المفتون الصغار


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

لا يخفى على أحد أن للعلم فضلاً كبيراً، وأن للعلماء منزلة عظيمة، فالله جعل لأهل العلم تميزاً عن غيرهم فقال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين آتوا العلم درجات}، وجاء في القرآن أنهم المرجع للإجابة على التساؤلات، والاجتهاد في حل المعضلات {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، ولهذا وصفهم ابن القيم بأنهم: « في الأرض بمنزلة النجوم من السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلمات وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم للطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، ومع ذلك فهذه المنزلة الرفيعة خطيرة إذ بأقوال العلماء تستحل الفروج، وتضرب الرقاب، وتؤخذ الحقوق، ثم هم في منصب التوقيع عن رب العالمين، فهي مهمة كبرى تحتاج إلى علم عميق وورع دقيق ».

واليوم نبتت نابتة غريبة معزولة عن هذا الفضل، بعيدة عن هذا الفهم، تتجسد في بعض الشباب- هداهم الله- الذين يمارسون الإفتاء وأحدهم لا يحسن تلاوة القرآن، ولا يحفظ الحديث، ولا يعرف القياس، ولا يحسن الاجتهاد، وأسوق إليهم قول الشافعي: « لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله- صلى الله عيه وسلم-، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي ».

والعجب أنك تجد عند بعضهم جرأة على الفتوى، ويقدم عليها وهي عنده مثل شرب الماء أو تنفس الهواء، ولا يدرك خطورتها ولا يستشعر عظمتها، كما استشعرها محمد بن المنكدر حين قال: « إن العالم بين الله وبين خلقه فينظر كيف يدخل بينهم »، وفي رواية: « فليطلب المخرج »، وأعجب من جرأتهم لتسابقهم إلى الفتيا فقد تطرح المسألة في مجلس فلا ينتظر أحدهم الآخر أو يقدمه بل يتسابقون في الإجابة، يصلك من أحدهم الجواب قبل أن تكمل السؤال وما علموا أن الصحابة والتابعين كانوا يتدافعون الفتوى فيما بينهم يود كل منهم لو أن صاحبه كفاه، وأعجب من هذا وذاك أنهم جاهزون دائماً وعندهم لكل سؤال جواب ولكل مشكلة حل، فهم مستعدون للإجابة والإفادة في كل مجال وعلى كل سؤال، وأذكرهم بقول ابن عباس بقوله: « من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون »، وقل أن تسمع من هؤلاء كلمة « لا أدري » ومن هنا تعظم المصيبة التي صورها لنا ابن عباس بقوله: « إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله »، وأقول فكيف إذا أغفلها الجاهل؟ وأعجب العجب أن تجد عندهم اعتدادا برأيهم، واستقلالاً بعلمهم فهم لا يحتاجون لمراجعة ولا يفتقرون لمشورة، فالقضايا الخطيرة التي قد يتحير فيها العلماء، ويراجعون لبحثها الكتب، ويطلبون الآراء، ويعقدون المجالس، يمكن أن يجيبك عنها أحدهم بكل سهولة وهو متكئ على أريكة، أو أثناء تناوله للطعام أو لبسه للحذاء، ولست أدري ماذا يقول أبو حصين لو رأى هذا الحال وهو الذي قال عن زمنه:« إن أحدهم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر »، ولا ينقضي العجب من صور وآثار هذا المرض العضال.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply