /107، عن نظرية المقاصد عند الشاطبي /116.

(3) كما في كتاب إبطال الاستحسان في خاتمة الأم 7/ 274، والرسالة / 509 511، والبرهان 2/870 والتقرير والتحبير 3/292 وفواتح الرحموت 2/363 وإرشاد الفحول 2/1027 والمستصفى 2/383 وروضة الناظر 3/960 والواضح لابن عقيل 5/456 وشرح مختصر الروضة 3/577 وشرح غاية السول /426 وشرح الكوكب المنير 4/460 والمهذب 5/2322.

(4) الحديث حجة بنفسه / 21-22.

(5) الواضح 5/459.

(6) الفقيه والمتفقه 2/157 عن إيقاظ الهمة /34.

(7) الجامع 2/295 عن إيقاظ الهمة /55.

(8) تذكرة السامع والمتكلم/121 (الهامش) عن إيقاظ الهمة /55.

(9) شرح الكوكب المنير 4/461 وقريب منه في فواتح الرحموت 2/363 والبرهان 2/870 والإحكام 4/170.

(10) شرح مختصر الروضة 3/580 وإرشاد الفحول 2/1031وشرح مختصر التحرير 4/461 والإحكام للآمدي 4/163.

(11) فضل علم السلف على الخلف /43-44.

(12) إعلام الموقعين 4/ 167.

(13) الموافقات 5/116 - 117، وجامع بيان العلم وفضله باب من يستحق أن يسمى فقيها، والإيناس للأسمري /10. وانظر كتاب إبطال الاستحسان في خاتمة الأم 7/ 274، والرسالة / 509 511.

(14) الآداب الشرعية 1/71.

(15) القواطع 3/266،

(16) مجموع الفتاوى 30/80.

(17) أدب الفتوى/ 24.

(18) رواه الترمذي وأبو داوود وابن ماجه وحسنه الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول(5681).

(19) أخرجه الترمذي(2054) وأبو داوود(3858) وابن ماجه (3502)والحاكم (4/40) وقال: صحيح ووافقه الذهبي وحسنه الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول (5645).

(20) رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع(4860) والصحيحة(2059).

(21) سير أعلام النبلاء 3/74.

(22) الواضح لابن عقيل 5/460 463.

(23) إعلام الموقعين 4/161 -166.

(24) الفتاوى 20/293.

(25) إعلام الوقعين 1/87 ونحوه في الطرق الحكمية/7 و 38 عن فقه الواقع عند أهل السنة والجماعة/37-38.

(26) الاقتضاء 1/470.

(27) الاعتصام 1/304.

(28) شذرات الذهب لابن العماد / 231 عن مجلة البيان العدد رقم 182 صفحة67.

(29) السير 1/75.

(30) الإتقان للسيوطي 2 / 179 عن مجلة البيان العدد رقم 182 صفحة68.

(31) الخصائص 2/ 245 عن مجلة البيان العدد رقم 182 صفحة67.

(32) الموافقات 4/83.

(33) المستصفى 2/352 والذخيرة/137 وإرشاد الفحول 2/1032 والبرهان 2/870 والمحصول 6/25 وشرح مختصر الروضة 3/580 وشرح مختصر التحرير 4/461 والإحكام للآمدي 4/163 والمهذب 5/2324

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply