التيسير في الإسلام


بسم الله الرحمن الرحيم 

لهذا الموضوع أهمية كبيرة في حياة الدعاة والمفتين والمربينº حيث جهل الكثير - في عصرنا الحاضر - منهج الإسلام في التيسيرº واختلط معنى التيسير بالتساهل وصار المتشدد في الأحكام يتهم من يتبع منهج التيسير - وهو في الأصل منهج الإسلام - يتهمه بالتساهل ويرجع ذلك إما إلى التعصب للمذهب أو للآراء أو لأفراد العلماء، أو التمسك بظاهر النصوص، أو من باب المبالغة في سد الذرائع، أو المبالغة في الأخذ بالأحوط عند كل خلاف، علماً بأن الأخذ بالأحوط سائغ في حق الإنسان في نفسه لما فيه من الورع أما أن يلزم العامة به ويعتبره منهجاً في الفتوى فأمر قد يفضي إلى الضيق والحرج الذي نفاه الله - تعالى - عن هذا الدين الحنيفº من هنا جاء هذا البحث المتواضع يحاول أن يرسم فيه الباحث منهج الإسلام في التيسير ويقدم ما استطاع من الأدلة النظرية والعملية عليه راجيا المولى- تبارك وتعالى -أن ينفع به.

 

أولا ً: نصوص التيسير من القرآن:

1 - قال - تعالى -: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر(185) {البقرة: 185}.

قال القرطبي: \"اليسر الفطر في السفر و العسر الصوم في السفر والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين كما قال - تعالى -: {وما جعل عليكم في الدين من حرج } {الحج: 78}(1).

وقال: \"واليسر من السهولة ومنه اليسار للغني وسميت اليد اليسرى تفاؤلاً، أو لأنه يسهل له الأمر بمعاونتها لليمنى، قولان. وقوله: {ولا يريد بكم العسر} هو بمعنى قوله: {يريد الله بكم اليسر} فكرر تأكيداً\"(2).

2 - قال - تعالى -: {يريد الله أن يخفف عنكم } {النساء: 28}.

قال ابن كثير: يريد الله أن يخفف عنكم أي: في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم، ولهذا أباح الإماء بشروط كما قال مجاهد وغيره، وخلق الإنسان ضعيفاً فناسبه التخفيفº لضعفه في نفسه، وضعف عزمه وهمته\"(3).

قال الطبري: يعني جل ثناؤه بقوله: {يريد الله أن يخفف عنكم} يريد الله أن ييسر عليكم\"(4).

3 - قال - تعالى -: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} {الحج: 78}.

4 - قال - تعالى -: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} {المائدة: 6}.

قال القرطبي: قوله - تعالى -: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج أي: من ضيق في الدين، دليله قوله - تعالى -: وما جعل عليكم في الدين من حرج 78 {الحج: 78} و من صلة أي ليجعل عليكم حرجاً ولكن يريد ليطهركم أي: من الذنوب...وقيل: من الحدث والجنابة، وقيل: لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة... وليتم نعمته عليكم أي: بالترخيص في التيمم ثم المرض والسفر، وقيل بتبيان الشرائع، وقيل بغفران الذنوب\"(5).

وقال الطبري: \" يعني جل ثناؤه بقوله: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم والغسل من جنابتكم والتيمم صعيداً طيباً ثم عدمكم الماء ليجعل عليكم من حرج ليلزمكم في دينكم من ضيق ولا ليعنتكم \"(6).

وقال ابن كثير: \"وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج أي: في الدين الذي شرعه لكم ولكن يريد ليطهركم فلهذا أباح التيمم إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون, ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم دون سائر الأمم... \"(7).

وقال أيضاً: وما جعل عليكم في الدين من حرج أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً وفي السفر تقصر إلى اثنتين وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة كما ورد به الحديث وتصلى رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالساً فإن لم يستطع فعلى جنبه ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات\"(8).

 

ثانياً: نصوص التيسير من السنة:

قوله {: \"بعثت بالحنيفية السمحة\"(9).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله {: \"إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة\"(10).

وقال رسول الله {: \"يسروا ولا تعسروا\"(11).

وروى أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعاً: \"إن هذا الدين يسر\"(12). وروى الشيخان عن عائشة-رضي الله عنها-:  \"ما خير رسول الله {بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً\"(13).

وفي الحديث: \" إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه\"(14).

وهناك أحاديث غير ذلك كثير يرجع إليها في مظانها.

 

ثالثاً: القواعد الأصولية في التيسير.

من القواعد الفقهية الكبرى: \"المشقة تجلب التيسير\"

قال السيوطي في شرح هذه القاعدة: \" قال العلماء يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، واعلم أن التخفيف في العبادات وغيرها سبعة:

الأول: السفر، قال النووي: ورُخَصُه ثمانية، منها ما يختص بالطويل قطعاً، وهو القصر والفطر والمسح أكثر من يوم وليلة، ومنها ما لا يختص به قطعاً وهو ترك الجمعة وأكل الميتة، ومنها ما فيه خلاف، والأصح اختصاصه به وهو الجمع، ومنها ما فيه خلاف والأصح عدم اختصاصه به، وهو التنقل على الدابة، وإسقاط الفرض بالتيمم واستدرك ابن الوكيل رخصة تاسعة صرح بها الغزالي وهي: ما إذا كان له نسوة وأراد السفر فإنه يقرع بينهن ويأخذ من خرجت لها القرعة ولا يلزمه القضاء لضراتها إذا رجع وهل يختص ذلك بالطويل وجهان أصحهما لا.

الثاني: المرض، ورخصه كثيرة، التيمم عند مشقة استعمال الماء، وعدم الكراهة في الاستعانة بمن يصب عليه أو يغسل أعضاءه، والقعود في صلاة الفرض، وخطبة الجمعة، والاضطجاع في الصلاة، والإيماء، والجمع بين الصلاتين على وجه، اختاره النووي والسبكي والأسنوي والبلقيني، ونقل عن النص وصح فيه الحديث وهو المختار والتخلف عن الجماعة والجمعة مع حصول الفضيلة كما تقدم، والفطر في رمضان، وترك الصوم للشيخ الهرم مع الفدية والانتقال من الصوم إلى الإطعام في الكفارة والخروج من المعتكف، وعدم قطع التتابع المشروط في الاعتكاف والاستنابة في الحج وفي رمي الجمار، وإباحة محظورات الإحرام مع الفدية والتحلل على وجه، فإن شرطه فعلى المشهور والتداوي بالنجاسات وبالخمر على وجه، وإساغة اللقمة بها إذا غص بالاتفاق وإباحة النظر حتى للعورة والسوأتين

الثالث: الإكراه.

الرابع: النسيان.

الخامس الجهل.

السادس: العسر وعموم البلوى. كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها، كدم القروح والدمامل والبراغيث والقيح والصديد، وقليل دم الأجنبي وطين الشارع، وأثر نجاسة عسر زواله وذرق الطيور إذا عم في المساجد والمطاف، وما يصيب الحب في الدوس من روث البقر وبوله، ومن ذلك العفو عما لا يدركه الطرف وما لا نفس له سائلة وريق النائم وفم الهرة، ومن ثم لا يتعدى إلى حيوان لا يعم اختلاطه بالناس كما قال الغزالي، وغبار السرجين ونحوه، وقليل الدخان أو الشعر النجس ومنفذ الحيوان، ومن ثم لا يعفى عن منفذ الآدمي، لإمكان صونه عن الماء ونحوه، وروث ما نشوءه في الماء، والمائع وما في جوف السمك الصغار على وجه اختاره الروياني، ومن ذلك مشروعية الاستجمار بالحجر، وإباحة الاستقبال والاستدبار في قضاء الحاجة في البنيان، ومس المصحف للصبي المحدث ومن ثم لا يباح له إذا لم يكن متعلماً كما نقله في المهمات عن مفهوم كلامهم, وجواز المسح على العمامة لمشقة استيعاب الرأس، ومسح الخف في الحضر لمشقة نزعه في كل وضوء، ومن ثم وجب نزعه في الغسل لعدم تكرره، وأنه لا يحكم على الماء بالاستعمال ما دام متردداً على العضو، ولا يضره التغيير بالمكث والطين والطحلب، وكل ما يعسر صونه عنه، وإباحة الأفعال الكثيرة والاستدبار في صلاة شدة الخوف، وإباحة النافلة على الدابة في السفر وفي الحضر على وجه وإباحة القعود فيهما مع القدرة وكذا الاضطجاع والإبراد بالظهر في شدة الحر، ومن ثم لا إبراد بالجمعة لاستحباب التبكير إليها، والجمع في المطر، وترك الجماعة والجمعة بالأعذار المعروفة، وعدم وجوب قضاء الصلاة على الحائض، لتكررها بخلاف الصوم وبخلاف المستحاضة لندرة ذلك، وأكل الميتة ومال الغير مع ضمان البدل إذا اضطر، وأكل الولي من مال اليتيم بقدر أجرة عمله إذا احتاج، وجواز تقديم نية الصوم على أوله، ونية صوم النفل بالنهار، وإباحة التحلل من الحج بالإحصار والفوات، ولبس الحرير للحكة والقتال، وبيع نحو الرمان والبيض في قشره، والموصوف في الذمة وهو السَّلم، مع النهي عن بيع الغرر والاكتفاء برؤية ظاهر الصبرة وأنموذج المتماثل، وبارز الدار عن أسها ومشروعية الخيار لما كان البيع يقع غالباً ترو ويحصل فيه الندم فيشق على العاقد، فسهل الشارع ذلك عليه بجواز الفسخ في مجلسه، وشرع له أيضاً شرطه ثلاثة أيام، ومشروعية الرد بالعيب، والتحالف، والإقالة، والحوالة، والرهن، والضمان، والإبراء، والقرض، والشركة، والصلح، والحجر، والوكالة، والإجارة، والمساقاة، والمزارعة، والقراض، والعارية، والوديعة، للمشقة العظيمة في أن كل أحد لا ينتفع إلا بما هو ملكه، ولا يُستوفي إلا ممن عليه حقه، ولا يأخذه إلا بكماله، ولا يتعاطى أموره إلا بنفسه، فسهل الأمر بإباحة الانتفاع بملك الغير، بطريق الإجارة أو الإعارة أو القراض وبالاستعانة بالغير وكالة وإيداعاً وشركة وقراضاً، ومساقاة، وبالاستيفاء من غير المديون حوالة، وبالتوثق على الدين برهن وضامن وكفيل وحجر، وبإسقاط بعض الدين صلحاً أو كله إبراء.

ومن التخفيف: جواز العقود الجائزة، لأن لزومها يشق، ويكون سبباً لعدم تعاطيها ولزوم اللازم، وإلا لم يستقر بيع ولا غيره. ومنه: إباحة النظر عند الخطبة وللتعليم والإشهاد والمعاملة والمعالجة وللسيد، ومنه: جواز العقد على المنكوحة من غير نظر، لما في اشتراطه من المشقة التي لا يحتملها كثير من الناس في بناتهم وأخواتهم من نظر كل خاطب، فناسب التيسير لعدم اشتراطه، بخلاف المبيع، فإن اشتراط الرؤية فيه لا يفضي إلى عسر ومشقة. ومنه: إباحة أربع نسوة فلم يقتصر على واحدة، تيسيراً على الرجال وعلى النساء أيضاً لكثرتهن، ولم يزد على أربع لما فيه من المشقة على الزوجين في القسم وغيره. ومنه: مشروعية الطلاق، لما في البقاء على الزوجية من المشقة عند التنافر، وكذا مشروعية الخلع، والافتداء والفسخ بالعيب ونحوه، والرجعة في العدة لما كان الطلاق يقع غالباً بغتة في الخصام، ويشق عليه التزامه، فشرعت له الرجعة في تطليقتين، ولم تشرع دائماً لما فيه من المشقة على الزوجة، إذا قصد إضرارها بالرجعة والطلاق، كما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ. ومنه: مشروعية الإجبار على الوطء في المولى. ومنه: مشروعية الكفارة في الظهار واليمين، تيسيراً على المكلفين، لما في التزام موجب ذلك من المشقة عند الندم، وكذا مشروعية التخيير في كفارة اليمين لتكرره، بخلاف كفارة الظهار والقتل والجماع لندرة وقوعها ولأن المقصود الزجر عنها ومشروعية التخيير في نذر اللجاج، بين ما التزم، والكفارة لما في الالتزام بالمنذور لجاجاً من المشقة. ومنه: مشروعية التخيير بين القصاص والدية تيسيراً على هذه الأمة، على الجاني والمجني عليه وكان في شرع موسى عليه، السلام القصاص متحتماً ولا دية، وفي شرع عيسى - عليه السلام - الدية ولا قصاص. ومنه: مشروعية الكتابة ليتخلص العبد من دوام الرق، لما فيه من العسر فيرغب السيد الذي لا يسمح بالعتق مجاناً بما يبذل له من النجوم ومنه: مشروعية الوصية عند الموت، ليتدارك الإنسان ما فرط منه في حال الحياة، وفسح له في الثلث دون ما زاد عليه، دفعاً لضرر الورثة، فحصل التيسير ودفع المشقة في الجانبين. ومنه: إسقاط الإثم عن المجتهدين في الخطأ والتيسير عليهم بالاكتفاء بالظن، ولو كلفوا الأخذ باليقين لشق وعسر الوصول إليه، فقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه.

السبب السابع: النقص، فإنه نوع من المشقة إذ النفوس مجبولة على حب الكمال، فناسبه التخفيف في التكليفات، فمن ذلك عدم تكليف الصبي والمجنون، وعدم تكليف النساء بكثير مما يجب على الرجال، كالجماعة والجمعة والجهاد والجزية، وتحمل العقل وغير ذلك وإباحة لبس الحرير وحلي الذهب وعدم تكليف الأرقاء بكثير مما على الأحرار، ككونه على النصف من الحر في الحدود والعدد وغير ذلك... \"(15).

 

ضوابط المشقة التي تجلب التيسير:

ذكر في المنثور ثلاثة ضوابط للمشقة(16):

الأول: أن تكون المشقة ووقوعها عاماً فلو كان نادراً لم تراع المشقة فيهº ولهذا تتوضأ المستحاضة لكل فريضة.

الثاني: المشقة يختلف ضابطها باختلاف أعذارها، ففي التيمم يعدل عن الماء إذا خاف إتلاف منفعة عضو أو بطء البرء أو شيئاً فاحشاً في عضو ظاهر... وقال الرافعي: شرط المرض أن يكون شديداً.

.. وقال الشيخ عز الدين في القواعد: من المشكل ضبط المشقة المقتضية للتخفيف كالمرض في الصوم.

الثالث: من خفف عنه للمشقة، لو تكلف وفعل صح إذا لم يخش الهلاك أو الضرر العظيم، كالمريض يتحمل المشقة في حضور الجمعة، والفقير يتحمل المشقة بحضور عرفات، وسقط عنه الفرض فإذا خشي ذلك فذكر الغزالي في المصفى والجرجاني في التحرير في المريض يريد الصوم وهو بهذه الحالة أنه يجب عليه الفطر، فإن صام عصى، قال الغزالي: ويحتمل أن لا ينعقد لأنه عاص به فكيف يتقرب بما يعصى به.

 

رابعاً: الرخص وعلاقتها بالتيسير.

عرف بعضهم الرخصة والعزيمة بقوله:

\" العزيمة لغة: القصد المؤكد، وشرعاً الحكم الثابت بدليل شرعي خلا عن معارض\"(17).

والرخصة لغة: السهولة، وشرعاً: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وقيل: استباحة المحظور مع قيام السبب الحاظر، وقال الآمدي: الرخصة ما شرع لعذر مع قيام السبب المحرم وقال القرافي: هي جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعاً والمعاني متقاربة\"(18).

 

وقال ابن بدران:

\" العزيمة لغة: القصد المؤكد، وشرعاً: هي الحكم الثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح، فقولنا: (الحكم الثابت بدليل شرعي) يتناول الواجب والمندوب وتحريم الحرام وكراهة المكروه فالعزيمة واقعة في جميع هذه الأحكام...

وقولنا: (بدليل شرعي) احتراز عما ثبت بدليل عقلي، فإن ذلك لا تستعمل فيه العزيمة والرخصة، وقولنا (خال من معارض راجح) احتراز عما ثبت بدليل شرعي، لكن لذلك الدليل معارض مساو أو راجح كتحريم الميتة، ثم عدم المخمصة هو عزيمة، لأنه حكم ثابت بدليل خلا عن معارض، فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التحريم، وهو راجح عليه حفظاً للنفس فجاز الأكل وحصلت الرخصة(19).

\" والرخصة لغة: السهولة، وشرعاً: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وقال العسقلاني في شرح مختصر الطوفي: أجود ما يقال في الرخصة ثبوت حكم لحالة تقتضيه مخالفة مقتضى دليل يعمها، وذكر ابن حمدان هذا الحد في مقنعه، ومن الرخصة ما هو واجب، كأكل الميتة للمضطر، ووجوبه على الصحيح الذي عليه الأكثر، ومنها: ما هو مندوب كقصر المسافر الصلاة إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع، ومنها: ما هو مباح كالجمع بين الوقوف بعرفة ومزدلفة وكذا بيع العرايا\"(20).

وقال الآمدي:

أما العزيمة ففي اللغة: الرقية، وهي مأخوذة من عقد القلب المؤكد على أمر ما.

وأما في الشرع: فعبارة عما لزم العباد بإلزام الله - تعالى -كالعبادات الخمس ونحوها.

وأما الرخصة في اللغة: بتسكين الخاء فعبارة عن التيسير والتسهيل، وأما في الشرع: فالرخصة ما جاز فعله لعذر مع قيام السبب المحرم(21).

وقال الغزالي:

\" اعلم أن العزم عبارة عن القصد المؤكد... والعزيمة في لسان حملة الشرع: عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله - تعالى -.

والرخصة في اللسان: عبارة عن اليسر والسهولة، يقال رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء، وفي الشريعة: عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم\"(22).

 

ضوابط التيسير:

- أن يعتمد على دليل.

- أن يكون له سبب.

- ألا يكون فيه اتباع للهوى قال - تعالى -: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه 23 {الجاثية: 23}. وقال: فلا وربك لا يؤمنون حتى\" يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما 65 {النساء: 65} وقال {: \"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به\"(23).

- ألا يكون فيه تتبع رخص المذاهب أو العلماء والفقهاء:

ومن أوضح الأمثلة على ذلك، ما جاء في باب النكاح من شروط صحة الزواج، فالفقهاء يشترطون لصحته شروطاً منها: (24).

- التأبيد في الصيغة: (لم يشترط ذلك الشيعة الإمامية).

- الشهود: (لم يشترط ذلك الشيعة الإمامية أيضاً).

- الرضى بين الطرفين: (لم يشترط ذلك الحنفية).

- المهر: (لم يشترطه إلا المالكية).

- الإعلان: (لم يشترطه إلا المالكية أيضاً).

- الولي: (لم يشترط ذلك الحنفية).

فلو نكح رجل امرأة بلا رضاها، ولا إذن وليها، ولم يشهد على ذلك، ولم يعلن النكاح، ولم يعطها مهراً، وخلا العقد عن صيغة التأبيد!! فهل يعتبر هذا نكاحاً أم سفاحاً؟! لا يشك عاقل أنه سفاح حتى وإن قال بعدم شرطية هذه الشروط بعض الفقهاء، لكنها لم تجتمع في مذهب من المذاهبº ولهذا قالوا: من تتبع رخص العلماء تزندق!

\" فروى عبد الله بن أحمد عن أبيه قال سمعت يحيى القطان يقول: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة بقول أهل المدينة في السماع - يعني في الغناء - وبقول أهل الكوفة - في النبيذ - وبقول أهل مكة - في المتعة - لكان فاسقاً... ولو أن رجلا ًأخذ بقول أهل المدينة في السماع يعني الغناء، وإتيان النساء في أدبارهن، وبقول أهل مكة في المتعة والصرف وبقول أهل الكوفة في المسكر، كان شر عباد الله - عز وجل -. وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم، أو قال بزلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله\"(25).

وقال ابن القيم: \" لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه، فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استحب، وقد أرشد الله - تعالى - نبيه أيوب - عليه السلام - إلى التخلص من الحنث، بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة حصول واحدة، وأرشد النبي {بلالاً إلى بيع التمر بدراهم، ثم يشترى بالدراهم تمراً آخر، فيتخلص من الربا فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم وقد ذكرنا من النوعين ما لعلك لا تظفر بحملته هذا الكتاب، والله الموفق للصواب\"(26).

- ألا يكون فيه إثم:

فعن عائشة زوج النبي {أنها قالت: \" ما خُير رسول الله {بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله {لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله - عز وجل -\"(27).

ومن خلال معرفة ضوابط التيسير، ندرك يقيناً أن هناك فرقاً كبيراً بين التيسير الذي ينبني على ضوابط، وبين التساهل الذي لا يكون إلا باتباع الهوى، أو الجهل بأحكام الشرع الحنيف، أو فيه تتبع لرخص المذاهب وفتاوى العلماء، كما أنه يخلو من الدليل الشرعي، ولا يكاد يخلو من الإثم.

ويمكن تلخيص أهم النتائج في النقاط التالية:

- أن التيسير في الفقه والدين، هو منهج الإسلام، وليس من ابتداع عالم أو فقيه من السلف أو الخلف.

- أن هناك نصوصاً كثيرة من القرآن والسنة تدل على التيسير.

- أن القواعد الأصولية والفقهية جاءت مؤيدة لهذا المنهج الإسلامي.

- أن أبواب الرخص - والتي لا تحصى في الفقه - كلها مبنية على مبدأ التيسير.

- أن التيسير له ضوابط، فليس لكل أحد أن يفتي ويرخص للناس، بحجة التيسير دون أن يكون له علم وفقه.

- أن هناك فرقاً كبيراً بين التيسير والتساهل.

- أن المسائل التي ورد فيها النص بالتيسير في أبواب الفقه لا تكاد تحصى.

والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

 

---------------------------------------------------------

1-الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2-301.

2-الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2-301.

3- تفسير ابن كثير ج: 1 ص: 480.

4- تفسير الطبري ج: 5 ص: 29.

5- تفسير القرطبي ج: 6 ص: 108.

6- تفسير الطبري ج: 6 ص: 137.

7- تفسير ابن كثير ج: 1 ص: 506.

8- تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 237.

9- مسند أحمد 5-266 مؤسسة قرطبة.

10- مجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي 1-60 طبعة دار الريان للتراث، القاهرة 1407.

11- رواه البخاري 1-38 ومسلم 3-1359.

12- رواه البخاري 1-23.

13- البخاري 3-1306 ومسلم 4-1813.

14- مجمع الزوائد 3-162.

15- الأشباه والنظائر ج: 1 ص: 76- 80.

16- المنثور 3 - 171 - 174.

17- القواعد والفوائد الأصولية ج: 1 ص: 114.

18- القواعد والفوائد الأصولية ج: 1 ص: 115.

19- المدخل لابن بدران ج: 1 ص: 166 - 167.

20- المدخل لابن بدران ج: 1 ص: 167.

21- راجع: الإحكام للآمدي ج: 1 ص: 176.

22- المستصفى ج: 1 ص: 78.

23- أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة 1-12 وقال عنه الألباني \" إسناده ضعيف\"وقال النووي في الأربعين النووية \"حسن صحيح\".

24- راجع هذه الشروط في كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي طبعة دار الفكر دمشق، الطبعة الثالثة 1989م (7-83: 64).

25- المسودة ج: 1 ص: 463.

26- إعلام الموقعين ج: 4 ص: 222.

27- صحيح البخاري ج:3 ص: 1306، حديث 3367 وصحيح مسلم ج: 4 ص: 1813 باب مباعدته {للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته حديث 2327.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply